شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
النمو المُشوَّه لريف الخرطوم... مأزق السودان في التطور والحداثة

النمو المُشوَّه لريف الخرطوم... مأزق السودان في التطور والحداثة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 18 مايو 202205:09 م

يبدو أن المقولة الكولونيالية "يسير الاقتصاد السوداني بقوة الدفع الاستعماري مدة 20 عاماً"، قد أصابت، وبالفعل شهد الاقتصاد في السودان تراجعاً مريعاً عام 1976، إبان حقبة الديكتاتورية المايوية، وانهار كلياً في الأعوام القليلة التالية.

قرر جعفر نميري جملة إصلاحات سياسية واقتصادية: مصالحة سياسية مع المعارضة من دون جدوى، والالتحاق بسياسات البنك الدولي وتعويم الجنيه الذي فقد قيمته ولم يتعافَ حتى اليوم، ثم هرب النميري، الذي كان محاصراً بشبح الحرب والمجاعة، إلى الأمام أكثر، فأعلن عن قوانين إسلامية متشددة بإيعاز من شركائه الإسلاميين الجدد الذين فرضوا محاكم العدالة الناجزة وقوانين الجلد والصلب وقطع الأيدي والأرجل. ووقف سكان المدن في طوابير الخبز و"الطلمبات"، وانفجرت المجاعة في الأرياف وتجددت حرب الهامش بضراوة أكثر هذه المرة، وبدأ نزوحٌ غير مسبوق صوب المدن: تغيّر الريف مرةً وإلى الأبد.

اكتشاف مبكر

وسط هذه البلبلة الجائلة، قرر أبي بيع بيتنا المستحق وفق الخطة السكنية في الثورة-الحارة السابعة، وشراء قطعة أرضٍ واسعة في قرية "ود البخيت وبلال"، في شمال مدينة أم درمان، والتي عثر عليها قبل أن يفقد عمله في شركة "موبيل أويل" موزعاً لحصص غازولين التموين على التعاونيات التي كانت تكفل بدورها حق الامتياز الاقتصادي الضروري في العيش بين الدولة ورعاياها.

شيَّد أبي بيته الجديد بطين الجالوص على طراز المنطقة المستوحى من الدولة السنارية قبل نصف قرن من الآن. تبدل سكننا من وسط المدينة إلى الريف، بلا ماء أو كهرباء، للمرة الأولى، وتحول أبي إلى صاحب تاكسي وأول مشترٍ لقطعة سكنية هنا. كان بيتنا آخر بيت في القرية الطيبة الوادعة.

تقع "ود البخيت وبلال" فوق أرض صلبة على الضفة الغربية للنيل، على بعد ثمانية كيلومترات من أم درمان، وقريباً من جبل سوركاب الذي شهد معركة كرري عام 1898. يُرجح طلب عبد العزيز، صاحب "كمينة" طوب، وحفيد محمد البخيت مؤسس القرية، أن القرية تأسست في عام 1840.

يقول: "جاء أسلافي من المسلَّمية في الجزيرة، وتصاهروا مع (الجموعية)، أصحاب المنطقة التاريخيين، الذين يعملون في الرعي والزراعة وهم منهمكون في التصوف. احتفظت القرية بسمتها الأصلي نفسه خلال القرن الماضي، والأجيال المحافظة، وبيوت الحجر والجالوص، وزرائب الشوك، والمصاهرات التقليدية المنتقاة، وعلاقات العمل والإنتاج التكافلي. يشربون من البئر في الخريف ومن النهر بقية العام، وظل التغيير بطيئاً ومحافظاً لسنوات، ولم يحلّ سوى الوابور محل الشادوف لري زراعة الجُروف".

تبدُد الريف

منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وبعد سقوط حقبة أيار/ مايو إثر انتفاضة شعبية، بدأت مرحلة شراءٍ شرهٍ للأرض في القرية، التي تحميها غابات السيال العصية، وتغرد في سمائها جوقة القماري من صنف الدباس المطوَّق ويتفقدها الهدهد كل يوم، وتنتشي بحفاوةٍ لرؤية القبطيات في رحلات عيد الفصح النيلية. انفتح الأهالي، إذاً، على أنماط جديدة من العيش والرؤية والحلم. نشطت حركة بنّائي الجالوص وحفاري الآبار وتدفقت أموال الاغتراب من دول الخليج، والقرية تحاول السيطرة على بهائها الريفي قدر الإمكان، بالرغم من ترافق بدء توصيلات سعيدة للكهرباء بمساعدة حسن الفضل وسيارته المورس الزرقاء.

بدأ العمران الغريب يدب حثيثاً على حساب بيوت الحجر ذات النمط الكوشي والسناري العتيق. قُطعت أشجار السيال العاتية الصبورة، حارسة القرية، وقُطعت الحرازة الكبيرة. فقدت القرية واحدةً من مزاياها البسيطة الخلابة

شُيّد الجامع العتيق بهبة من أحد الصالحين وواصل التلاميذ، من دون ثقة تذكر في التعليم، قطع مسافات بعيدة لتلقي الدروس بين "العجيجة" و"الحتانة" المجاورتين، وفي المحصلة، تواصلت وفادة السكان الجدد من المدن الصغيرة في الأقاليم التي تأثرت بالضائقة المعيشية التي ضربت البلاد بسبب المجاعة والحرب وسياسات النظام المايوي الشمولي.

جاء الناس من كردفان والشمالية ومناطق النيل الأبيض، وتوسع سكان أم درمان القديمة هنا وبدأت القرية تستوعب واقعاً سكانياً خليطاً وقسرياً بين الريف المُبدد والحضر الطاغي. كسا القادمون الجدد جدران منازلهم بالسلك والمسمار والإسمنت، كتقليعة عمرانية حديثة، وتواعد العاشقون في ظلام الأزقة، بينما الجميع مشغولون بحلقة جديدة من مسلسل الثامنة مساءً المصري على القناة الرئيسية الوحيدة.

تتذكر عبد الباسط كيف شقّت وحيدةً دربها الوعر لمواصلة تعليمها وسط معارضة شرسة وشروط قاسية. تقول: "كنت الأولى على دفعتي. رضخت زميلاتي بينما مضيتُ بقوة وإصرار حتى الثانوي. كنت الوحيدة. أبي دافع عن تعليمي حتى أصبحت معلمةً في المدارس".

أثر الأصابع

بدأ العمران الغريب يدب حثيثاً على حساب بيوت الحجر ذات النمط الكوشي والسناري العتيق. قُطعت أشجار السيال العاتية الصبورة، حارسة القرية، وقُطعت الحرازة الكبيرة. فقدت القرية واحدةً من مزاياها البسيطة الخلابة: "طار القمري والدباز وطار الهدهد، وانمحى أثر أصابع الماشية فوق الطرقات، وتركت البنات عادة غسيل الملابس أمام النيل بعد تدين الدولة المفاجئ ولم يعد يأتي الأقباط في عيد شم النسيم.

أوقفت دولة الإنقاذ، التي قطعت التطور الديمقراطي بانقلاب عسكري، الخطة السكنية التي استحق أبي من خلالها بيتاً، وهي الخطة التي كانت تنظم حركة السكان في هدوء وتخطط لمدنٍ جديدة ومدروسة، تكفل حياةً كريمةً ومنظمةً للمواطنين مع ضمان مياهٍ نظيفة وخدماتٍ تعليمية وصحية وأنشطة اجتماعية، من أندية وحدائق ومتنزهات وغيرها من الحقوق والشروط الإنسانية. وشرعت الدولة، بالتزامن مع تجفيف المدن الكبرى وتجريف الريف السوداني، في توزيع كل شبرٍ غير مأهول "لكنه يشكل رئةً للتنفس السكني الضروري"، في ولاية الخرطوم، بزعم تنظيم السكن العشوائي وإعادة صياغة الإنسان السوداني؛ تضاعفت أعداد سكان الخرطوم عشرات المرات على حساب النمو الطبيعي لأرياف الخرطوم التي أصبحت خديجاً مشوهاً، بينما تريَّفت العاصمة بالكامل، ووفقاً للمجلس الأعلى للإستراتيجية والمعلومات في الولاية، "حسب تعداد العام 2008، فإن سكان ولاية الخرطوم نحو خمسة ملايين نسمة تقريباً، وهم خليط من قبائل السودان ومعظم السكان هم عمال وموظفون في دواوين الدولة والقطاع الخاص والبنوك، وأصحاب رؤوس الأموال الذين يعملون في التجارة، والمهاجرون والنازحون الذين يعملون في الأعمال الهامشية، أما سكان الريف فيعملون في الزراعة والرعي وهؤلاء هم الذين يمدون العاصمة الخرطوم بالخضروات والفاكهة والألبان، وهنالك أيضاً بعض السكان الذين يسكنون على ضفاف النهر ويمارسون صناعة الفخار والطوب وصيد الأسماك".

تضاعفت أعداد سكان الخرطوم عشرات المرات على حساب النمو الطبيعي لأرياف الخرطوم التي أصبحت خديجاً مشوهاً، بينما تريَّفت العاصمة بالكامل

توأمة سيامية

يقول حسين عبد المجيد بلال، إن جده يعمل فلاحاً، وقد جاء من منطقة المقرن في الخرطوم، وسُميت "الحلة" شمال ود البخيت باسمه. وإن أواصر اجتماعية عميقة نشأت بين القريتين حتى صار اسم المنطقة كلها "ود البخيت وبلال"، بلجنة إدارية واحدة وفريق كرة قدم واحد. يضيف: "نحن أهل". لكن "الإنقاذ" لم تترك هذه اللحمة في حال سبيلها وحولت البلدة إلى بلدتين في محاولة للسيطرة، بمزاعم تقصير الظل الإداري، ومضت في تغيير ديموغرافيا السودان عبر خصخصة الريف وإفقاره بربطه باقتصاد السوق المتوحش الذي عمل على تفتيت صلابة المجتمع القديم، المشيَّد على أخلاق الأسرة العائلية الممتدة وأواصر العلاقات التاريخية. ذهب مجتمع الوفرة والترابط وجاء مجتمع الاستهلاك والأنانية. شُيّدت المستوصفات العلاجية الخاصة في القرية، وبدلاً من التعاونيات افتُتحت الأفران والبقالات الحديثة والموليهات على أحدث طراز. نهضت البنايات الإسمنتية ذات الطوابق العالية على شوارع ضيقة ومتعرجة. ولكن في الجوار أيضاً، وتعزيزاً للمقاومة، بقيت زرائب الفحم والطلح وعَصَّارة الزيت تقاوم وتُذكّر بملامح البلدة القديمة.

يقف محمد عادل، الطالب الجامعي والشاعر، المولود في القرية من أسرة وافدة، شاهداً على نهضة البلدة الموازية لتدرجه في العمر، ويصف إدراكه لتشكل المعالم الناشئة من حوله وهو بعد صغير، بأنها ذات خصائص كمية متنامية، وأخرى نوعية في وسيط بدأ مختلفاً ومتعدد الأجناس والأنشطة الاجتماعية وفق ظروف شديدة التبدل. يقول لرصيف22: "بالنسبة إلي بدت المسألة كأنها صراع بين الفراغ والفراغ المضاد/ الاكتظاظ". ويضيف: "تجاورت جغرافيات مشجونة بالطابع الريفي، وأخرى متمدنة على السواء وفي النطاق ذاته وبالنسق نفسه. كان ذلك شيئاً خطراً".

ويقول طلب مجدداً: "تغير كل شيء، بطريقة غير مفهومة".

مأزق الريف

نظمت الأمم المتحدة المؤتمر الدولي الثالث للسكان والتنمية في القاهرة في عام 1994، وأفضى إلى وثيقة توجيهية لصندوق الأمم المتحدة للسكان مثلت نقطة تحول في مسألة حرية اختيار الأفراد في ما يتعلق بأجسادهم والتركيز على احتياجات الأفراد الضرورية وحقوقهم للتقدم وتحقيق التنمية المتوازنة، بالإضافة إلى تعزيز ممارسة حقوق الإنسان وتأمين الكرامة للجميع وإقرار الحق في تنظيم الأسرة، والحق في الصحة الإنجابية وتكريس مساواة النوع الاجتماعي والتصدي للعنف ضد النساء والقضاء على الفقر وتحقيق الاستقرار في النمو السكاني، والمساواة الكاملة في التعليم بين الإناث والذكور.

هاجم إعلام الإنقاذ المتشدد الوثيقة وقتها بضراوة وادّعى أنها تمثل تهديداً لمقومات الأمة الإسلامية وقيمها الأصيلة الراسخة وطمس الهوية الذاتية للمجتمع، في الوقت الذي كانت هي نفسها تمارس طمساً مشوهاً للريف السوداني وهويته البريئة والاعتداء على قيمه وإنسانه وتقوّض تطوره.

تقول خيرية: "لا تزال المرأة هنا تعاني ويتسرب الأطفال خارج المدرسة". تضيف: "لم تعد الدولة تحمي العملية التعليمية". وتؤكد: "ليس هناك تطور خارج التعليم". وتتابع قلقةً: "تطور كل شيء هنا، إلا الإنسان".

تعرف خيرية، ويعرف الكثيرون أن مأزق السودان في التطور والتحديث هو مأزق الريف بامتياز.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image