في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي، ذكرت قناة سكاي نيوز، أن هيئة سكة الحديد السودانية قد دشّنت أربعاً وثلاثين قاطرةً صينيةً، عبر شركة "سي أر سي زيانج". تأتي هذه الخطوة في إطار الجهود التي تبذلها الحكومة الانتقالية لبث الحياة في الهيئة، بعد سنوات من الحرب المعلنة من قبل السلطات السياسية المتعاقبة، التي أدخلتها في طور "التهميش"، ولتنشيط عجلة الاقتصاد المتعثر في البلاد بعد الثورة.
وترتبط سكة الحديد السودانية تاريخياً (تُعدّ الثالثة من حيث القِدَم على مستوى القارة السمراء)، منذ نشأتها الأولى في الربع الأخير من القرن العشرين، بمختلف التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد على مدار عقود مديدة حتى يومنا الحاضر، كعامل رئيس وشريان حيوي ربط بين أقاليمها الجغرافية المترامية الأطراف، وأسست لمعالم الحضارة والمدنية التي انتقلت عبر قاطراتها رابطةً ليس فقط بين مناطق الإنتاج وموانئ الاستيراد والتصدير، بل بين أبناء المدن السودانية، معززةً الروابط الاجتماعية في ما بينهم.
وهذا ما يعبّر عنه الشاعر والرحالة البريطاني روديارد كبلينغ، بقوله:" النقل يساوي الحضارة"، إذ ساهم الانحدار الذي تعيشه اليوم في تدمير الروابط النفسية والوجدانية في البلد المنكوب. مثّل القطار أو "القطر والوابور" كما يُسمى شعبياً، عامل ربط ثقافي ووجداني قرّب بين سكان البلاد، ودخل إلى مفردات حياتهم وأغانيهم، وفنّهم المسرحي، مثل: "السكة حديد... قرّبت المسافات وكثيراً"، للكاتب عبد الله علي إبراهيم التي عُرضت غير مرة على خشبة المسرح القومي في الخرطوم.
بالإضافة إلى ما سبق، يبرز الدور السياسي للسكة كجزء مفصلي في تاريخ البلاد، إذ كان منصب المشرف على السكة واحداً من أخطر خمسة مناصب زمن الاحتلال البريطاني، ولعب عمّاله دوراً كبيراً في النضال ضدّه، ثم ضد الديكتاتوريات التي استلمت زمام السلطة وحاربت أي نقابة أو هيئة مدنية، ومن ضمنها "نقابة عمال سكة الحديد"، وأخيراً، ضد حكم الرئيس المعزول عمر البشير، خلال أحداث الثورة بين التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2018 والسابع عشر من آب/ أغسطس 2019.
لماذا كان منصب المشرف على السكة السودانية واحداً من أخطر خمسة مناصب زمن الاحتلال البريطاني،
نشأة السكة
كانت السكّة مشروعاً طموحاً فكّر فيه محمد علي باشا، للوصول إلى داخل السودان، وحالت الشلالات بين أسوان وبربر، دون تحقيقه في أيام حكمه. رأى المشروع النور في عهد الخديوي إسماعيل، عند إنشاء أول سكة بين حلفا وأنيكول، وكانت تغطّي مسافة 266 كيلومتراً، لكن سرعان ما توقف العمل فيها في نيسان/ أبريل 1875، بسبب وجود صخور ضخمة تعرقل طريقها، ما اضطر الحكومة المصرية إلى استيراد معدّات لتكسيرها، ووصل المشروع في عام 1877 حتى منطقة صرص. لكن الحاكم العام للسودان الجنرال غوردون، بسبب سوء مالية مصر آنذاك، أوقف العمل فيها.
في سنة 1884، اضطر الإنكليز إلى البدء مجدداً لاستكمال السكة، لأسباب عسكرية الغاية منها ربط طرق الإمداد ونقل القوات عبر السودان، لتصل إلى عُكاشة قاطعةً 141 كيلومتراً، في آب/ أغسطس 1885. ومجدداً توقف العمل في السكة لدواعٍ أمنية بعد سيطرة الثوار المهديين على الخرطوم، وبعد خروجهم عاد العمل مجدداً في السكة لتصل إلى منطقة كرمة بالغةً مسافتها بالمجمل 327 كيلومتراً.
في عام 1898، واستجابةً من الإنكليز مجدداً للضرورات العسكرية وإحكام سيطرتهم على البلاد، تم إيصال السكة إلى الخرطوم عبر الحلفا، ثم إلى عطبرة بحيث ربط الأجزاء الشرقية للبلاد. وفي سنة 1905، تم إنشاء أول ميناء بري في منطقة الشيخ برغوث، افتتحه اللورد كرومر، ليُربط في نهاية العام نفسه بمحطة السلوم.
ولربط الأجزاء الغربية والجنوبية للبلاد بعضها ببعض، أنشأ الإنكليز سكةً بين الخرطوم ومدني وصولاً إلى الأبيض انتهت في مناطق كردفان والجزيرة في عام 1911. وفي ستينيات القرن الماضي، وبعد الاستقلال، تم توسيع السكة لتصل إلى إقليم دارفور ومدينتي نيالا وواو حتى النيل الأزرق وسنار لتشكل السكة أكبر رابط بين مختلف أقاليم السودان، حيث بلغ امتدادها 4،757 كيلومتراً.
أول نقابة عمالية
مع نشأتها الأولى، خضعت السكة لإدارة مباشرة من قبل حكومة السودان البريطانية، وشغل وظائفها الرئيسية عسكريون. استمر الوضع على ما هو عليه حتى عام 1902، عندما بدأ الموظفون المدنيون السودانيون يشغلون مناصب إداريةً حساسةً في الهيئة المحدثة، تحديداً مع انتقال مركز الإدارة الرئيسي للسكة من الحلفا إلى مدينة عطبرة، سنة 1906.
في أواخر أربعينيات القرن الماضي، تحديداً بين عامي (1948-1949)، تأسست نقابة عمال السكة الحديدية، وأُجريت أول انتخابات لاختيار أعضائها، بشكل ديمقراطي، وكانت الفاتحة لإنشاء نقابات أخرى لقطاعات إنتاجية أهمها نقابة مزارعي الجزيرة. ساهم العمل النقابي بشكل كبير في الكفاح السياسي ضد سلطات الاحتلال لتحقيق الاستقلال. وبرغم قيام البريطانيين بإخماد أي تحركات عمالية بالحديد والنار كما حدث في سنة 1947، إلا أنهم غادروا على متن قطارات سكة الحديد نفسها التي أدخلوها إلى البلاد.
كذلك كانت الحركة النقابية السبب الرئيس في إنهاء سلطة عبود الديكتاتورية، في سنة 1964، إثر خروج قطارين من بورتسودان باتجاه الخرطوم لدعم الثوار المنتفضين، وكانت عطبرة مهدها في تشرين الأول/ أكتوبر، على شكل إضراب عام امتد إلى سائر أنحاء البلاد حتى إسقاط النظام.
بعد ذلك التاريخ، وتحديداً في عام 1967، اتخذت السكة صفة الهيئة الإدارية المستقلة التي يترأسها مدير عام يساعده مجلس استشاري يتألف من خمسة أعضاء بينهم وزير النقل.
كانت الحركة النقابية السبب الرئيس في إنهاء سلطة عبود الديكتاتورية، في سنة 1964،
بلغت السكة خلال هذه الفترة أوج ازدهارها حتى منتصف السبعينيات، لكونها الوسيلة الأكثر شعبيةً والأرخص لنقل الركاب والبضائع عبر البلاد. لكن "مجلس الثورة الجديد" في البلاد، بقيادة الجنرال جعفر نميري، بعد انقلاب 1969، سرعان ما أصدر قراراً يحمل رقم 69، في التاسع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1970، يقضي بحل الهيئة وإلغاء صفتها المستقلة ووضعها مباشرةً تحت إشراف وزارة النقل سعياً منه إلى التخفيف من تأثيرها الشعبي كنقابة، ثم تمّ في عام 1981، نقل مركز الإدارة إلى العاصمة الخرطوم. وبرغم التعديل الذي صدر سنة 1985، القاضي بمنح صلاحيات واسعة لمديري الأقاليم المسؤولين عن السكة ومنحهم صفة مستشارين، إلا أن العصر الذهبي للمؤسسة الشعبية بدأ عملياً بالأفول ليأتي عهد حكومة الإنقاذ وإجراءاتها التعسفية مطلع التسعينيات إلى جانب العقوبات الأمريكية لتكونا رصاصة الرحمة بالنسبة إليها.
بين مطرقة الإنقاذ وسندان العقوبات
تحولت عطبرة إلى أيقونة للعمل الثوري، وتهديد دائم للسلطات المتعاقبة من خلال حركاتها العمالية والطلابية وتمدد التيار اليساري إليها. ومنذ مطلع التسعينيات، وبعد استلام حزب المؤتمر الوطني (PCN)، زمام السلطة في البلاد، حاول الرئيس المعزول عمر البشير، قصقصة أجنحة تلك الحركات سريعاً، فأصدر الأوامر بتسريح قرابة 4،000 عامل وتجميد قبول طلبات التوظيف، ثم تعيين المقربين منه في الإدارة ومفاصل الهيئة، بالإضافة إلى منحه احتكاراً مربحاً لجنرالاته في قطاع النقل البري لكسر ظهر النقابة العريقة، ما أوقع السكة تحت وطأة الإهمال والفساد وسوء الإدارة.
بالإضافة إلى سياسات النظام السابق، كانت العقوبات الأمريكية الاقتصادية في سنة 1997، التي جاءت على خلفية تصنيف السودان دولةً "داعمةً للإرهاب"، ضربةً قاصمةً لقطاع سكة الحديد، لا سيما أن معظم قطاراته أمريكية الصنع، ما منع وصول قطع الغيار والصيانة اللازمة لها بسبب العقوبات. وتناول تقرير لصحيفة التلغراف البريطانية نُشر في العاشر من آب/ أغسطس 2021، التردي الذي أصاب رئة الحياة والنقل في البلاد، من خلال وصف انتشار مظاهر الصدأ والغبار على القطارات المكشوفة تحت أشعة الشمس، والصفقات والمراوغة للحصول على قطع غيار من دول أخرى، ومخاطر السير على سكة قطّعت أوصالها الصراعات والحروب الداخلية على مدار سنوات.
في كانون الأول/ ديسمبر 2018، أظهرت عطبرة أنها مدينة لا تموت، على الرغم من المحاولات المستمرة لتهميشها وتحويلها إلى "مدينة نائمة"، فمنها انطلقت الشرارة الأولى للتغيير، وبعد أربعة أشهر وتحديداً في نيسان/ أبريل، أرسل عمال السكة قطاراً يحمل الثوار باتجاه الخرطوم وقطعوا مسافة 300 كيلومتر للمرة الأولى منذ سنوات، للمشاركة في الاحتجاجات المناهضة لحكم البشير، وهم يهتفون: "ثورة... ثورة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين