بين 28 شباط/ فبراير 1953 و3 آذار/ مارس من السنة نفسها، عانى يوسيف دوغاشفيلي (المدعو ستالين) سكرات الموت قبل أن يتوفى فعلاً، على الأرجح في ليلة الثاني إلى الثالث من آذار، ويتثبت أقرب المقربين منه، "الخمسة"، من قيادة حزب الاتحاد السوفياتي الشيوعي، من وفاته، صبيحة اليوم الخامس من بدء نزعه مصاباً بانسداد شرايين دماغه.
والتردّد في تأريخ الوفاة على وجه الدقة مردّه إلى أن الخمسة- وهم غيورغي مالينكوف، ولافرينتي بيريا، ونيكيتا خروتشيف، ونيكولاس بولغانين (إلى ستالين نفسه)- اجتمعوا في "داتشا" (دار ريفية) أمين عام الحزب الشيوعي ورأس الاتحاد وماريشاله، وعبقري الماركسية- اللينينية، وحفّار قبر الرأسمالية، ورائد الأممية... مساء 28 شباط.
وكان اجتماعهم هذا آخر اجتماعاتهم المتصلة منذ ستة أشهر تامة. ويومها دعا الرجل حلقته القريبة، وهم أصحاب المراتب العليا في الحزب الحاكم والدولة الرسمية والاسمية وأجهزة الأمن السياسي والجيش، إلى حضور عروض سينمائية اعتاد عرضها، وتليها عادة دعوة إلى العشاء والشراب إلى فجر اليوم التالي غالباً.
وهذه العشاءات المديدة في حجرته الخاصة التي تبلغ مساحتها 150 متراً مربعاً، وتتوسطها سجادة طولها 12 متراً وعرضها 6 أمتار، وطاولة مكتب طولها 7 أمتار (لا يخفى شبهها بطاولة "مفاوضات" الرئيس الروسي الحالي منذ انتشار وباء الكورونا في شتاء 2020)- تداري شعور صاحب السلطان الأعظم ربما بالعزلة. فهو، على قول خروتشيف- خالفه على قيادة الحزب، والمندّد بجرائمه في تقرير مدوٍّ قرأه سراً في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفياتي في 1956 وسرّبه خلسة، وبـ"عبادة الشخصية" التي حاط بها نفسه- كان "يشعر بالوحدة إلى مدى لا يعرف معه ماذا يفعل بنفسه". فلا يخلو بها إلا مضطراً، وبعد دخوله في غيبوبة ناجمة عن السهر والشراب والإرهاق.
و"الأربعة" هؤلاء المقربون خلفوا أسلافاً مقربين آخرين أعقب تقريبَهم، وتوليتهم المناصب والمراتب السلطانية العالية، إبعادُهم والتنكيل بهم، إما اقتصاصاً من خلاف، وهذا نادر، وإما تستراً على انعطاف حاد يمليه إخفاق سياسي أو اقتصادي مشهود يتخفّف ستالين من مسؤوليته الراجحة عنه، ويلقيها على عاتق شركائه الثانويين في السلطة، و"أصحابه" إلى وقت قريب.
الخالفون
ويعلم "الأربعة" علم اليقين أن "السلطان لا يمت له"، على قول الجاحظ في "التاج في أخلاق الملوك"، ولا أمان له، على زعم تتمة القول في حكم الواحد. فلما لم يدعُهم في اليوم التالي إلى مشاهدة شريط سينمائي ولا إلى طعام وشراب، لم تواتهم الشجاعة على قرع بابه، والدخول عليه والسؤال عما به. وهو ربما على حالٍ لا يرغب في أن يُرى عليها، ويجازي مَن رآه عليها، بعد شفائه، على طريقته في الجزاء.
فأشركوا الحرس في المشورة. واستدعوا بعض ذوي السابقة من قدامى الحزبيين وكبار المسؤولين والمقربين قبلهم. ولجأوا أخيراً إلى الأسرة، إلى سفيلتانا، الابنة الباقية والمدللة في طفولتها (والهاربة مع زوج أميركي إلى حاضرة الرأسمالية بعد نحو العقد من موت والدها). واقتضى الأمر، قبل الدخول والعثور عليه جثة لا حياة فيها، ووجهاً مشوّهاً، أياماً. وعرض جثمانه بين السادس من آذار ومساء الثامن منه، على الملايين من مودعيه و"أيتامه"، على ما وصفوا أنفسهم. ومن ذيول الواقعة إقدام ثلاثة من الحلقة على قتل رابعهم، بيريا، الولي على الأمن السياسي.
والرجل الذي انفرد بحكم الإمبراطورية السوفياتية، والشطر الروسي والقيصري ثم الشيوعي منها هو أوسع بلد مساحةً على وجه الأرض، منذ أواخر العقد الثالث من القرن العشرين إلى أوائل العقد السادس، أثار احتجابه يوماً واحداً عمّن كانوا فريق حكمه (من غير شراكة) وندماء وحدته، الذعر في نفوسهم، وأظهرهم على حقيقتهم، صنائع الطاغية وآلاته، وأظهر "النظام" على صورته، سلطان الواحد. فوراء مركّب معقد من الهيئات والأجسام والوظائف والمكاتب والمقالات والحملات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية- والمجازر والمقاتل والمعتقلات التي لا يُحصى ضحاياها ورعاياها- طبعت إرادة فرد واحد، وحساباته ونزواته، بطابعها مصائر مئات الملايين من البشر، ومن بعدهم مصائر البشرية على نحو أو آخر.
الكذب والكلمات
وأورث الطاغية الجيورجي (المولود في 6/12/1878 في مدينة غوري الصغيرة لأم خياطة وابنةِ قنٍ حرره إلغاء القنانة في 1861 ووالد إسكافي هجر منزل الأسرة مبكراً) الإمبراطورية الشاسعة، وهي إحدى القوى الدولية الكبيرة وأحد قطبي النزاع العسكري والأيديولوجي على قيادة العالم، نظاماً ديكتاتورياً هو من بدع أو ابتكارات الحداثة الغربية، وأحد أخطر أمراضها وعللها.
فهذه الحداثة ولدت، بين أشياء أخرى، جماهير الأفراد والآحاد المتحررين من الأبنية الاجتماعية الضيقة ومن معايير عمل واعتقاد سابقة وثابتة ومشتركة. وولدت جيوش العمل الصناعي، والتعبئة العامة، والأجهزة الإدارية والفنية الضخمة التي تخطط لآماد وسلاسل طويلة من الإنتاج والتموين والتوزيع والإعداد الذهني والصحي والقتال. وأنشأت، في ركاب هذه، المدن الكبيرة، وشبكات المواصلات، ومراكز التحكُّم والإحصاء، والتمثيل والدولة الوطنيين.
وحين أراد سلف ستالين المباشر و"شيخه"، فلاديمير لينين، إيجاز النظام السياسي والاجتماعي الجديد (الشيوعي) الذي يتعهّد حزبه إنشاءه، بعد انقلابه في تشرين الأول/ أكتوبر 1917، أرساه على ركنين: السوفيات (أي المجلس المنتخب مباشرة من القاعدة الشعبية والعمالية) والكهربة (وهي المرحلة العليا من التصنيع الحديث يومذاك).
وحين استولى حزب لينين على مرافق الدولة، واستمال فلول الجنود الهاربين من الجبهات المتصدّعة، بادر إلى حل المجالس وإلغاء الركن المجلسي، أو السوفياتي، من برنامجه، وأحل الحزب "الطليعي" الواحد، وديكتاتوريته "البروليتاريا" البوليسية محل الحياة السياسية ووجوهها الكثيرة. وسلك إلى التصنيع نهجاً قسرياً وتعبوياً حربياً، سمّي "شيوعية الحرب". وأفضى، عن يد ستالين وقيادته، بعد أعوام قليلة من "سياسة اقتصادية جديدة" "وسطية" (1920- 1923)، مترددة ومتلكئة، إلى إرساء "أسس الاشتراكية" على دمار الفلاحين المزارعين، جسدياً واقتصادياً، وقطاع الزراعة، وإلى بناء صرح صناعي ثقيل مكتفٍ بنفسه، ومنقطع من الحاجات الاستهلاكية والإنتاجية على حد سواء.
ولخص ميخائيل غورباتشيف (1985- 1991)، خالف ستالين الخامس على قيادة "الاتحاد"، أحوال الاشتراكية السوفياتية، في 1988، بقوله: إذا شئت شراء برغيّ لآلة من آلاتك الكهربائية فعليك العثور على دبابة في ثكنة قريبة وفكها إلى أجزائها، وتجريب براغيها إلى أن تحصل على غايتك.
كان هذا هو الاتحاد السوفياتي ("اتحاد الجمهوريات الاشتراكية والسوفياتية"- "أربع كذبات في أربع كلمات"، على قول أحدهم) الذي سلمه آخر رئيس سوفياتي وآخر أمين عام حزبي شيوعي، وهو غورباتشيف، إلى سلف فلاديمير بوتين، بوريس يلتسين (1991- 1999).
والاتحاد، الروسي هذه المرة، الذي يرأسه بوتين منذ 23 عاماً- وقدَّر أن يستمر على رئاسة إلى 2034، في ختام "إصلاحات" دستورية استفتى شعب روسيا فيها قبل سنتين من حربه "الوطنية" الجارية على أوكرانيا-، ويلقي بالمسؤولية عن انهياره على الغرب "الجماعي"، هذا الاتحاد يتحدّر من الإمبراطورية التي أورثها يوسيف (دوغاشفيلي) ستالين وارثيه وخالفيه على رأس الحزب الشيوعي، و"الشعوب السوفياتية" من ورائهم.
وحملُ انهيار الإمبراطورية، "أعظم كارثة استراتيجية في القرن العشرين" على قول الرئيس الغازي، على مكائد الغرب وكراهيته روسيا الكبرى وقيمها وحضارتها و"روحانيتها"، لا يتستّر على تعظيم روسيا الستالينية التي أورثها ستالين خالفيه، وعلى الحال التي أورثهم إياها عليها، ومر وصفها السريع. والحنين الحار الذي تعلنه كلمة بوتين في الانهيار عبارة صريحة عن تبني الاتحاد الإمبراطوري الذي هوى في أعقاب أقل من أربعين عاماً على وفاة بانيه ومتممه، وعن الإقامة على اعتقاد مثاله وقيمه وتقاليده.
العلل
وهذان، الحنين والتبنّي في 1991 و1999 (بدء ولاية بوتين الأولى) و2008 (غزو جورجيا) و2014 (الاستيلاء على القرم) و2022- 2023 (العدوان على أوكرانيا)- لم يكونا سمتين من السمات التي طبعت نهج الخالفين المباشرين، ولم يسوقا الإجراءات التي أجراها هؤلاء بعد موت مَن كانوا إلى أمس قريب، لا يتعدى الأشهر، صنيعته، وآلته الطيعة، و"عُبَّاده" (قياساً على تشخيص خروتشيف مرض النظام الستاليني بـ "عبادة الشخصية"، وعلى تسمية فرقة تؤمن بالشعوذة الشيطانية). وعليه، تبدو الفرقة أو الشيعة البوتينية أشد ستالينية من مساعدي ستالين ومواليه، وأكثر عمى عن دوره وأصحابه في تدمير المجتمعات "السوفياتية" التي تسلط عليها طوال 35 سنة، منهم.
والتدابير التي باشر خالفو ستالين اتخاذها، في الأشهر الأولى بعد وفاته، تدل دلالة واضحة على تشخيصهم بعض علل الستالينية المميتة، والأمراض التي قد تؤدي بالإمبراطورية ونظامها، وبهم طبعاً، إلى القبر إذا هم لم يعجّلوا في علاج بعضها.
رمي الجنود "لحماً للمدفع"، على ما ينقل صحافيو وكالات أخبار، سُنَّة ستالينية قديمة، ولم يبتدعها بريغوجين (صاحب ميليشيا مرتزقة "فاغنر" وأحد محظيي الرئيس بوتين) في حرب رئيسه على أوكرانيا
فغداة تقرير الأطباء موت الديكتاتور، وقبل الإعلان عن إصابته بما يحول بينه وبين اضطلاعه بمهماته، قرر الأربعة، في اجتماع دعوا إليه مساعدين سابقين أبعدهم ستالين في الأشهر الأخيرة من حياته، حل قيادة الحزب الشيوعي التي عيّنها الرجل في تشرين الأول 1952، حين انعقاد المؤتمر التاسع وسماها "بريزديوم" اللجنة المركزية، وألغى المكتب السياسي وأمانته الدائمة.
وضموا إلى فريقهم مولوتوف وميكويان، من أوائل اللينيين، وأخرجوا فريق "الشباب" الذين انتخبهم الزعيم الراحل مكافأة لهم على ولائهم. وآذن هذا التغيير بالعودة إلى قيادة "جماعية" نسبية، قياساً على تصرف ستالين برفاقه من غير قيد أو مراعاة.
وفصلت قيادة الدولة والحكومة من قيادة الحزب، على خلاف جمع ستالين القيادتين في شخصه. فتولى مالينكوف الأولى، وخروتشيف الثانية. وحاط بمالينكوف مساعدون سياسيون وتقنيون، هم الصف الأول من القيادة، أضعفوا بعض الشيء الحصرية الولائية التي اشترطها ستالين على أدواته. وحين دعي أعضاء اللجنة المركزية كلهم إلى الاجتماع، وإلى إقرار إجراءات الأربعة، وقد أمسوا ستة، بقي مقعد ستالين خالياً.
طي "العبادة"
وخطا الخالفون، بعد "معالجتهم" الإفراط الشخصي في القيادة المركزية، خطوة أخرى تناولت الإرهاب الستاليني الذي تهدّدهم واحداً واحداً، وكانت نجاتهم منه محض مصادفة، على نحو ما كان إجراؤهم "الجماعي" الأول تدبيراً رمى إلى التقييد عليه. فقرروا، في 3 نيسان/ أبريل 1953، أي بعد ثلاثة أسابيع على ختام مراسم الدفن في مقبرة واحدة مع لينين، إطلاق سراح الأطباء والممرضين، وأسر هؤلاء وأولئك جميعاً، المتهمين بالضلوع في آخر مؤامرة على حياة السلطان دبّرتها دوائر القرار الإمبريالية، وكشفتها ظنون الرجل وهلوساته ومخبروه.
فمن غير أبسط دليل أو قرينة، أمر ستالين باعتقال عدد من ذوي "المراويل البيض" العاملين في الجهاز الساهر على صحته أولاً، وعلى صحة أعوانه ومساعديه من بعد. واخترع البوليس السياسي القرائن والأدلة على تورط "اليهودية العالمية" (وليس "الصهيونية") في مؤامرة على حياة "شمس البشرية"، على ما لُقّب وتلقب بعد الحرب.
والقرار بتبرئة متهمين من غير دليل، وضالعين في مؤامرة متخيّلة من ألفها إلى يائها، معالجة عاجلة أخرى وموضعية "للعَرَض" الإرهابي البنيوي الذي غلب على منعطفات "بناء الاشتراكية" الستاليني كلها. فابتدأ الطاقم القيادي الشيوعي بنفسه، وحمايتها، وثنّى بضحايا آخر حملة إرهاب شنها الزعيم الأوحد على جزءٍ من حاشيته.
وأُرفق إطلاق سراح الضحايا، وتبرئة معتقلين في قضايا أخرى (بينهم زوجة مولوتوف اليهودية، وهي اعتقلت بعد أن أمر ستالين أحد أقرب مساعديه بتطليقها، وبينهم شقيق مساعد آخر، كاغانوفيتش، انتحر عشية الحرب بسبب تهمة بالخيانة...)- بسجن ضباط في السلك البوليسي تولوا تزوير الأدلة و"التحقيق" فيها. وصدر في الرابع من نيسان/ أبريل مرسوم بإلغاء "التوسل بالتعذيب، الشائع في السجون، والتكبيل بالكلابشة التي تقيد يدي الموقوف خلف ظهره طوال 24 ساعة وربما طوال أشهر...".
وفي أثناء ربيع 1953 وصيفه صدرت قرارات وسعت دوائر المسرّحين من معتقلات العمل القسري والشاق. وخرج الملايين من هذه المعتقلات التي حشر فيها مسجونو الحق الجزائي مع المعتقلين السياسيين، أو ضحايا الشبهات والقرابات والمصادفات والغايات السلطانية والظرفية "العليا". فتقلص عدد المسجونين في معسكرات العمل، في غضون أسابيع قليلة، إلى النصف. وانتقلت مرافق اقتصادية كان يعمل فيها المعتقلون الجنائيون والسياسيون بالسخرة من إشراف أمن الدولة إلى إدارة وزارات اقتصادية.
وكانت الزراعة إحدى ضحايا ستالين، و"التخطيط" الأيديولوجي الماركسي- اللينيني عموماً، البارزة. وسبّب التجميع في المزارع الجماعية القسرية، الكولخوزات والسوفخوزات (وهذه مِلك الدولة أما تلك فملك المزارعين!)، مجاعات قضت على ملايين المزارعين الروس (شمال القوقاز) والأوكرانيين (في الغرب) خصوصاً، في العقد الرابع.
واضطر ستالين إلى النزول للمزارعين الفلاحين عن قطعة أرض صغيرة، ملكاً خاصاً وحراً إلى جنب الملكية الجماعية المزعومة وملكية الدولة. وبلغت المساحة المجمّعة لقطع الأرض الخاصة هذه، في سنة 1937، نحو 2.5 في المئة من الأراضي الزراعية السوفياتية، ولكنها أنتجت 38 في المئة من محاصيل الخضار والبطاطا، و68 في المئة من اللحوم والألبان...
وأعقبت القرارات الاقتصادية القرارات البوليسية، والصنفان متشابكان في السياسات "الماركسية- اللينينية" والستالينية بالأحرى. فاشترت الدولة السوفياتية، غداة موت رأسها، المحاصيل الزراعية بأثمان أغلى كثيراً من أثمان المواسم السابقة، وقلصت الضرائب عليها. ورفعت القيد أو بعضه، عن الحد الأعلى للأجور، وشملت الفنيين والإداريين بالمديح، بعد أن قصرته على "الطبقة العاملة"، أو على صورتها المعنوية والخطابية الأسطورية.
"التقدم والاشتراكية"
وبعد نحو أسبوعين على وفاة ستالين "الرهيب"- قياساً على لقب القيصر إيفان (1530- 1584) الذي دعا ستالين إلى رد الاعتبار إليه، على مثالٍ عمَّ قياصرة روسيا "الأصيلة" والعميقة والواحدة وشمل قديسيها، على غرار ألكسندر نيفسكي، وحمل السينمائيين على تمجيدهم-، في 19 آذار/ مارس، اقترع مجلس الوزراء، رأس الدولة وليس "بريزيديوم" اللجنة الحزبية المركزية، مقر السلطان الفعلي والخفي، على التوصية بإنهاء الحرب في كوريا في أقرب فرصة.
وكانت هذه الحرب قد اندلعت في الأسبوع الأخير من حزيران/ يونيو 1950، حين اجتازت قوات الشمال، بقيادة كيم إيل سونغ، خط العرض 38، إلى الجنوب. وتوقع القائد الشمالي الشيوعي أن يستولي على الأراضي الكورية، جنوب الخط، في غضون أسابيع قليلة، شأن توقع بوتين الذين يقارن كثر عدوانه على أوكرانيا بالحرب الكورية. والمبادرة إلى شن الحرب، الأهلية مبدئياً، دعت إليها ظروف سياسية إقليمية ودولية، كانت هذه الظروف قد أرجأتها.
يخوض بوتين حربه بالمهارة التي خاض بها ستالين حربه البولندية، وقبلها حربه في تزاريستين، وبعدها معارك صد العدوان النازي، وبجنرالات على شاكلة جنرال "فاغنر"، وبلجان تصفية المترددين والهاربين شديدة الشبه بوحدات ستالين الميدانية
ففي أواخر 1949، دخلت قوات جيش التحرير الشعبي الصيني، بكين (أو بيجينغ)، عاصمة الصين، بعد أن كانت قد دخلت شنغهاي، وأعلنت جمهورية الصين الشعبية، الشيوعية. فحرر انتصارها قوات كورية، شيوعية كذلك، كانت تحارب جنباً إلى جنبها، وعادت إلى كوريا بعد انتصار الحليف الصيني، وطرد "الوطنيين" إلى جزيرة تايوان. وكان ستالين قد تحفظ عن خطة كيم إيل سونغ المبادرة إلى الاستيلاء على كوريا، في أواخر 1948، في أعقاب انسحاب القوات المسلحة السوفياتية من كوريا، ثم انسحاب القوات الأميركية صيف 1949.
وتغير الموقف السوفياتي في ضوء الانتصار الصيني والعودة الكورية. والواقعتان مرآة انقلاب في ميزان القوى غذى نزعات وأطماعاً توسعية، من وجه، واندرج، من وجه آخر، في سياقة أيديولوجيا تتوقع، في "حرب طبقات على الصعيد العالمي"، انتصار معسكر "التقدم والاشتراكية"، على ما سمت الكتلة السوفياتية نفسها (ووسمت بهذا التعريف دوريتها "النظرية" الصادرة في براغ).
ففي أواخر آب/ أغسطس 1948، اختبر الاتحاد السوفياتي أول قنبلة ذرية، بعد ثلاثة أعوام على قصف سلاح الجو الأميركي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وفي الأثناء، استثمر ستالين في الجهاز الصناعي- العسكري موارد هائلة أمكنته من تدارك "الفجوة الذرية" المنذرة بسحق القطب السوفياتي الناجم عن الحرب الثانية والمولود من ملابساتها، وبحرب ذرية بين الحلفاء- لو قيضت الغلبة للجناح السياسي الأميركي الداعي إلى استباق النزاع بين القوتين المنتصرتين، والقضاء على الكتلة الناشئة قبل استوائها ندّاً استراتيجياً فعلياً.
وأدى خوض الحرب الكورية- واقتصر إسهام ستالين فيها على الخبراء الفنيين والعسكريين، وعلى العتاد، على خلاف السهم الصيني الذي أودى بتسعمئة ألف قتيل-، إلى خسائر مروعة فاقت الثلاثة ملايين قتيل، معظمهم من الكوريين، وأبرز الطبيعة الإمبراطورية والتوسعية، أو الفاتحة والعدوانية، للسياسة الخارجية السوفياتية، ونبّه إلى اتصال هذه السياسة، في لبوسها الأيديولوجي "الأممي" و"الطبقي"، بالسياسة الروسية القيصرية.
"العالمية"/ الوطنية
ولم يتكتّم الجيش الأحمر، بعد تحريره الأراضي السوفياتية "الوطنية" التي احتلتها الجيوش الألمانية النازية في زحفه "نحو برلين"، شعار حملة اليوم كما الأمس كما قبل الأمس في 1920، على أطماعه الشرسة في شرق أوروبا ووسطها، وفي ألمانيا، العدو التقليدي، على الخصوص.
ولكن غلبة الطابع الإمبريالي على السياسات الدولية، ودوام البرامج الاستعمارية ومنطق اقتسام النفوذ في هذه السياسات، ومزج السياسة السوفياتية توسع نفوذها وسيطرتها بالانتصار للحركات الوطنية الاستقلالية والمناهضة للغرب المستعمر- هذه كلها تسترت بعض الشيء على "الاشتراكية الإمبريالية" الجديدة، على ما وصفت الدعاية الصينية الماوية السياسة السوفياتية، بعد 1961 ومع إشهار الخلاف الصيني- السوفياتي.
فغداة الحرب، "العالمية" في عرف معظم العالم و"الوطنية الكبرى" في عرف ستالين "الروسي الكبير" وخلفائه ومعظم الروس على الأرجح، واليوم فوق وأكثر مما مضى- زاد عديد الجيوش السوفياتية من 2.9 مليون (في 1949) إلى 5.8 ملايين (في 1953). وبلغت زيادة إنتاج العتاد الحربي، في 1951 وحدها، 60 في المئة، و40 في المئة في 1952. وخطط ستالين لإنشاء 106 فرق قاذفات سلاح جو، في أواخر 1955، فتحل محل 32 فرقة عاملة في أوائل 1953.
وآذن إنهاء الحرب الكورية، على النحو السريع وغير المتذرّع بالذرائع الذي أُنهيت عليه، بانعطاف سياسي، و"انحراف" عن الستالينية، سمته القيادة الماوية "تحريفاً" أو "تحريفية"، قبل أن تبرد جثة ستالين تماماً. وتناول الانعطاف حرباً إقليمية باهظة التكلفة، وشطر منها "بالواسطة"، ينبّه ربما إلى فداحة النتائج المترتبة على السياسة العسكرية الستالينية. ففي أثناء الحرب الثانية، أو "الحرب الوطنية الكبرى" (على مثال "العملية العسكرية الخاصة" التي تبرئ بوتين من "الحرب" على أوكرانيا)، أدت خطط ستالين، على وصف عسكريين بينهم كبار الجنرالات الروس، إلى خسارة أعداد هائلة من الجنود.
فأمره الوحدات السوفياتية، في معارك حاسمة مسرحها غرب الاتحاد أي أوكرانيا وشطر من عديدها أوكراني، بمجابهة القوات الألمانية الغازية مجابهة رأسية، قبل تطويقها وعزلها وقطع طرق إمدادها وتشتيت تركيزها، وتكليفه وحدات خاصة بقتل الجنود المترددين في الميدان، ألحقا بالوحدات هذه معظم الخسائر الحربية الضخمة التي نزلت بها.
ورمي الجنود طُعمة للنيران، أو "لحماً للمدفع" على ما ينقل صحافيو وكالات أخبار، سُنَّة ستالينية قديمة، ولم يبتدعها بريغوجين (صاحب ميليشيا مرتزقة "فاغنر" وأحد محظيي الرئيس بوتين) في حرب رئيسه على أوكرانيا، وقبلها في القامشلي السورية. ففي الحرب الأهلية الروسية (1918- 1921)، تولى ستالين إلى فوروشيلوف، المارشال من بعد، قيادة جيش الأنصار، في آب/ أغسطس 1918.
وحاصر "البيض"، أنصار القيصر، مدينة تزاريستين، حيث ترابط وحدات من الجيش الأحمر، ويقيم موظفون في الإدارة القيصرية، ورجال أعمال ومواطنون عاديون. فرد ستالين على الحصار، ووشك السقوط، بإنشاء محكمة عرفية حملت على إصدار أحكام بالموت. وشملت الأحكام ضباطاً في الجيش القيصري، كان تروتسكي، مفوض الحرب الأول، يسعى في استمالتهم. فأقاله لينين من عمله، وزعم أنه، أي لينين، لم يكن على علم بإجراءاته.
"فن" الحرب
وفي صيف 1920، كان ستالين في قيادة الجبهة الجنوبية- الغربية التي يقاتل الشيوعيون عليها البولنديين، وحليفهم "الأبيض"، الجنرال فرانغيل. وأنزل هذا بالجيش الأحمر انتكاسة يسأل عنها، وسئل، ستالين. فهو ارتأى، على جبهة طويلة تمتد من شبه جزيرة القرم إلى لفوف (اسم لفيف الأوكرانية الروسي)، والمواصلات بين محطاتها عسيرة، أن يهاجم جيش الخيالة الأول لفوف، ويحاول الاستيلاء عليها، مستعجلاً الزحف على برلين، عوض مساندة القوات المتجهة إلى فرصوفيا (وارسو). فأقيل من قيادة الجيش الأول. وعلّل إخفاقه، في تقريره إلى المكتب السياسي، بما يعلل به فلاديمير بوتين انتكاساته في أوكرانيا: النقص في عديد القوات، والافتقار إلى جيش احتياط، وقصور التصنيع العسكري عن التموين بالذخيرة، وإحجام العسكريين (غير السياسيين الحزبيين) عن الهجوم.
وعلّل ستالين الهزائم التي مني بها الجيش الأحمر في الأشهر الثمانية الأولى من حرب ألمانيا النازية على روسيا- في إطار حرب أوروبية شنها الزعيم الألماني، أولاً، على النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وبلجيكا وفرنسا ورومانيا والمجر والبلقان- (عللها) بخطة مزعومة حذت حذو الجنرال الروسي كوتوزوف، وتجنبه الاشتباك مع جيش نابليون، في 1812، وجره هذا إلى العمق الروسي وسهوبه وثلوجه، وما يترتب على الانسحاب من تطويل خطوط التموين، وتعريض القوات الغازية لمهاجمة ساقتها، أو خطوطها الخلفية، وحرب طياحة وغوار تصدّع الخطوط، وتنشر المجاعة والتيه مع الفوضى والضياع في صفوف الغزاة.
وأغفل ستالين التبعات الثقيلة التي يتحمل المسؤولية عنها ضعف إعداده الجيش لصد غزو كانت بعض دوائر استخباراته الخارجية على علم به قبل سنة من ابتدائه، إلى خوضه، طوال العقد الرابع الذي سبق الغزو، "حروباً" اجتماعية وإدارية وأهلية وحزبية على جبهات الداخل كلها. وأغفل سبباً بارزاً في إبهاظ التكلفة هو إدارته العسكرية المباشرة للحرب، ومنافسته عليها عسكريين محترفين لامعين، استبق بروز بعضهم فـ"طهر" الجيش منهم قبل الحرب، وهمّش بعضهم أو أوكل إليهم قيادات ثانوية.
ويزعم الرئيس الروسي، اليوم، وراثة حرب كوتوزوف التي "ورثها" ستالين، نيابة عن قيادات وعامة، أو عوام، نحاهم عن أدوارهم وانتحلها غصباً وقسراً. ويقارن ضابط الاستخبارات سابقاً بين مواصلته بذل الجهود في سبيل ردع عدوان الأوكرانيين على الاتحاد الروسي- على قول وزير خارجيته، سيرغي لافروف، الذي أضحك جمهور مجموعة العشرين في نيودلهي، في الرابع من آذار/ مارس الجاري- أي عدوانه "الستاليني" و"القيصري" على الأمة الأوكرانية داخل حدودها التاريخية والجغرافية السياسية ودولتها الوطنية، وبين ابتكار الشعب الروسي حرباً دفاعية لم يكن لها أن تنتصر من غير انخراط عوام الروس فيها، وتعبئتها موارد وطاقات عامية.
ويخوض بوتين حربه بالمهارة التي خاض بها ستالين حربه البولندية، وقبلها حربه في تزاريستين، وبعدها معارك صد العدوان النازي، وبجنرالات على شاكلة جنرال "فاغنر"، وبلجان تصفية المترددين والهاربين شديدة الشبه بوحدات ستالين الميدانية، وتستعمل المطارق على الرأس بديلاً من تبذير الذخيرة.
الركاكة
وقلبه صورة الحربين العظيمتين والدفاعيتين، صد حرب 1812 (حملة نابليون على روسيا) وهزيمة حرب 1941- 1943 (حرب هتلر على الجبهة الشرقية)، إلى "عملية عسكرية خاصة" تشبه تسلّل لصوص هواة إلى مخزن ليلي في مرحلتها الأولى، وهجومَ الفرقة الخفيفة الانتقامي والثأري في مرحلتها الثانية، وتخبط الحيوان الجريح في شباك الصياد في مرحلتها الثالثة، (قلبه) الفادح هذا قرينة على ركاكة وإسفاف سياسيين وثقافيين لا قاع لهما.
ويتستر الإسفاف والركاكة بعرض سينمائي إمبراطوري، على شاكلة الصور التي بعثتها الشاشات التلفزيونية. وتُري الصور حرسيَّيْن يفتحان ضلفتي باب قاعة يبلغ علو جدرانها إلى سقفها فوق العشرة أمتار، ويدخل من الباب بوتين بمشية عسكرية ومائية قادماً من أعماق سر كوني هو سر السلطان، ويصطف فيها جمهور أنيق وصامت، كأن على رؤوسه الطير، صفين يمر بينهما الرجل المحجل.
وتحاكي هذه الصور، القوية الشبه بإخراج سيسيل (ب) دي ميل الهوليودي وأعمال شينيشيتا الإيطالية المعروفة بـ"السباغيتي" (من أجل حفنة من الدولارات، آخر أيام بومبيي...) عصراً بطولياً وشعبياً انحط به استعماله البوتيني في سياسات "مغولية" إلى حطام سياحي أسود. ويكشف رثاء الرئيس الروسي الانهيار السوفياتي في 1991 عن تشخيصه علاج الانهيار.
فإذا كانت الكارثة العظمى هي تصدّع الإمبراطورية الفاتحة التي نهضت على المصادرة والعنف والإرهاب والحرب العامة في الداخل والخارج (أي على البوليس السياسي والمعتقلات)، فينبغي أن يكون "العلاج" تجديد الإمبراطورية وفتوحها وراء ستارة توحيد "روسيا الكبرى"، وهذا على رغم وصم الحلم بإحياء الرميم بـ"ذهاب العقل" (تتمة قول بوتين إن الكارثة الاستراتيجية العظمى هي انهيار الاتحاد السوفياتي: مَن يحلم بإحياء الاتحاد "لا عقل له" ومَن لا يحزنه موته "لا قلب له").
وكان أسلاف بوتين، أي سلفاه "الإصلاحيان"، خروتشيف (1953- 1964) وغورباتشيف (1985- 1991)، قد شخّصا العلة أو الداء على وجهين مختلفين. فذهب الأول إلى أن السلطان المطلق والفردي يقود حتماً إلى دمار المجتمع في الداخل وإلى الحرب المزمنة في الخارج. وذهب الثاني، في أعقاب 29 عاماً على المؤتمر العشرين، إلى أن انفراد الحزب الشيوعي بالسلطة والإدارة والإنتاج و"العقل" والحرب يهمّش الدولة، ويفقدها الطاقة على التجدد والتحديث، وربما على الحياة والدوام.
فتردد الأول في تصفية الحزب والإمبراطورية بعد التخفّف من الإرهاب والمعتقلات ("الغولاغ"). وأقدم الثاني على التصفية المزدوجة قبل أن يرتسم في الأفق مثال جامع آخر. وأخذ الحزب الشيوعي الصيني على الرجلين إضعاف "المركز"، على قول صدام حسين ("نعود من الأطراف إلى المركز"، كانت عبارته "النظرية" المفضلة). ومثَّل على نجاعة "حلّه": شراء ولاء الرعية وصمتها بتوزيع اقتصادي "كريم"، ونازع قومي حاد، ومكانة عالمية إمبراطورية. وعمد فلاديمير بوتين إلى مركّب قومي عسكري ومركنتيلي بوليسي، كولونيالي وإمبريالي إحيائي، وقدّمه أو فرضة حلاً "للشقاء الروسي" القديم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...