أنا شيماء العيسوي وفقدت عائلتي في لحظة واحدة. مرّ على حادثتي المريرة أكثر من ثمانية شهور، وحتى الآن مخّي لا يستطيع استيعاب ما حدث.
حينما أروي ما حدث لشخص ما، تذكّرني نظراته المذهولة والمتألمة بحجم الكارثة التي مررت بها، غير ذلك لا يزال مخّي على وضعية الإنكار التي ترى طبيبتي المعالجة أنها طريقته الوحيدة للثبات في أرض السواء وعدم التحليق في فضاء الذهان المريح، لكن فجأة، تترامى أمام عيني أخبار عن انتشال جثث من تحت الأنقاض بالآلاف، تلك الأخبار التي "طربقت الدنيا فوق نافوخي". اللعنة!
رجاء، لا يهدمنّ أحد قصر الأوهام الخاص بي!
انشغالك الدائم بالدراما والسينما يجعلك تظن دوماً أن هناك شخصية رئيسية "بطل" يقع في منتصف بؤرة الانتباه، وأن هناك أشخاصاً ثانويين، وجودهم في الحدوته مكمل لا أساسي. وأنا التي كانت تظن نفسها دائماً شخصاً ثانوياً في الحكايات الأساسية، بطل في حكايتي أنا، لكن ثانوي في العالم، تجد نفسها فجأة في بؤرة الاهتمام.
أنا التي كانت إجابتي الدائمة على سؤال ماذا تريدين من الحياة هي: "لا أريد تأثيراً كبيراً على البشرية فأنا لست غاندي، يكفيني فقط أن أترك سيرة طيبة وسط محيطي الضيق"، تجد نفسها مثالاً يحتذى به في محاربة الاكتئاب والمثابرة والإيمان القوي؟
أصبحت أنا والحادثة الأليمة التي مررت بها تريند السوشال ميديا لفترة، وظلت تصلني رسائل من أشخاص لا أعرفهم يبعدون عني مئات الأميال، أنني أعطيتهم أملاً من جديد في الحياة.
وحتى بعد خروجي من سباق التريند المرعب، ظلت أعين المقرّبين تلاحقني وهي تتساءل ماذا ستفعل هذه الفتاة الصغيرة؟ كم هي قوية ومتماسكة؟ حقاً، أنشأت السيدة "أ" فتاة لا تقهر، "بت بميت راجل بصحيح"، لكن ما حدث ليس سهلاً على ألف رجل حتى، هل ستنتحر؟ هل ستجن؟ أم أنها ستصاب بالانطفاء التام، وتنأى عن الحياة حتى تموت ذابلة؟ أحقاً تعود لحياتها الطبيعية وتمارس عملها وكأن شيئاً لم يكن؟
حينها وجدت الانتحار فكرة سخيفة للغاية، الآن أرى بوضوح من السخيف فعلاً. خوفي هو السخيف، خوفي من أن أعترف لنفسي أنني فعلاً وحقاً مررت بكارثة إنسانية كبرى لا يقدر على تحملها أحد هو السخيف
أسمع كل ذلك وأراه في أعين المحيطين بي، ويراودني دائماً نفس السؤال: ماذا يقول هؤلاء الناس بحق الجحيم؟ أذكر الآن استنكاري التام من صديقاتي اللاتي حاولن إخفاء الآلات الحادة من أمامي حتى لا أقدم على الانتحار.
حينها وجدت الانتحار فكرة سخيفة للغاية، الآن أرى بوضوح من السخيف فعلاً. خوفي هو السخيف، خوفي من أن أعترف لنفسي أنني فعلاً وحقاً مررت بكارثة إنسانية كبرى لا يقدر على تحملها أحد هو السخيف. هذا الخوف من الاعتراف مارس معه مخّي قدراً كبيراً جداً جداً من الإنكار، حتى حينما حدث الزلزال المروّع السابق، اتصل العديد من الأشخاص بي فجراً ليطمئنوا عليّ، وأنا حقا لا أدري ماذا يدور من حولي. فقد اختار مخّي عمداً -أثناء نومي- عدم الشعور بالهزة الأرضية التي أفزعت الجميع رحمة بي. ومع كل رسالة واتصال تطمئن عليّ أكرّر -داخلي- في غضب: "أنا مش زيهم، محدش يكلمني".
لست أشبههم بالتأكيد
بخوف شديد ورغبة في عدم المعرفة، لم أتابع أية أخبار تتعلق بحادثة الزلزال، حتى ظهرت أمامي تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، تقول: "أختي تحت الإنقاض من أمبارح وأنا مش عارف أتصرف"، لشاب سوري ممن تهدّمت منازلهم بسبب الهزة، وبالرغم من جبال الإنكار والتجاهل التي بناها مخّي حول نفسه في مقابل تلك الحادثة، كانت تلك التغريدة كفيلة بهدم كل ذلك فوق رأسي.
أعادتني تلك الجملة إلى اللحظة التي سقط بها بيتي وذكرياتي وحياتي كلها أمام عيني، والأسوأ أنني كنت أعلم يقيناً أن هذا السقوط حدث فوق رؤوس أفراد عائلتي العزيزة التي -علمت كذلك يقيناً- أنها فارقت الحياة في نفس اللحظة.
تغريدة واحدة كانت قادرة على حجز رحلة مريرة بالزمن إلى تلك اللحظة، شممت رائحة التراب اللعين الذي غطى كلي، رأيت الظلام الدامس نفسه الذي لم يساعدني في تبيان طريقي للوصول للأنقاض لعلّي أستطيع إنقاذ أي أحد منهم، سمعت نفس الصرخة التي تراودني في كوابيسي دائماً، التي أعلم أنها صرخة أمي لحظة هشمت صخرة كبيرة رأسها. هل تعلم عزيزي القارئ ماذا حدث تالياً في مخّي العزيز؟ نعم إنه الإنكار مرة أخرى.
أتألم بالرغم من حرصي الشديد على عدم متابعة أي شيء، ولا يشغلني الا سؤال واحد: "لحد إمتى هتفضل ترجعني أي حاجة للحظة اللي خسرت فيها كل حاجه؟"
بعد رحلة مؤلمة في الذكريات امتدت حوالي خمس دقائق فقط، قرّر مخّي اللجوء مرة أخرى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، للإنكار. حدثني بهدوء شديد أن الحادثة الخاصة بك لا تضاهي تلك الكارثة بالتأكيد. أوهمني مخّي أن معاناة البشر في سوريا وتركيا وكل بقاع الأرض التي تأثرت بالهزة بالتأكيد أكبر بكثير من معاناتك. ومن المضحك أن مخّي استخدم معي جملة، أكررها نصّاً: "ديه ناس يا بنتي ممكن تكون خسرت عيلتها وحياتها كلها في الحادثة ديه!"، و وجدتني أرد عليه بحزم: "أومال إنت إيه ياسطا؟".
أن تكون تحت الأضواء رغما عنك
ما أدركته من السؤال الأخير وإجابة مخّي عليه هو أنني كنت تحت الأضواء، كنت مركز الحدث، كانت الأعين كلها منصبّة عليّ، مهما أنكرت، مهما حاول مخّي إخباري العكس. حتى الكتابة عن هذا الموضوع كانت تحمل العديد من المشاعر المتضاربة، مجرّد اتخاذي لقرار الكتابة كان يحمل في طياته مقاومة، تلك المقاومة التي حدثنا عنها فرويد طويلاً في أعماله، أن يقاوم اللاشعور الشخصي الشعور في البوح بأمر ما، فيظهر في الهفوات أو الأحلام مثلاً.
وعن أحلامي مؤخراً، فحدث ولا حرج، تارة أرى أبي يستنجد بي ولا أقدّم له يد العون، فقط انظر له متألمة، وتارة أخرى تدور الأحداث بعد الحادثة و أجدني مجتمعة مع أسرتي ويغمرنا إحساس الدفء ورغبة في تصديق أنهم هنا حقاً، فجأة ينهار كل ذلك كما ينهار المكان الذي نجتمع فيه، وأفقدهم مرة أخرى.
أصحو وأنا أتجرّع مرارة إحساس العجز التي لم تفارقني لحظة واحدة طوال ثمانية شهور. تمر الكارثة الإنسانية التي حدثت، ينجو من ينجو ويموت من يموت، يتحرك العالم لإنقاذ البعض وترك البعض يعاني، وأتألم أنا بالرغم من حرصي الشديد على عدم متابعة أي شيء، ولا يشغلني إلا سؤال واحد: "لحد إمتى هتفضل ترجعني أي حاجة للحظة اللي خسرت فيها كل حاجه؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع