اقتصر تشييع ميخائيل غورباتشيف (1931- 2022)، آخر رئيس سوفياتي وأول رئيس روسي اتحادي، على "عناصر رسمية"، كنايةً عن مشاركة حرس عسكري في موكب الجنازة. ولم تبلغ العناصر هذه مرتبة سير الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، و"رجالات" الدولة من سلك الاستخبارات، وراء نعش أحد "أسلافه".
وتوفي غورباتشيف في المستشفى المركزي، في 30 آب/ أغسطس. وفي 31 نُقل من المستشفى، وسُجّي جثمانه في قاعة الأعمدة ببيت النقابات، ودُفن بعد ثلاثة أيام. وفي أثناء أربع ساعات من اليوم الثالث ألقى عدد من مواطنيه الروس نظرة وداعٍ متحفّظة على رجل لم يكتموا انصرافهم عنه.
ففي أول انتخابات حرة نُظّمت في روسيا منذ ثورة 1917، وهي تدين بصفتها هذه إلى المرشح المنافس غورباتشيف- وكان ذلك في 1997، والخصم هو بوريس يلتسين الذي رفعه الأمين العام السابق من اللجنة المركزية إلى المكتب السياسي- اقترع لغورباتشيف، المستقيل منذ خريف 1991، نصف واحد في المئة من الناخبين. وكان ترشّحه هذا، وصرفه على هذه الشاكلة، آخر فصل في حياته السياسية النشطة.
ولاحظ المراقبون ضعف إقبال المواطنين الروس، وهم في خضم حربٍ زجّهم فيها رئيس يبايعه شطر راجح منهم منذ 22 سنة (تكاد تكون تامة)، على وداع رجل إمبراطوريتهم السابقة القوي. وبعضهم عزا تغيُّب الرئيس الحالي، القوي، أو المتقاوي، إلى ضعف الإقبال. ولم يفت المراقبين الفرق الحاد بين فتور الوداع الروسي، الرسمي على الخصوص، وبين حرارة الوداع الغربي. فكأن الطرفين لم يودّعا رجلاً واحداً.
والحق أن الرجل التاريخي لم يكن واحداً، ولم يسعه ولا يسعه أن يكون واحداً في عالم منقسم على نحو انقسامه في أواخر الحرب الباردة، الأولى، وتنازعه اليوم، في مقتبل ما قد "يتطوّر" إلى حرب عالمية ثالثة. فمَن حيا السياسيون الغربيون، وبعض سياسيي شرق أوروبا، رحيله، هو مَن سحب القوات السوفياتية من أفغانستان في أيار/ مايو 1988، غداة عشرة أعوام من التخبط في حرب عدوان خاسرة ولا مسوّغ لها، على شاكلة حرب بوتين اليوم على أوكرانيا.
وهو من وقّع اتفاقات ستارت-1 مع الولايات المتحدة الأميركية، ورضي بمراقبة التسلّح النووي، والحد من عدد رؤوسه، وقواعد إطلاق صواريخه. وأعلن نهاية الحرب الباردة، وتستّرها على نزاع قد ينفجر دماراً كونياً. ولم يحرّك ساكناً، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، حين صدع الألمان جدار برلين، ورُفع الحاجز الذي شَطَرَ أوروبا شطرين، وكان حجر الركن من سياسة توسّع روسية وسوفياتية عزلت شرق أوروبا ووسطها عن مجالهما الحيوي، وعزلت تتمة أوروبا عن عالمها وعن العالم.
"طبيعة" النظام
وسبقت هذا إجراءات "سيادية" داخلية، اجتماعية، ناطت بها الحرب الباردة، ووجهها الأيديولوجي البارز، دوراً حاسماً. فبادر غورباتشيف إلى رد الأرض إلى فلاحيها وزرّاعها ملكيةً خاصة وفردية. وهو حلمٌ روسي وشعبي قديم. وأجاز لهم إنشاء تعاونيات طوعية و"شركات" وأعمال تحتكم إلى مصالحهم وحساباتهم ومواردهم، ويتحمّلون المسؤولية عنها، من غير خشية المصادرات والاعتقالات والوشايات والمجاعات، إلخ. ومن غير "ضمانات" تثبت الفقر والركود والتبعية.
وبادر الأمين العام الجديد و"الفتي"- كان في الرابعة والخمسين من العمر، وخلف 3 أمناء عامين توفّوا من منتصف ثمانيناتهم، وتولى آخر أمينين عامين ولايتهما، الأول يوري أندروبوف طوال أقل من سنة ونصف السنة، والثاني تشيرنينكو 13 شهراً- إلى نشر أعمالٍ محظورة، مثل رواية بوريس باسترناك، "دكتور جيفاغو" (1957). وكان هذا فاتحة سيرورة طاولت مسألة التاريخ السوفياتي في حقبة اللينينية والستالينية، على وجه التخصيص، وملحقاتها التالية.
وتناوُل "مسألة" التاريخ السوفياتي، وهي مسائل، يعني تناول قضايا الحزب الواحد، وسلطات أمينه العام، والإدارة الهائلة التي رزحت على صدور الناس، وتصرّفت في أمورهم وشؤونهم رغماً عنهم، وجمعتهم وفرّقتهم وراقبتهم واعتقلتهم وعذّبتهم وقتلتهم واتهمتهم، وعزلت بلادهم، وقادتهم إلى الحرب، وصادقت عنهم. وإلى هذا، وفوقه كله، قسرتهم على رواية تاريخهم على مثال فرضته، ولم تُشرك في صوغه أو إنشاء معانيه غير مَن ندبتهم إلى الرواية، ووقَفَتها عليهم. ويُلاحظ أن التعليق الصيني، الرسمي طبعاً، على وفاة الرجل ندّد بحرية الإعلام والمناقشة التي أتاحتها إجراءات السياسي المصلح، ومدح مديحاً بخيلاً تقريب الخلاف بين الصين وبين بلده.
ومن المسائل المترتبة على المسألة الأم- "طبيعة الاتحاد السوفياتي" على قول أجيال من اليساريين الأوروبيين، وفي موضع القلب منها المعتقلات والمنافي وموجات التطهير والتصفيات في رعاية الحزب ومركزه وأجهزته- المسألة التالية: لماذا ينتهي رجل مثل غورباتشيف، وهو مَن استجاب حلماً شعبياً عميقاً وحرّر روسيا وبلدان فلكها من الكابوس النووي وسباقه المرهق، هامشياً، ومغضوباً عليه؟
سفيلتانا ألِكسييفيتش وغورباتشيف
لم تتردد سفيلتانا ألكسييفيتش (ولدت في 1948)، الكاتبة والصحافية البيلاروسية، والأوكرانية المولد والروسية اللغة، وحائزة جائزة نوبل للآداب في 2015، في الإجابة. فكتبت، في 2013: تربط "الإنسان السوفياتي" (على نحو القول: إنسان العصر الحجري المتأخر، أو الإنسان العاقل، أو صانع الآلات...) بالموت علاقة خاصة، وتتردّد في الأحاديث كلمات جارحة مثل الرمي، والقتل، والتصفية، والإعدام، وأخرى هي مرادفات للاختفاء مثل التوقيف، والمنع من حق المراسلة، والهجرة...
فقبل سنين قليلة خلت قُتل ملايين من الناس، ونحن كلنا آتون من هناك ومن ذلك الزمن، من بلاد امتحنتها معتقلات "الغولاغ"، وحرب مروّعة (العالمية الثانية)، ومجاعات فتّاكة، وامتحنها انتزاع الأرض قسراً من أصحابها ومزارعيها، واستؤصل ملّاك أراضيها المتوسطون ("الكولاك") عنوة، واقتُلعت بعض أقوامها من بلادها (قوزاق القرم) وهُجّرت.
بعد توليه الحكم في الاتحاد السوفياتي، بادر ميخائيل غورباتشيف إلى نشر أعمال محظورة، مثل رواية بوريس باسترناك، "دكتور جيفاغو" (1957). وكان هذا فاتحة سيرورة طاولت مسألة التاريخ السوفياتي في حقبة اللينينية والستالينية، وملحقاتها التالية
هؤلاء، نحن، نطفح كراهية وإدانة، وكثيرون منّا يرون الدولة، السوفياتية، عالمهم البديل من كل شيء آخر وحياتهم، فهم عاجزون عن وداع التاريخ الكبير، وعن السعادة على وجه آخر، غير وجه الحروب الكونية وصناعة الإنسان الجديد، والضياع في حياة خاصة وفردية، نحن من طينة أهل الحرب والقتال... (سفيلتانا إلِكْسييفيتش: "نهاية الإنسان الأحمر" أو زمن الخيبة، صدرت الطبعتان الروسية والفرنسية في 2013، الأخيرة التي أنقل عنها عن دار أكت سود، باريس، بترجمة صوفي بينيش. وصدرت ترجمة عربية عن دار ممدوح عدوان، دمشق، 2015، تولاها د. نزار عيون السود).
وتربط الكاتبة بالسياسي الراحل آصرة خاصة، فهي نشرت كتابها الأول "ليس للحرب وجه امرأة"، وموضوعه الحرب العالمية الثانية، واسمها الرسمي و"الوطني" الحرب الوطنية الكبرى، في 1985، عام تولّي أصغر أعضاء المكتب السياسي السوفياتي وسكرتارية اللجنة المركزية سنّاً، غورباتشيف، أمانة الحزب الشيوعي العامة، وخلافة الأمين الأسبق والقوي يوري أندروبوف، رئيس جهاز الاستخبارات، كي جي بي. ووصفت الكاتبة الحرب التي دأبت الدعاية السوفياتية على تمجيدها منذ ستالين واستأنف بوتين، والقوميون الروس عموماً، تمجيدها، ورووا التاريخ الروسي الخلاصي في ضوئها، بـ"نقيض الوطنية"، وبـ"الفيزيائية الغريزية"، ونسبت إليها "الحط من كرامة الإنسان".
وكان الأمين العام الجديد والإصلاحي قد دعا، وهو يستهل عهده، إلى المكاشفة ("بيريسترويكا"، أو الشفافية من طريق المصارحة والصدق)، وتناول الوقائع الماضية والحالية من غير تستّر وكمّ أفواه وعقل ألسن. وهذا ما سعت فيه كاتبة التحقيقات المُهيبة، وجامعة أقوال الناس من غير حذف ولا حذر، ومُرتِّبتها على أبواب وموضوعات تبرز إلحاحها وتكرارها وعودها الهاجس والمرير على بداياتها.
فقامت قيامة القوميين والمحافظين و"أهل الدولة"، على المعنى الذي عرفته الكاتبة، عليها، ودعوا الرقابة إلى منع الكتاب. ولكن غورباتشيف انتصر لها، على رغم تحفّظه المرجَّح عن تنديدها بحرب هي من أركان مشروعية الدولة التي ردّد الأمين العام، يومها وإلى مماته، أنه لا يريد غير تجديدها.
أفغانستان، تشيرنوبيل...
وتعاقبت كتب الكاتبة على الحوادث أو الكوارث التي حلّت في الشعوب "السوفياتية"، وفي مقدّمها الروس. فتناول كتابها الثاني الحرب على أفغانستان، "نعوش الزنك"، 1989، غداة جلاء القوات السوفياتية في 1988. وخص الكتاب عودة العائدين من حرب عدوانية واستعمارية تقليدية، لا ناقة لهم ولا لبلدهم فيها ولا جمل، وتردّدت أصداؤها الأليمة والقاسية في سِيَر حياتهم بعد العودة، على شاكلة أعمال انتحار قصفت أعمار مئات من الشبّان.
وفي الأثناء، في نيسان/ أبريل 1986، وقعت كارثة انفجار قلب المفاعل النووي في محطة تشيرنوبيل الأوكرانية. والانفجار ثمرة كذب وتستّر مديدين نجما عن معايير الإدارة السوفياتية، وأمرِها موظّفيها بالتظاهر على الدوام بإنجاز ما توكله إليهم إداراتهم على أكمل وجه وأحسنه. وسكتت موسكو أياماً عن الواقعة نفسها، وتكتّمت على فداحتها أشهراً. وهي لا تحجم اليوم، في عدوانها الفظ على أوكرانيا، عن المخاطرة بتعطيل بعض شروط السلامة النووية- فكتبت ألكسييفيتش في مصاب السكان المحليين "الابتهال"، 1997.
لماذا ينتهي رجل مثل ميخائيل غورباتشيف، وهو مَن استجاب لحلم شعبي عميق، وحرّر روسيا وبلدان فلكها من الكابوس النووي وسِباقه المرهق، هامشياً، ومغضوباً عليه؟
وفي 2013- وكان قد انقضى فوق العقدين على خروج غورباتشيف من السلطة (كانون الأول/ ديسمبر 1991)، وطُويت ولايتا بوريس يلتسين اللتان عمّت فيهما فوضى اقتصادية واجتماعية مدمرة، واستخلف هذا العقيد في جهاز الاستخبارات إن إس بي فلاديمير بوتين، وشن الرئيسان حربي الشيشان في 1994- 1995 و1999- 2000، وانفجر القتال في قره باغ، وهجمت القوات الروسية على جورجيا وسلخت أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (20 في المئة من أراضي جورجيا) عنها، وترأس بوتين الاتحاد الروسي مرتين قبل أن يُخلي الرئاسة لميدفيديف ويستأنف في 2012 رئاسته...- كتبت "نهاية الإنسان الأحمر".
ودوّنت الكاتبة أجوبة، أو مناجاة، أو تداعيات مئات الناس الذين التقتهم، من الأعمار والمهن وأنواع السّيَر كلها. وأسئلتها لا تتناول "التاريخ الكبير"، الاشتراكية مثلاً، على قولها، بل الحب، والغيرة، والطفولة، والشيخوخة، والرقص، وقصّة الشعر... فهي لا تؤرّخ. والتأريخ يُعنى بالوقائع، أما الانفعالات، ما تُعنى به الكاتبة ويهمها، فتبقى في الهامش.
ومن الهوامش الكثيرة جمع الكتاب سيرة ذاتية مشتركة تتخطى، زمناً، عهد غورباتشيف، الذي اقتصر على ست سنوات و9 أشهر، إلى وقت قريب من منتصف العقد الثاني المنصرم. وهي اختارت من الذين (واللواتي) دعتهم إلى الكلام، أشدّهم إيماناً بـ"النظام"، وتمثيلاً على أحكامه ومعاييره.
التوليد والتكثير
تدرج سفيلتانا ألكسييفيتش السوفيات في أربعة أجيال: جيل ستالين، جيل خروتشيف، وجيل بريجنيف، وجيل غورباتشيف. وهي من الجيل الأخير. وتصنّفه، على خلاف جيل ستالين الذي وسمته الشاعرة الروسية أنّا آخماتوفا (1889- 1966) "أكلة اللحوم"، جيلاً نباتياً ومعتدلاً، وشب هذا الجيل في عهد مسنّي الكرملين، وكانت "محيطات" الدماء المسفوكة قد نُسيت، وأفاق الناس من غيبوبة الشيوعية رغم دوام خطابتها وجعجعة هذه الخطابة.
في محطة قطارات بموسكو، التقت الكاتبة بامرأة قادمة من منطقة تومبوف (جنوب شرق موسكو). كان ذلك في أثناء حرب الشيشان الأولى. قالت إنها ذاهبة إلى بلاد الشيشان لتنتزع ابنها من الحرب. وهي لا تريد له أن يُقتل ولا أن يَقتل. أي أن روحها، على ما تُعلّق الراوية، تحرّرت من ربقة الدولة وسطوتها. وعدد أمثالها قليل، وكثرة الناس تقلقهم حرية الرأي، في حرب الشيشان على سبيل المثل، المتاحة منذ وقت قليل. روت أنها اشترت 3 صحف، وكل صحيفة سردت حكايتها.
وتذكّرت أنها كانت تقرأ صحيفة "البرافدا" الرسمية، وتصدّق حكايتها الوحيدة، أما اليوم فمَن تُصدّق؟ وعند سؤال آخرين- وتنقيل الأسئلة والأجوبة بين جمهرة، أو جمهرات من الناس، تعتمده الكاتبة طريقة تتوسّل بها إلى توليد المعاني والصور وتكثيرها- عن الندم على ما سبق، أجابوا، حين سألتهم المدوّنة: علامَ أندم؟ كنت ضحية بين الضحايا، واعتُقلت وقضيتُ أعواماً في الأعمال الشاقة، وقاتلتُ في الحرب، وشاركتُ في إعادة بناء مدينتي المدمرة، ونقلت الحجارة في الليل والنهار.
الأرجح أن غورباتشيف أراد الخروج من "التاريخ الكبير"، ولم يعلم إلى أين يخرج، و"الشعب" السوفياتي معه. وعلى خلافه، ودّ بوتين لو لم يخطُ سلفه الأسبق خطوهُ خارج الاتحاد السوفياتي، ولكنه أقرّ بواقعة الخروج، وأوهم الروس بأنهم ذاهبون إلى وطن روسي أجمل
لم يكن الأمر متوقّعاً. كانوا كلهم "سكرى بالحرية، لكنهم لم يكونوا مؤهلين أو مهيئين لها". أين كانت تتجلى هذه الحرية؟ تسأل الصحافية. "في حجرة المطبخ وحدها، حيث جرت العادة على التشهير بالسلطة وثلبها". فيُهجى يلتسين، لأنه "خان روسيا". ويلام غورباتشيف لأنه "لم يبق شيء لم يخنه، خان القرن العشرين كله". وعلى هذا، ينبغي أن تصطلح الأمور في روسيا، هذه المرة. فهي لم تبق استثناءً، على خلاف عادتها، وتشبه البلدان الأخرى، ويشبه شعبها الشعوب الأخرى، وهذا قرينة على استواء حالها وأمرها، ولحاقها بركب التاريخ "العادي".
وتذكر ما قاله أبوها لها. قال إن موتهم، هو ومَن هم في سنّه من أبناء جيله، في الحرب كان أيسر عليهم من موت الشبان الذين يسقطون اليوم في حرب الشيشان. وقبل اندلاع الحرب (الثانية)، كان يدرس في قسم الصحافة، وحين عودتهم من عطلة الصيف، كان أساتذتهم كلهم قيد الاعتقال والحياة الجديدة، الحياة التي خطت خطواتها الأولى مع غورباتشيف، افتقرت إلى مقدمات وتمهيد. فالمعايير كلها انهارت، ما عدا معيار الحياة، الحياة المجرّدة، مثل الحلم بمنزل، وشراء سيارة جميلة، وزرع أنصاب عنب، وقصارى إنجاز الحرية أن يرد الاعتبار إلى الذهنية البورجوازية الصغيرة التي اعتاد الروس على ازدرائها، ويمجّد "جلالة الاستهلاك".
ستالين والسيارة الجديدة
"تاريخنا" السابق كله انقضى في محاولة البقاء، وليس في مباشرة الحياة. فلا يُرجى نفع أو عائد من تجربة الحرب، ونسيانها أجدى. وآلاف الانفعالات والأحاسيس، والانفعالات جدّت أو طرأت. وفجأة تغيّر كل شيء: اللافتات، وقطع العملة، والعَلَم، وشكل الأشياء المصنوعة... والإنسان تغيّر، ألوانه كثرت، وانزوى وانكفأ على نفسه، وانفجر شظايا متفرّقة وجزراً صغيرة، وذرّات وخلايا. وانقلب الشر الأعظم أسطورة بعيدة، قصة بوليسية سياسية.
كفّ الناس عن الكلام على المُثُل العليا، وانصرفت أحاديثهم على القروض، والنسب المئوية، والأقساط المستحقة. وفي الوقت نفسه نصفُ مَن تترجّح سنّهم بين 19 سنة و30 سنة يرون أن ستالين "رجل سياسي عظيم". وتنتشر في البلد الذي قتل ستالين من أهله مقدار ما قتل هتلر شعائر تقديس الأول.
ويبعث الحنين إلى العهد السوفياتي معالم هذا العهد وشاراته. فثمة "مقاهٍ سوفياتية" تقدّم صحوناً سوفياتية، وأسماؤها وطعمها وروائحها أليفة، وتذكّر بسابقاتها. وثمة مجسّمات للمعتقلات السوفياتية، في جزر سولوفسكي، وفي ماغادان، وفي مستطاع مَن شاء "السياحة" فيها. وتَعِد الدعاية الزائرين بارتداء بذلة أو زيّ المعتقل في أثناء التجوال على معالم المعتقل.
وتبعث الأفكار الفائتة: الإمبراطورية الكبرى، و"اليد الحديد"، و"خصوصية الطريق الروسية". والنشيد الوطني الروسي هو صورة منقّحة عن النشيد السوفياتي. ومنظمة الشبيبة، "كومسومول" التي عناها الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، بُعثت تحت اسم آخر، "ناشي" (مَن هم منّا). والحزب الحاكم، حزب السلطة أو حزب بوتين، يكاد أن يكون طبق الأصل، الشيوعي. وسلطات الرئيس لا تقل عن سلطة الأمين العام. والأرثوذكسية تقوم مقام الماركسية- اللينينية.
ويلاحَظ أن المستقبل أخلى المحل الذي يعود إليه ويستحقه، ودخل الروس "عصراً مستعملاً"، على ما يُقال في ألبسة البالة التي سبق لبسُها بيعها وشراءها، ولم تُصنع للابسيها. وتقول سفيلتانا ألِكسييفيتش إنها خالطت عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع، وأخذت يد بعضهم بيد آخرين، ويضعون شارة بيضاء من قماش في عروة ستراتهم- وهي إشارة إلى تظاهرات 2012 العريضة احتجاجاً على تزوير فلاديمير بوتين الانتخابات. والتقت متظاهرين شباباً يلبسون قمصاناً طُبع عليها وسم المنجل والمطرقة وصورة لينين. فتسأل: "هل يعلمون ما هي الشيوعية؟".
وتجيب من طرف خفي: الأرجح أن غورباتشيف أراد الخروج من "التاريخ الكبير"، ولم يعلم إلى أين يخرج، و"الشعب" السوفياتي معه. وعلى خلافه، ودّ بوتين لو لم يخطُ سلفه الأسبق خطوهُ خارج الاتحاد السوفياتي، ولكنه أقرّ بواقعة الخروج، وأوهم الروس بأنهم ذاهبون إلى وطن روسي أجمل من الوطن السوفياتي الروسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...