من المشكلات التي تُسببها الروايات التاريخية -عن غير عمدٍ- خلط الناس بينها وبين كتب التأريخ، إذ يتعاملون مع الوارد فيها على أنه حقائق تاريخية مثبتة، ويتناسون معيار الأدب وخيال الكاتب والحبكة وخلاف ذلك. كما لا ينتبهون إلى أن الرواية التاريخية تُعنى في الأساس بخلق حكاية مسلّية حول حدث تاريخي كبير، أو فترة تاريخية معينة، وتالياً فالكاتب لا يتدخل في الأحداث التاريخية الكبيرة، ويتدخل في كل ما عداها. لذا لن تجد روايةً تاريخيةً تتحدث عن فوز الصليبيين في حطّين مثلاً، أو فوز دول المحور في الحرب العالمية الأولى، إلا لو كانت روايات فانتازيا تاريخية أو روايات تلعب على فكرة "ماذا لو؟".
ولعل رواية "وا إسلاماه"، للأديب المصري الحضرمي علي أحمد باكثير، من أبرز الأمثلة على هذه المشكلات، إذ تتناول سيرة سيف الدين قطز، وتصدّيه للمغول في معركة عين جالوت. وقد استند فيها باكثير إلى معلومة تاريخية غير مؤكدة عن أصل قطز، وهي أنه الأمير محمود بن ممدود، حفيد علاء الدين خوارزمشاه، ملك الدولة الخوارزمية الذي هُزِم على يد المغول، وأن خاله جلال الدين بن خوازرمشاه، هو من باعه كعبد، عندما رأى المغول على وشك إفناء دولته.
وانتقل محمود الذي تحوّل إلى قطز من عبدٍ إلى ثري شامي، ثم إلى ثري آخر، حتى وصل إلى أن يصبح من مماليك الصالح نجم الدين أيوب، وترقّى في سلك الجندية حتى صار من أمراء المماليك، وبعد ذلك السلطان الثالث للدولة المملوكية.
استند فيها باكثير إلى معلومة تاريخية غير مؤكدة عن أصل قطز، وهي أنه الأمير محمود بن ممدود، حفيد علاء الدين خوارزمشاه، ملك الدولة الخوارزمية الذي هُزِم على يد المغول، وأن خاله جلال الدين بن خوازرمشاه، هو من باعه كعبد
ربما كانت رواية "وا إسلاماه"، من أجمل الروايات التاريخية التي قرأتُ، من حيث الخيال البديع والسرد السلس الممتع. خلق الكاتب شخصيات أضافت أبعاداً مختلفةً إلى الرواية، مثل شخصية "جهاد" ابنة جلال الدين خوارزمشاه، خال قطز، وهي شخصية مختلَقة بالكامل، وليس لها أي أصل تاريخي، وأيضاً شخصية سلامة، الخادم الطيّب الوفيّ الذي تنقل معهما وحاول رعايتهما، إلى جانب خلق علاقات وتضفير بين الشخصيات التاريخية الحقيقية، كالعز بن عبد السلام، وبيبرس، وأقطاي، وأيبك، وشجرة الدر وغيرهم.
لكن الفخ الذي وقعت فيه الرواية، هو مشكلة أحادية الفكر أو النظر، بمعنى تناسي أن هؤلاء الأبطال بشر في الأساس، فبدلاً من أنسنة الأبطال وجعلهم في صراع داخلي دائم بين الخير والشر، انقسموا إلى جانبٍ خيّر وجانبٍ شرير. فرأينا قطز يكاد يكون من المبشَّرين بالجنّة، يرعى الحق في كل تصرفاته، حتى عندما أقدم على تصرف يُمكننا عدّه شراً خالصاً مثل اغتيال أقطاي، جعلنا الكاتب نرى مسوغاتٍ لقطز تحيلنا إلى قناعة بأنه قام بهذا لصالح الدولة والشعب، وليس لصالح ولي نعمته عز الدين أيبك مثلاً! وعندما استولى على السلطنة من الطفل المنصور بن أيبك، كان هذا لصالح الرعية وبضغطٍ كبير من المحيطين به، وليس بتدبيره هو نفسه! والأدهى إضماره ترك حكم مصر بعد موقعة عين جالوت لركن الدين بيبرس!
يُحيلنا هذا إلى بيبرس، أحد أعظم سلاطين المماليك، والمؤسس الحقيقي لدولة المماليك، والذي لا يعرف عنه كثيرون سوى أنه قاتل قطز. وبيبرس الفتى القبجاكي الذي تنقل عبداً بين أيادٍ كثيرة حتى صار من مماليك نجم الدين أيوب، وسار في سلك الجندية، مثل قطز، حتى وصل إلى أن يصير من أمراء المماليك، من أتباع فخر الدين أقطاي. وبعد اغتيال أقطاي هرب بيبرس ورفيقه قلاوون وبعض الأمراء الآخرين من مصر خوفاً على حيواتهم. ثم عاد إلى مصر وتحالف مع قطز لحرب المغول، وأبلى في التخطيط والمعركة بلاءً حسناً جعل الكثير من المؤرخين على وشك انتزاع الانتصار من المظفر سيف الدين قطز، ونسبه إلى بيبرس.
ينسى الناس حين يقرأون سيرة قطز وبيبرس، في "وا إسلاماه"، كما قلنا سابقاً، أنهما بشريان، فيهما الخير وفيهما الشر، وهي آفتنا في التعامل مع الشخصيات التاريخية عموماً.
رسم باكثير، بيبرس، وكأنه الشرير الذي يريد الملك ويطمع فيه، مثل سيده أقطاي. صار هو الذي يضمر الشر والحقد لقطز الذي لا يضمر له سوى الخير! لكنه ولحسن الحظ نسي خلافه وبغضه عندما دق خطر المغول الأبواب، وتحالف معه وصار تحت إمرته لحربهم -وهو سلوك شاع طوال تاريخ المماليك، إذ يتحاربون في ما بينهم، لكنهم يتحالفون أمام أي خطر كبير محدق بدولتهم- ثم بعد انتهاء الحرب التي أبلى فيها بلاءً عظيماً طلب منه أن يهبه إمارة حلب، ووعده السلطان بها ثم نكص في وعده، ليس ليعطيه حكم مصر كما سرد باكثير في الرواية، بل لأنه يعرف جيداً أن بيبرس لا يضمر له الخير، وأنه يرغب في الانتقام لسيده أقطاي.
وأدرك قطز بروح المتآمر التي في داخله -والتي كانت داخل كل مملوكي ترعرع في ذلك العصر وسط جو من المؤامرات والخدع- أن بيبرس سيخرج عليه، وبمجرد استتباب الأمر له في حلب، سيقدر على إخضاع الشام كلها، وتالياً سيسيطر على طرق التجارة الخاصة بمصر كلها، ولن يطول الزمن حتى يسيطر على مصر نفسها، لذا أراد إبقاء بيبرس قريباً منه عملاً بمبدأ "اجعل أصدقاءك قريبين وأعداءك أقرب". ولما رأى بيبرس هذا من قطز، شعر بالغدر يقترب، وظن أن مصيره سيكون كمصير أقطاي فقرر قتله، ثم اغتاله وهو عائد من عين جالوت.
وأظن أن أكثر ما يشير إلى طبيعة المماليك، هو رد فعل أقطاي المستعرب أتابك العسكر الذي ما أن عرف أن قُطز قد قُتِل، وأن بيبرس هو من قتله، حتى أشار إلى خيمة السلطنة قائلاً لبيبرس: "تقدّم يا خَوند"، وسنّ بذلك طريقة انتقال السلطة في العصر المملوكي: العرش للأقوى.
ربما كان قطز من الشخصيات التي أتت إلى الحياة، وتربّت وترعرعت من أجل مهمة محددة، نفذها وانتهى دوره في الحياة. لم يحكم سوى عام واحد أو ما يزيد قليلاً عن العام، لكنه ترك سيرةً عاشت لقرون وستعيش لقرون.
الفخ الذي وقعت فيه الرواية، هو مشكلة أحادية الفكر أو النظر، بمعنى تناسي أن هؤلاء الأبطال بشر في الأساس، فبدلاً من أنسنة الأبطال وجعلهم في صراع داخلي دائم بين الخير والشر، انقسموا إلى جانبٍ خيّر وجانبٍ شرير
لكن من الأخطاء الكبيرة محاولة تعظيم قطز بالتقليل من بيبرس، أو جعلهما نقيضين.
ينسى الناس حين يقرأون سيرة قطز وبيبرس، في "وا إسلاماه"، كما قلنا سابقاً، أنهما بشريان، فيهما الخير وفيهما الشر، وهي آفتنا في التعامل مع الشخصيات التاريخية عموماً. فقطز، ذلك البطل العظيم الذي قهر المغول في عين جالوت، هو نفسه قطز الذي اغتال أقطاي. هو الخير وهو الشر... وبيبرس الذي اغتال قطز هو نفسه أحد أبسل قادة الجيش المصري في عين جالوت، وهو نفسه الملك العظيم الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الذي قهر المغول ودحرهم واستمر في تطهير الأرض منهم ومن الصليبيين، وأسس الدولة المملوكية، وجعل كل الدول والممالك تهابها وتعمل لها ألف حساب. وهو أيضاً الخير والشر. كلاهما بشريان.
وفي رأيي، إن ما ساعد على ترسيخ رواية "وا إسلاماه" كمرجع تاريخي، هو إقرارها في مصر في السنة الثانية من المرحلة الثانوية، كقصة القراءة في مادة اللغة العربية. وبرغم أن المسمى واضح وهو أنها "قصة القراءة"، إلا أن إقرارها وتحويلها إلى فيلم، ثم بعد سنوات إلى مسلسل باسم الفرسان، وقّر في ذهن الناس "حقيقيتها التاريخية" بشكل كبير.
ربما وجبت علينا إعادة تذكير الناس بالفارق بين التأريخ وبين الرواية التاريخية، التي يجب أن تُعامَل مثل معاملة السير الشعبية، كفن في الأساس، لا كمصدر لأي معلومات تاريخية. وقد بدأت تلك الحملات بالفعل منذ فترة وأتمنى لها كل التوفيق والنجاح في مسعاها الذي حين ينجح، سيؤثر إيجابياً في مستقبلنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...