لطالما رافق المقروض القيرواني، موائد التونسيين في احتفالاتهم وفي تكريمهم ضيوفهم. لكن اليوم، تشكو المتاجر التي تبيعه من قلة الحيلة، إذ لا يبدو أن تجار الحلويات وصنّاعها في محافظة القيروان، في مأمن من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس. فبينما تختفي سلع من الأسواق، تتسع قائمة المواد المفقودة، وعلى رأسها مادتا السكر والدقيق ومكونات أخرى، وتُعدّ حاجةً ملحّةً لصانع المقروض لينال مبتغاه بصناعة الحلوى الثمينة.
المقروض... تقليد قيرواني عريق
تُعدّ صناعة المقروض القيرواني الأصيل، أو حلويات الأغالبة نسبةً إلى دولة الأغالبة في القيروان (القرن الثامن ميلادي)، من الحِرف التي أسهمت في تنشيط الحركة الاقتصادية في الجهة، ومكّنت من توفير طاقة تشغيلية محترمة بلغت نحو 2،000 موطن شغل، ودخلت إلى مجال التعليب والتصدير برغم ما تحتاجه من اهتمام وتأهيل وإحاطة بالحرفيين والصناعيين الذين يصل عددهم حسب الإحصائيات الرسمية، إلى 850 عاملاً في قرابة 190 محلاً لبيع المقروض.
كما تصدّر هذا المجال رغبات الزائرين والمستهلكين واهتماماتهم، الذين تتضاعف أعدادهم في المناسبات والأعياد، كما يتزايد عدد العمال. وبرغم أن هذه الصنعة أصبحت متداولةً في مدن تونسية عدة، إلا أنها ظلّت سمةً تميّز عادات وتقاليد عاصمة الأغالبة؛ فلا يخلو بيت من المقروض القيرواني، ولا تحلو مناسبة من دون أن يزيّن الأطباق ويتصدر قائمة الحلويات.
تُعدّ صناعة المقروض القيرواني الأصيل، أو حلويات الأغالبة نسبةً إلى دولة الأغالبة في القيروان (القرن الثامن ميلادي)، من الحِرف العريقة في تونس
يتمسك عدد كبير من القيروانيين بعادات الأجداد طوال السنة، خاصةً خلال شهر رمضان، إذ توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، واكتسحت هذه الصنعة الأسواق المحلّية وانتشرت في واجهة المحال شتى أنواع المقروض المنمّق بالتمور أو اللوز... إلخ، إذ لا يغيب عن طاولة إفطار أو جلسة مرح.
يقول مهدي بن سكرانة، صاحب أحد أكثر المحال شهرةً في محافظة القيروان، ويعود تاريخه إلى عام 1925، لرصيف22: "تمثّل صناعة حلويات المقروض إحدى الميزات والعناصر الثقافية لمحافظة القيروان، وهي صنعة وحرفة توارثتها عائلتنا وساهمت إلى حد كبير في نشرها وتطويرها حتى أصبح المقروض علامةً بارزةً في الموروث الثقافي القيرواني خصوصاً، والتونسي عموماً".
يعود بنا محدثنا إلى الأصول الأولى لهذا الموروث، قائلاً: "تعود صناعة المقروض إلى قرابة 13 قرناً، ولا يوجد تاريخ زمني محدد. البعض يعدّها صناعةً عربيةً بحتةً كونها تعتمد على الدقيق والتمر والزيت، وهي المواد التي كانت متوفرةً آنذاك في بعض الدول كالعراق والسعودية ودول خليجية أخرى، وتُصنَع منها حلوى تشبه نوعاً ما المقروض القيرواني حتى وإن اختلفت في المذاق وطرق الإعداد. كما أن هناك من يصنّفها كحلوى بربرية أو أندلسية".
حلوى الأفراح الحلوة
أما عن مكونات المقروض وطريقة صناعته، فيتكون، حسب محدثنا، من سميد رقيق يطلَق عليه باللهجة المحلية "خمسة يسي"، يتم خلطه بزيت يفضَّل أن يكون زيت الزيتون ويضاف إليهما السكّر، ثم يُحشى العجين بالتمر، ومن ثم يُطرَح ويقطَّع ويُقلى في الزيت ويغمَّس في العسل، وقد تضاف إليه بعض الفواكه الجافة.
بمكوناته الحلوة فإن المقروض التونسي يعتبر حلوى الأفراح والاحتفالات بامتياز ويعشق التونسيون من الداخل والخارج اقتناءه في كل زيارة إلى القيروان
لا تقف صناعة المقروض عند الطريقة التقليدية، بل طوِّر وأدخلت عليه إضافات جديدة منها حشو العجين بالطحينية، واللوز، والفستق، والجلجلان (السمسم). كما أن عملية القلي لا تقف عند نوع من الزيوت، فهناك المقروض المقلي بزيت الزيتون، والمقروض المقلي بالسمن الطبيعي المستخرَج من حليب الأبقار ونسمّيه "الزمني"، بمعنى أنه يعود إلى عهود غارقة في القدم، وهو معدّ بزيت الزيتون والسّمن، ويتضاعف الطلب عليه ويلقى رواجاً كبيراً.
أزمة السكّر تهدّد المقروض
يعاني التونسيون، منذ أشهر، من نقص كبير في المواد التموينية الأساسية على غرار السكّر والحليب والأرز، وتقول السلطة إن سبب ذلك عدم التزام المزوّدين الخارجيين بتسليم الشحنات في مواعيدها، واعدةً بتجاوز النقص الحاصل.
كما تشهد المحال في القيروان نقصاً كبيراً في العرض والطلب، ويشتكي أصحاب محال بيع المقروض والمرطبات وأصحاب المقاهي من النقص الفادح المسجل في مادة السكّر، الذي أضرّ بمصالحهم وبموارد رزق مئات العائلات من ذوي العاملين في القطاع.
عدد كبير من أصحاب محال المقروض، اضطروا إلى إيقاف نشاطهم بسبب عجزهم عن تلبية طلبات زبائنهم
أكد عدد كبير من أصحاب هذه المحال، أنهم اضطروا إلى إيقاف نشاطهم بسبب عجزهم عن تلبية طلبات زبائنهم، مطالبين الجهات المعنية بالتدخل لتوفير مادّة السكّر ومواد أساسية أخرى على غرار السميد والزيت والطحين، لإنقاذ هذا القطاع، خاصةً مع اقتراب شهر رمضان وعيد الفطر اللذين يُعدّان مناسبتين مهمتين بالنسبة إليهم لتنشيط تجارتهم.
يبدي مهدي بن سكرانة، تخوفاً من تواصل هذه الأزمة خاصةً مع ما قد تؤول إليه الأوضاع في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، فـ"متاجر الحلويات في معظمها تبدّل من نشاطها في شهر رمضان، وتبيع الزلابية والمخارق والمقروض التونسي، مع ازدياد الطلب على هذا النوع من الحلويات، ويبدو أن الأزمة ستشتد وسيتضرر القطاع أكثر وربما سنضطر إلى التقليل من عدد الزبائن أو إغلاق المحال في حال عجزنا عن توفير المواد الأساسية".
صراع شرس للبقاء
لا يقتصر الرهان على الأزمة الاقتصادية، بل يمتد إلى "أزمة وجود". في محاولة للحفاظ على خصائص هذا الموروث التقليدي العريق في ظل بروز أصناف أخرى من الحلويات المنافسة، كالبقلاوة والزلابية والقطايف، يرى بن سكرانة، أن "حرص أهل الصنعة على الإبقاء على هذا المنتج طازجاً ليس من باب الحيلولة دون أن يتحول إلى حلويات معلبة ومحفوظة، وإنما يعود الأمر إلى تقاليد التونسي في استهلاك المقروض، فهو يريده ساخناً وأن يُعدّ على مرأى من عينيه. وأخيراً هي حرفة تقليدية ولا بد من أن تباع بطريقة تقليدية".
"كما يتميز المقروض بقدرته على الحفاظ على نكهته لمدة شهر كامل من دون أن يعتريه التلف، ومن دون مزجه بأي مواد حافظة أو إبقائه في الثلاجة"، ويضيف أن الزبائن يظلون في حيرة أمام إغراء أكداس المقروض الذي لا يقاوَم، حتى أن التجار من غير أهل الاختصاص يأتون من مدن ومناطق وأقاليم أخرى لشراء المقروض، ناهيك عن زبائننا من أوروبا لا سيما في فرنسا وألمانيا. ويمكنني القول إن مقروضنا وصل إلى كافة بقاع العالم، ولا يوجد مكان في العالم لا يعرف أو لم يسمع بمقروض القيروان.
نحن لا نعمل لغاية ربحية وإنما للزمن ومن يعمل على المدى الطويل لا يفكر في الغش
وكما يشكو جميع أهل الاختصاص في كل حرفة أو مهنة، من أمر "الدخلاء" على الصنعة فهذا حال صناع المقروض التونسي، إذ يرى الصنّاع أن القيروان كانت تحظى في السابق بأربع عائلات حرفية فقط، وهي أقدم الأسر الصنائعية المعروفة، وهي: بن سكران، بن حافة، السقني، والبراق.
لكن اليوم تزايدت أعداد الحرفيين الذين ينافسونهم، وكانوا جلّهم صناعاً يعملون لدى هذه العائلات، ثم قرروا فتح محال لصالحهم واستدعوا آخرين لقّنوهم الصنعة وهكذا تكاثر صنّاع المقروض. وفيما يرى البعض في هذا منافسةً لصالح الزبون، يرى البعض أنه يأتي على حساب الجودة، إذ لا يحافظ بعض الحرفيين الجدد على تقاليد المهنة وسرّ الوصفات، بحسب منتقديهم.
في المقابل، لا يعتقد أهل الصنعة أن بضاعتهم في حاجة إلى الإعلان، لأنها حسب تعبيرهم أشهر من نار على علم، ويقولون: "إعلاناتنا هي جودة صنعتنا، فمن يقتنِ مرةً واحدةً تتحقق له القناعة بصحة اختياره. فنحن لا نعمل لغاية ربحية وإنما للزمن ومن يعمل على المدى الطويل لا يفكر في الغش".
نُذُر أزمة... وخبراء يحذّرون
مع اقتراب شهر رمضان، يحذّر خبراء اقتصاديون من تسجيل نقص في العديد من المواد الأساسية، من بينها السكّر والطحين، موضحين أن مشكلات الإمداد الدولية سرّعت وتيرة الأزمة التي لها أسباب محليّة بالأساس بسبب صعوبات مالية تعيشها الدولة.أوضح الخبير الاقتصادي عز الدين حديدان، لرصيف22، أن النقص سببه ضعف مخزون العملة الصعبة، وعدم قدرة الدولة على دفع ثمن السلع المستوردة، مثل الحبوب أو الزيوت، معتقداً أن الحكومة باتت عاجزةً عن تزويد السوق بكل المنتجات في الآن نفسه، وسط تأكيدات بأن المزوّدين الدوليين فقدوا ثقتهم بتونس، وباتوا يطالبون بدفع مستحقاتهم وكلفات النقل مسبقاً.
برغم تطمينات الحكومة التونسية، لم يعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الشغل الشاغل لأهالي محافظة القيروان، في ظل أزمة جديدة تتعلق بفقدان مواد أساسية يعول عليها الحرفيون والتجار في مواسم معينة، كشهر رمضان والأعياد وغيرها من المناسبات، لضمان سيرورة عملهم ومنع فرضية اندثار ذاك الموروث الثقافي التونسي "المقروض"، معلّقين آمالهم على أن لا تُحكِم هذه الأزمة قبضتها على البلاد والعباد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...