نتعامل مع التاريخ وندرسه في المدارس والجامعات من خلال الالتزام بالرواية الرسمية المتداولة والمُصَدَّق عليها من جيل إلى جيل، حتى وإن كانت غير دقيقة، وأحياناً غير حقيقية. أما الرواية التاريخية، فهي تشكيل للمادة التاريخية بطريقة فنية من دون المساس بجوهر الحدث التاريخيّ ومضمونه، وتكثيف للأحداث المتعلقة بفترة زمنية محددة، مع تركيز على الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الفترة، وغالباً ما يكون الدافع لكتابتها محاولة تنقية التاريخ من الكذب والتشويه اللذين لحقا به من أجل مصالح سياسية ما، وهذه مهمة شاقة جداً، بل بالغة الصعوبة، إذ تحتاج إلى دقة وفحص وتمحيص للتأكد من كل كلمة تُكتَب.
فماذا لو كنا في صدد رواية تاريخية تجريبية؟ سوف نتساءل: كيف يمتزج ماضٍ مع حاضر؟ وكيف يندمج عنصر قديم ثابت كالتاريخ، مع آخر حديث، لا يتبع قواعد محددةً؟ إذاً، نحن هنا أمام نوع من الكتابة الشائكة بالمقاييس كلها، بل قد تكون معضلةً كبيرةً كما رآها أحد أبطال الرواية التي نحن في صددها، وهو بطل حقيقي كما جميع أبطال هذه الرواية، وهو المؤرخ المصري الشهير شفيق غربال، الذي احتار مليّاً من أين يبدأ الكتابة وأين ينتهي؟ وأيّ المرويات هي الأصدق، وأيّها هي الملفَّقة؟ بل أي الحوادث الحقيقية والمُثبتة كالغزوات والحملات وربما الحروب، لن تندلع عند ذكرها الأزمات الدبلوماسيَّة والسياسية؟
الرواية مقسمة إلى عشرين فصلاً قصيراً، وهي رواية متعددة الأصوات، وإن سيطر عليها صوت الراوي العليم، لكن كانت هناك طوال الوقت تداخلات لأصوات شخصيات عدة، كالملك فاروق، وإبراهيم باشا، وكاميليا، ويوسف وهبي
يقول الناقد إبراهيم فتحي: "يجعل التجريب الرواية أكثر مرونةً وحريةً وقدرةً على التطور، كما يجدد لغتها، ويُدخِل عليها تعدد الأصوات والانفتاح الدلالي". إذاً، الرواية التاريخية التجريبية أرضها خصبة، ولا تعيقها محددات مروية واحدة فقط، بل هي كتابة حرة غير مكبّلة وغير أحادية الرؤية، لذا تحتمل العديد من التأويلات ووجهات النظر، وهي رواية تُلقي الضوء على شخصية أو شخصيات لم يلقِ التاريخ عليها الضوء الكافي لسبب ما، ولذلك فعبارة "التاريخ حمَّال أوجه" تصلح مدخلاً مناسباً يتأتى منه الولوج إلى رواية محمد عفيفي الأخيرة "سلام على إبراهيم"، الصادرة مطلع هذا العام عن دار الشروق.
ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، والأقوياء كما يقال، لذا فليس من المستبعد أبداً أن يصلنا من دون تزييف، بتجاهله للهامش، وافتقاده الحيادية التي تتمثَّل في النظرة الشاملة التي تحمل العديد من الأوجه ووجهات النظر والرأي والرأي الآخر، فقد التقط الروائي في روايته السابقة "يعقوب"، الشخصية التي تحمل الاسم ذاته، تلك الشخصية الجدلية التي دار حولها لغط كثير مفاده أنها تعاونت مع المحتل فترة الحملة الفرنسية على مصر، وقد خاض غمار تقديمها بجرأة وحيادية تامة، ثم التقط في روايته التالية "سلام على إبراهيم"، شخصية إبراهيم باشا، الابن الأكبر لمحمد علي الكبير، والي مصر، وقد رأى أن الكتابة عنها هي نوع من الإنصاف لشخص لم يعطِه التاريخ ما يستحق من احتفاء وتبجيل كما فعل مع ابنه "إسماعيل"، وربما مع آخرين من الأسرة العلوية. وفي الحالتين، أي سواء مع "يعقوب" الذي تدور حول سيرته الشبهات، أو مع "إبراهيم باشا" المقاتل الصلب والعاشق لمصر والمصريين، سوف تتعاطف كقارئ، وفي الحقيقة لن تصل إلى تلك المرحلة، إن لم يكن قد وصل إليها قبلك المؤلف، الذي يحرص على التعاطف مع أبطاله.
تقع أحداث الرواية في السنة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية (1946)، وتنتهي مع الهزيمة الساحقة في حرب 1948، وتستعرض الشأن السياسي في تلك الفترة المهمة من التاريخ المصري؛ من صراع الوفد مع الملك، الذي لم ينسَ حصار قصر عابدين بالدبابات الإنكليزية لإجباره على إعادة مصطفى النحاس، إلى الوزارة، وكذلك أحمد حسنين باشا الرجل الداهية الذي يتحكَّم بالملك الشاب، ويرتبط بعلاقة عاطفية بأمه الملكة نازلي، وإدراكه بذكائه وحنكته أن شعبية القصر والملك قد بلغت أدنى مستوياتها، فيقرر التأثير على جموع الشعب عن طريق الفانوس السحري: السينما، فيشرع في التجهيز لفيلم عن حياة إبراهيم باشا، جدّ الملك فاروق، ومن خلال مآثر هذا الرجل، سوف تستعيد الأسرة العلوية البريق الذي فقدته باستهتار آخر ملوكها ونزواته. وخلال العمل على سيناريو ذلك الفيلم، تظهر شخصيات حقيقية من أهل التمثيل (يوسف وهبي وكاميليا)، والشعر (أحمد رامي)، والتاريخ (شفيق غربال)، وتحدث بينهم سجالات، وأحياناً صراع، يُكشَف لنا من خلاله عن حقائق مجهولة، وعن تاريخ لم نعرف عنه سوى النزر اليسير.
نحن هنا أمام نوع من الكتابة الشائكة بالمقاييس كلها، بل قد تكون معضلةً كبيرةً كما رآها أحد أبطال الرواية التي نحن في صددها، وهو بطل حقيقي كما جميع أبطال هذه الرواية.
ينبش عفيفي في ما وراء الحدث؛ في المسكوت عنه والمطموس عمداً، في محاولة حثيثة للبحث عن الحقيقة الضائعة والمتوارية وراء الشخصيات التي لطالما قُدِّمَت بشكل ملائكي، وحُلَّة مخملية ناعمة، تلك الحقيقة التي يحاول تقديمها لنفسه أولاً قبل تقديمها إلى القراء، إذ يُلقي الضوء على العلاقة الملتبسة بين محمد علي وابنه إبراهيم باشا، كما يوضح الفارق بين شخصيتيهما في ما يخص علاقة كل منهما بمصر والمصريين؛ فالأول لم يكن يتحدث العربية، وكان يتعالى على المصريين ويحتقرهم، بينما الثاني كان يتحدث العربية ويحب مصر والمصريين، بل قام بتكوين جيش من الفلاحين المصريين، وكان يعدّهم أبناءه، ضارباً بذلك تحذيرات أبيه من عدم اتحاذ المصريين جنوداً خوفاً من انقلابهم عليه، بعرض الحائط. أما في ما يخص الانحياز السياسي لكل منهما، فالأول كان توجهه عثمانيّاً، أما الثاني فكان توجهه عربيّاً، إذ أطلق على نفسه "سرّ عسكر عربستان"، أي قائد جيوش الأراضي العربية.
العلاقة المعقدة، والتي ستتحول إلى غيرة عمياء تصل إلى حد محاولة القتل، بدأت بإرسال محمد علي ابنه إبراهيم إلى إسطنبول ليبقى رهينةً لدى الباب العالي حتى يطمئن السلطان العثماني إلى أن محمد علي سيبقى طوع يمينه، وتلك الحادثة تُذكِّرُنا بأشهر أُضحيات القَصص الديني؛ تضحية النبي إبراهيم بولده إسماعيل، لكن الفارق هنا أن الأخيرة كانت لإرضاء الله وتنفيذاً لأمره، مهما كانت الكلفة، أما الأولى فلم تكن سوى لإرضاء شهوة السلطة لديه، لذا لم يكن من المستغرب حين علا نجم إبراهيم باشا، بعد فتوحاته وانتصاراته العظيمة والمتتالية، أن يشعر أبوه بالغيرة منه، فيحاول قتله، لكنه ينجو من تلك المكيدة بسبب المقربين منه والمحبين له، وهنا أيضاً نتذكر تاريخاً طويلاً جدّاً، شائناً ودموياً، في الأُسَر العثمانية الحاكمة، حيث يقتل الابن أباه، ويتخلص الأخ من إخوته، في سبيل شهوة الحكم!
تُعدّ الرواية -كما ذكرت- إعادة اعتبار وتقييماً منصفاً لإبراهيم باشا الذي قضى ما يقرب من نصف عمره يفتح البلاد شرقاً وغرباً باسم أبيه، فصال وجال في معركة تلو الأخرى في السودان، والجزيرة العربية، وجزيرة كريت، وبلاد الشام، وحتى الأناضول، وكان يبيت في ثكنات الجيش بين جنوده، في أسوأ الظروف، ملتحفاً العراء، حتى أثقلته العلل ومات مبكراً، ويدحض الكاتب تلك الروايات المدسوسة التي تشكك في نَسَبه والتي كان يتبناها ويثيرها عباس، ابن أخيه طوسون، الطامح إلى السلطة.
في رواية قصيرة (نوفيلا)، لا تتعدى المئة وأربع وعشرين صفحةً، قدّم لنا الروائي كرنفالاً كاملاً لفنون الكتابة المختلفة وأساليب السرد المتنوعة في نص جريء في تجريبيته، وعابر للأنواع والتصنيفات الأدبية، نص يحمل تفرّد كاتبه وعشقه لخوض غمار التجريب والبعد عن المألوف السردي. وهنا تحضرني مقولة ميخائيل بختين: "جوهر كل جنس أدبي لا يتحقق ولا يتجلى بعمق إلا في تنوع متغيراته التي يُبدِعها الجنس، موضوع الاشتغال، في أثناء تطوره التاريخي، وكلما توصَّل الكاتب إلى هذا التنوع، يكون عمله أكثر غنى وأكثر توغلاً إلى لغة الجنس، لأن لغة الجنس محدَّدَة وتاريخية".
الرواية مقسمة إلى عشرين فصلاً قصيراً، وهي رواية متعددة الأصوات، وإن سيطر عليها صوت الراوي العليم، لكن كانت هناك طوال الوقت تداخلات لأصوات شخصيات عدة، كالملك فاروق، وإبراهيم باشا، وكاميليا، ويوسف وهبي، ما أكسب النص حيويةً وتدفقاً وديناميكيةً، إذ لا مجال لملل يعتري القارئ، المشحوذ انتباهه بشكل كامل من البداية حتى النهاية.
لم يقف التجريب في هذه الرواية عند استخدام الكاتب وسائط سرديةً متنوعةً، كتعدد الأصوات، ونوعين من السيناريو (بديل ورسمي)، واستشهادات من رسائل ووثائق تاريخية (خطاب محمد علي لولديه إبراهيم وإسماعيل)، بل امتد إلى استخدام الروائيّ للعالَم النسبي المبهَم والمخاتل، والبعيد تماماً عن حقيقة يقينية واحدة، ويمضي التجريب في مسار إدماج الحقيقة بالخيال، والواقع بالوهم (ظهور إبراهيم باشا لشفيق غربال).
حين قراءة هذه الرواية، نتمنى لو أن الكاتب استطاع أن يطيل من زمن روايته وحجمها، لأن قماشتها تتسع لأكثر بكثير مما قدّمه، بل هناك شخوص تاريخية وحكايات مرّ عليها سريعاً، وتصلح لأن تكون أعمالاً قائمةً بذاتها
الرواية التي كتبها عفيفي، والذي يحلم بإخراج فيلم سينمائي يوماً ما، نجح فيها في تقديم رؤيته السينمائية، فظهرت كرواية مشهدية، تتميز بالقطع السريع للمشاهد، وبحركة الكاميرا الرشيقة والمعبرة، وكذلك بما يُسمّى "الظهور المفاجئ"، لشخصية "الصابر" في الفصل الذي يحمل اسمه. وقد استطاع عفيفي ببراعة شديدة أن يجسّد الصوت الأنثوي في شخصية كاميليا، وقليلون هم من يستطيعون ذلك، كما تمكّن تماماً من تجسيد الشخصية المرحة، صاحبة "الإيفيهات" ليوسف وهبي.
حين قراءة هذه الرواية، نتمنى لو أن الكاتب استطاع أن يطيل من زمن روايته، وحجمها، لأن قماشتها تتسع لأكثر بكثير مما قدّمه، بل هناك شخوص تاريخية وحكايات مرّ عليها سريعاً، وتصلح لأن تكون أعمالاً قائمةً بذاتها، تماماً ككمال الطويل، الملحن العبقري المحمَّل بالجنون والمولع بالتجريب، والذي كان توزيع لحن من ألحانه وحواشيه، تصلح لأن تكون لحناً منفصلاً كما قال عبد الحليم حافظ في مذكراته.
وكما أضاف التاريخ لمحمد عفيفي، وكان مَعيناً مهماً وربما وحيداً، ينهل منه موضوعات كتبه وروايتيه، فقد أضاف الكاتب إلى فن الرواية المزيد من التجريب، الذي كما يقول عنه إبراهيم فتحي: "جعل من الشكل الأدبي متطوراً، منفتحاً على الحاضر مستجيباً له، مواصِلاً إعادة التفكير والتقييم دون حسم نهائيّ".
جدير بالذكر أن للدكتور محمد عفيفي مؤلفات عديدة باللغتين العربية والفرنسية، منها: "عرب وعثمانيون"، "شبرا"، "تاريخ آخر لمصر"، ورواية سابقة: "يعقوب"، وهو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر والرئيس السابق لقسم التاريخ في جامعة القاهرة، وقد حصد في مجال العلوم الاجتماعية جوائز الدولة: التشجيعية، والتقديرية، والتفوق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع