شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"العِنَـبْسِيّة"... أوديسا مصرية عمرها ستة قرون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 9 مارس 202309:35 ص

حيّرني كتاب "العِنَـبْسِيّة… قصة عائلة"، وأدخلني مؤلفه الدكتور فكري أندراوس متاهةً عمرها ستة قرون، تفاعل فيها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، العمومي والشخصي. أسرة صغيرة غادرت مدينة قوص في جنوب مصر إلى مدن أخرى، في الجنوب أيضاً، وصولاً إلى السودان. وذهب البعض إلى اليمن، وأسلم ولم يعد. ثم رجع البعض إلى مدن مصرية. وفي القرن العشرين توالت موجات الارتحال إلى عمق إفريقيا، والهجرة إلى أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا. في البدء أيقنوا بأن أرض الله واسعة، فعاندوا اتجاه حركة نهر النيل، فارين من الاضطهاد الديني، يلتمسون الأمن. وفي النهاية راهنوا على التعليم والتحقق. وفي العائلة تيار آثر السلامة وأسلم، ونُسي ذكره.

العائلة "العِنَـبْسِيّة٫ التي تنسب إلى الجد "عنيبس٫ تلخص جوانب من التاريخ الاجتماعي المسكوت عنه. ربما لهذا السبب ليس للعائلة حظّ من حفاوة حظيت بها "العائلة السليمية" و"العائلة البطرسية". من أشهر رجال العائلة الأولى محمد محمود٫ الدكتاتور الذي تولى رئاسة وزراء مصر عام 1928. وأبرز رجال العائلة الثانية "بطرسان"؛ الأول بطرس غالي رئيس الوزراء الذي اغتيل عام 1910، والثاني تولى الأمانة العامة للأمم المتحدة عام 1992. وأصدرت مكتبة الإسكندرية عام 2008 كتاباً مصوراً فخماً عن "العائلة السليمية"، وأتبعته عام 2010 بمجلد أكثر فخامة عن "العائلة البطرسية". ونشرت "دار الثقافة الجديدة" بالقاهرة كتاب العائلة "العِنَـبْسِيّة". عملٌ يستغني عن فخامة الطباعة بالثراء الدرامي.


الكتاب مُهدى إلى عزيز سوريال عطية "الذي حرر الموسوعة القبطية باللغة الإنجليزية من ثمانية أجزاء". في عام 2005 قرأتُ ترجمة إسحاق عبيد لكتاب عزيز سوريال عطية "تاريخ المسيحية الشرقية"، وفيه يؤكد أهمية الحقبة القبطية التي تصل التاريخ المصري القديم بالعصر الإسلامي، وأن اللغة القبطية آخر الصيغ للغة المصرية القديمة، وهي مكتوبة بحروف يونانية مضافاً إليها سبعة حروف ديموطيقية، وأول نص معروف باللغة القبطية "سُجل قبل مولد السيد المسيح بقرن ونصف... القول بأن اللغة القبطية لا تزال لغة حية يعدّ ضرباً من التجاوز بل والخطأ"، وأن أهم ثالوث هو أوزير وإيزيس وحورس، وقيامة أوزير من الموت "شبيهة بقيامة المسيح من القبر".

العائلة "العِنَـبْسِيّة٫ التي تنسب إلى الجد "عنيبس٫ تلخص جوانب من التاريخ الاجتماعي المسكوت عنه. ربما لهذا السبب ليس للعائلة حظّ من حفاوة حظيت بها "العائلة السليمية" و"العائلة البطرسية

ويضيف: "وجاءت صورة العذراء مريم والطفل المسيح لتذكّر المصريين أيضاً بصورة إيزيس وابنها حورس. والواقع أن التصوير الباكر للعذراء في الفن القبطي كان مماثلاً لصورة إيزيس وهي ترضع الطفل حورس". وهذا الاسترسال مع كتاب "تاريخ المسيحية الشرقية" سببه حيرتي في إيجاد مدخل إلى المتاهة "العِنَـبْسِيّة" التي ورّطني فيها المؤلف. لتكن دراما التاريخ، ومصائر الشخصيات. وأبدأ بالمؤلف فكري أندراوس الذي تخرج في كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، وهاجر إلى أمريكا عام 1970، ونال الدكتوراه من جامعة هيوستن عام 1977، وعمل في وكالة الفضاء الأمريكية. وكان قد احتفظ بأوراق توثق تاريخ العائلة، مكتوبة في أزمنة مختلفة. راجعها ليؤلف الكتاب الذي يضم شهادات المعاصرين.

الحروب الصليبية وإخراج المسلمين من الأندلس غيّرا الكيمياء في نفوس المسلمين. في تلك الفترة تحولت طرق التجارة الدولية. لم يعد الشام آمناً على تجارة الهند والصين إلى أوروبا. اتجهوا إلى البحر الأحمر، وصولاً إلى ميناء "القصير"، ومنه تنقل البضائع إلى مدينة قوص، ويحملها النيل شمالاً. انتعشت قوص بالتجارة، وبالحجاج المغاربة قاصدين الحجاز. وكانت الكنائس لافتةً، عدداً وطرزاً معمارية٫ فضاقت الصدور بها، وبالمسيحيين الميسورين العاملين في جباية الضرائب، وهم موضع "كراهية" بحكم وظيفتهم المرتبطة بالحكام المماليك الذين لا تعنيهم الأديان. والتطرف الطارئ على المصريين أشعله مغاربة وحجازيون هالتهم أعداد الأديرة والكنائس، فذكّروا الناس بالصليبيين في الشام، واعتبروا المسيحيين المصريين من "الصليبيين".

انتقم المتعصبون لمآسي المسلمين في الشام والأندلس بتدمير نحو تسعين في المئة من الكنائس والأديرة المصرية بين عامي 1200 و1430. تناقص العدد من 2084 إلى 193، وبقي أقل من عشرة في المئة٫ وذلك بتأثير فتاوى ابن تيمية والشيخ ابن نوح مغربي الأصل. وأغلقت كنائس ومنعت الصلاة فيها٫ تفادياً لتدميرها، "ولم يكن لحكومة المماليك السلطة أو الرغبة في التدخل". رعبٌ اضطر البعض إلى التحول للإسلام. ففي أحد أيام عام 1321 دمر المصلون، بعد صلاة الجمعة، ستين كنيسة، وص ادر المماليك لأنفسهم أوقافَ الكنائس والأديرة البالغة خمسة وعشرين ألف فدان. ويتساءل المؤلف: "هل احتاجت مصر أو المسي حية لهذا العدد الهائل من الكنائس والأديرة؟".

مدينة قوص، مسقط رأس العائلة العِنَـبْسِيّة، خسرت ثلاث عشرة كنيسة في نحو ساعتين.

مدينة قوص، مسقط رأس العائلة العِنَـبْسِيّة، خسرت ثلاث عشرة كنيسة في نحو ساعتين، في يوم الجمعة الكارثي عام 1321م. في المدينة كان شاب اسمه إسحق وأبوه يوساب، وقد أسلم عمّه أبسخيرون. يقول إسحق لجده إن الناس لا يجدون كنائس للصلاة: "متى يأتي المسيح ليخلصنا؟". والجد يردّ بأن المسيح لن يأتي، لأنه "رسالة سامية تعيش داخل كل الناس"، وأن الحل هو مقابلة الكراهية بالحب والغفران "كما طالبنا المسيح"، وأن "المسيحيين الجدد" في الماضي دمروا "ما استطاعوا من المعابد القديمة وحولوا بعضها لكنائس. بعض المسلمين الآن يكررون نفس القصة". وهنا أصل إلى أولى حلقات الدراما، عن مغالاة مسلمين جدد في إيذاء المسيحيين.

سلوك يجيده الهارب الطبقي، ويمكن رؤيته في مسؤولين سود أمريكيين يزايدون على تعصب رؤسائهم البيض. وفي شهادة سليل العائلة العِنَـبْسِيّة، بولص أمين بولص المولود في القاهرة عام 1945، لأب ولد في السودان. بدأ بولص عمله في المصانع الحربية عام 1965، ولم يشعر "بأي تعصب ديني من الرؤساء المسلمين، ولكن ـ للأسف الشديد ـ شعرت بذلك من بعض الرؤساء الأقباط تجاهي". وبالرجوع إلى القرن الخامس عشر، نسمع الجدَّ يقول لحفيده إسحق إن الذين تحولوا إلى الإسلام، ومارسوا العنف على المسيحيين، "أغلبهم دون معرفة جيدة لا بالمسيحية ولا بالإسلام... يعلمون أنهم خذلوا مسيحيتنا ومصريتنا". أبسخيرون شارك في هدم كنيسة كان أحياناً يصلي فيها.

فكري أندراوس

ضاقوا بالإرهاب. الجدّ اعتصم بمدينته، وارتحل يوساب وابنه إسحق إلى مدينة "إسنا" الجنوبية. ولن ينتهي الشتات. اطمأن المسيحيون في إسنا إلى أنهم أكثرية، وخاف إسحق من زحف التطرف: "إلى أين سنهاجر المرة القادمة إن قررنا الاحتفاظ بمسيحيتنا؟". والأديان سؤال ممتد بطول التغريبة العِنَـبْسِيّة. الجدّ المعتكف في القرن الخامس عشر يقول "إن دخول المسيحية ثم الإسلام بعدها لمصر كان أحد أسباب تدهورنا، رغم أن رسالة تلك الأديان رسالة سامية"، بسبب انحراف رجال دين يرونها رسالة كراهية وحروب. الدين فرق بين الإخوة٫ فالذين أسلموا غابوا عن الاحتفال بزواج إسحق الذي شهد وصول التطرف إلى بلد الهجرة. ومن ذريته ولد "عنيبس"، عنوان العائلة.

الجد أعطى حفيده إسحق أوراقاً من البردي تروي طرفاً من سيرة العائلة. وبداية من القرن السادس عشر نسب اسم العائلة إلى عنيبس الذي تعلم اللغتين القبطية والعربية. وهذا الجزء من سيرة العائلة تمنيتُ قراءته بأسلوب عصره، الدال على اكتساب اللغة بالتعلم لا التشرّب والتنشئة. نموذج ذلك هو ساويرس ابن المقفع الموظف المرموق في الجهاز الإداري لدولة المعز لدين الله الفاطمي. ساويرس في كتابه "تاريخ البطاركة" يتمتع بخفة ظل مصدرها أحياناً أسلوبه غير المتقن. يقول: "ثار رجل من العرب من نواحي القبلة من مكة ونواحيها اسمه محمد فرد عباد الأوثان إلى معرفة الله وحده". وعن نسطور: "يستحق لسانه القطع من أصله".


وعن مروان بن الحكم يقول ساويرس: "ثار مثل الأسد إذا خرج من الغابة جائعاً ياكل ويدوس الباقي برجليه". وعن عبد الملك بن مروان: "ولم تجد ديار مصر طمأنينة ولا راحة في أيام مملكة عبد الملك لأنه لم يكن من جنس ملوك الإسماعيليين". وعن الأصبغ بن عبد العزيز: "كان مبغضاً للنصارى سفاك الدما رجل سو كالسبع الضاري".

أترك ساويرس، وأذهب إلى العائلة العِنَـبْسِيّة. تعرض إسحق لمضايقات انتهت بالبعض من أقاربه ومعارفه إلى إعلان الإسلام، ففكر في نقل أعماله إلى مدن جنوبية وصولاً إلى السودان. وذهب ابنه أيوب إلى اليمن للاستطلاع، ثم استقر هناك مع زوجته مريم، وانقطعت أخباره. وقيل إنه أسلم.

قضية الدين ممتدة، عابرة للقرون والحدود. سلفيا صبري المولودة عام 1971 تتذكر تصريح أنور السادات: "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة". تأكَّد لها أنها "ضمن أقلية". تخرجت في كلية التجارة بمصر، وتقيم في كندا، وتعمل في مجال المحاسبة. أما إسكندر فايق أندراوس، فوُلد في ولاية تكساس عام 1976، والدين عنده هو الأخلاق، وليس الطقوس أو دور العبادة. أبوه "فايق" يعمل في مجال البترول، وعمل عام 1980 في بريطانيا. وفي لندن تنمر التلاميذ على إسكندر٫ بسبب لهجته التكساسية. وفي فريق الكرة كان يحرز الأهداف، وابن اللورد ينال الجوائز. احتج أبوه فمنحوه جائزة. وفي أمريكا سأله زملاؤه هل يركب الجِمال، أو يسكن الهرم؟

التعصب لهوية منغلقة، والاعتصام بمذهب أو دين يزعم معتنقوه أنه الحق، قد يكون دفاعاً لا يمنح فرصاً توفرها الندية الواثقة. هذا فارس فؤاد أندراوس درس المحاسبة، وهاجر إلى أمريكا، وعمل في تنظيف دورة مياه مطعم في دالاس، وانتقل إلى هيوستن٫ وترقى إلى مدير منطقة تشمل عدة ولايات، ثم اشترى فندقاً تاريخياً. أما إسكندر فايق أندراوس فمارس أعمالاً بسيطة أثناء الدراسة: بواباً لفندق، ينال نحو مئة دولار يومياً من البقشيش، "نظير حمل الحقائب وأنا أبتسم". واختار الأعمال الحرة، ونشر كتاباً عن الاستثمار في مجال النبيذ. وفاقت المبيعات عام 2007 مليون دولار، وعني بأنواع نادرة يصل سعر الزجاجة إلى عشرين ألف دولار.

تعرض إسحق لمضايقات انتهت بالبعض من أقاربه ومعارفه إلى إعلان الإسلام، ففكر في نقل أعماله إلى مدن جنوبية وصولاً إلى السودان. وذهب ابنه أيوب إلى اليمن للاستطلاع

تاريخ العائلة "العِنَـبْسِيّة" يرصد جذور الحداثة في مصر. نهاية المماليك وغزو الفرنسيين، ورؤية أهالي مدينة إسنا للجنرال ديزيه، ومعه المعلم يعقوب الذي أراهم أوراقاً مكتوبة بوضوح٫ لأنها طبعت بآلة أحضرها الفرنسيون. وفي مرحلة تالية تحولت الأسماء من مصرية/عربية: فهمي، أمينة، أنيسة، فوزي، كامل، رشدي… إلى التفرنج: فيليب، فرنسيس، إنجيل، جوليت. وكان أندراوس يتردد على القاهرة، وفي مدينة ملّوي رأى بتول بنت رزق الله وأحبها، ويكاد يكون "الوحيد الذي اختار عروسه" من بين أشقائه. بعد ذلك ستكون الزوجات والأزواج من جنسيات مختلفة. بل إن إحدى بنات ميشيل إلياس قابلت شاباً هندياً، فتحابا وتزوجا، ولا يعرف المؤلف في أي بلد يعيشان الآن.

من الدراما العِنَـبْسِيّة ما وقع لرجلين؛ أولهما فرنسيس أبادير روفائيل الذي تخرج في كلية الطب، وعمل مع الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، ثم أسس مستشفى للجراحة بالإسكندرية، وتزوج فتاة جميلة، وسبقها إلى بريطانيا. لكنها في طريقها إلى لندن للحاق بزوجها تعرفت إلى "شخص مسافر معها على المركب ووقعت في غرامه!". انفصل عنها فرنسيس وتألم لسنوات. والثاني رشدي بولص٫ النابغة المبتكر الذي صمم دراجة شراعية، وتخرج في كلية الهندسة، والتحق بشركات بريطانية وأمريكية٫ وعمل في الكونغو البلجيكي وعاد عام 1954، بعد عشر سنوات. تزوج وعاد بزوجته إلى الكونغو، وهناك هربت مع رجل أوروبي، فانفصل رشدي عنها، وغادرت مع صديقها وتزوجا في كندا.

ومن التراجيديا رواية إيهاب كامل أن أباه كان مدير شركة "إسّو" للجاز بالسودان. وظن صلاح سالم، في مهمته بالسودان، أن الرجل تجاهله في أحد الاحتفالات. ورجع الصاغ، أسود القلب، إلى القاهرة، وأمر بفصل المدير. أما فيفي حلمي فعرفت نديم خوري اللبناني الفلسطيني في جامعة القاهرة. عاشا في ليبيريا، ثم الكويت. وبعد الغزو ذهب إلى ليبيا وأسلم، وتزوج فلسطينية٫ وانفصل عن فيفي التي هاجرت إلى أمريكا، وتزوجت الأمريكي فيليب، ثم ذهبت إلى العراق مترجمة للجيش الأمريكي الغازي. وطلقت وعملت سنتين في بنك، وساءت الأحوال فاضطرت إلى العمل في تنظيف المنازل. وهاجر نديم إلى أمريكا، واسترد مسيحيته، "بل أصبح أكثر تعصباً لمسيحيته الجديدة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard