نشرت الجريدة التونسية الناطقة بالفرنسية "La Dépêche tunisienn"، يوم 13 أيلول/سبتمبر سنة 1900، أسماء الفائزين في المعرض العالمي للتصوير الفوتوغرافي، وقد ذُكر اسمه من بين الأسماء تلك، وحصل وقتها على الجائزة البرونزية.
قبلها بسنة، وفي الجريدة المذكورة أعلاه نفسِها، أعلن المُتوَّج عن فتح ورشة للتصوير بالأشعة السينية الطبية، وهو الميدان الذي صبّ فيه جلَّ اهتمامه وتركيزه، خاصةً أنه اكتسب فيه العديد من المعارف والمرجعيات العلمية والثقافية، انطلاقاً من رحلاته المتعددة التي قادته إلى مناطق عدة من العالم، خاصةً في دول أمريكا الشمالية وأستراليا، ليعود بعدها هذا النورس المهاجر، ويحطّ مرةً أخرى في تونس التي لم يقوَ على فراقها والابتعاد عنها، ويقرر فيها المساهمة في بناء منطلقات معرفية جديدة.
وعكس ما تعلّمه وما رآه وما أحس به في تلك الرحلات الكثيرة، فإن شغفه الأكبر صوّبه نحو الفنون، خاصةً السينما التي لم تزل مغامرةً جديدةً وقتذاك ولم تصنَّف بعد على أنها فن، بل فقط تجربة حياتية وترفيهية جديدة بالنسبة للتونسيين.
عاش ألبير 62 سنةً، وبرغم هذا العمر المتوسط، كتب اسمه بماء الذهب، إذ كان رائداً في العديد من الأشياء والتكنولوجيات الحديثة في ذلك الوقت، من بينها اهتمامه الكبير بالاختراعات الجديدة
وبرغم هذا، فقد هزّ هذا الوافد الجديد (السينما) كيانه، ودغدغ شغاف قلبه وروحه، لهذا أعطاه كل اهتمامه وجهده، ومشى على كل الدروب ليكون الجمهور التونسي على موعد لاكتشافه، ليس بعد عقد من الزمن، أو حتى بعد خمس سنوات، كما حدث في العديد من دول العالم، بل بعد سنة واحدة، مع بداية عروض المهندسَين الصناعيَين الفرنسيَين الأخوين أوغست ولويس لوميير، اللذين اكتشفا هذا الفن، وقدّماه إلى العالم سنة 1895، ليأتي بعدها التونسي سنة 1896، ويحتضن آلة العرض وما تحويه من سحر، ويقيم من خلالها عروضه الأولى في بلده تونس، وهذا من خلال تقديم عرضَي "L'arroseur arrosé" (46 ثانيةً)، و"L'arrivée d'un Train" (50 ثانيةً).
وتعود سرعة التعاطي مع هذا الوافد الجديد إلى مرجعيته القوية في عملية فهم سير الآلات الحديثة، لهذا لم تشكل آلة العرض بالنسبة له أي مشكلة أو عائق، وقد ساعدته حرفة التصوير الفوتوغرافي التي كان يملكها، ومهنته الأساسية في التصوير الطبي عن طريق الأشعة السينية؛ لهذا وجد الوصفة الأساسية في خوض هذه المغامرة بكل يُسر، وقدّم وصفةً ثقافيةً وفنيةً جديدةً كلياً للتونسيين الذين اكتشفوا هذا السحر مبكراً، بل عانقوا الفن السابع قبل غيرهم من الشعوب.
وسط المواجهات الدامية... كاميرا ترصد أهوال الحرب
هذه الصفات والمؤشرات المذكورة أعلاه، لا يمكن في حال من الأحوال إلا أن تنطبق على تونسي واحد ووحيد، هو رائد السينما التونسية ومؤسسها الأول، ألبير شمامة شيكلي (Albert Samama Chikli) (1872-1934)، وفي رواية أخرى يُذكر اسمه الأوسط "سمامة"، وهو فرق لا يؤثر أو يخدش مسار هذا الرجل الذي أضاء تاريخ تونس.
عاش ألبير 62 سنةً، وبرغم هذا العمر المتوسط، كتب اسمه بماء الذهب، إذ كان رائداً في العديد من الأشياء والتكنولوجيات الحديثة في ذلك الوقت، من بينها اهتمامه الكبير بالاختراعات الجديدة، مثل ركوبه الدراجات الهوائية، وحسب بعض المصادر فقد كان أول تونسي يركبها، وقد سافر بها إلى الجزائر، كما كان مهتماً بأجهزة اللاسلكي والتيليغراف التي ركّب أحدها في بيته في جزيرة "شيكلي" التونسية، وهي آلات أدخلها أو ساهم في وجودها في تونس.
وقد سمح له الوضع المالي المريح بأن يسافر ويكتشف ويدرس، خاصةً أنه ينحدر من عائلة يهودية ثرية ذات أصول إسبانية، إذ كان والده المصرفي مقرّباً ومستشاراً لباي تونس محمد الصادق باي (1813-1882)، كما كان يملك مؤسسةً بنكيةً تجاريةً مقرّها الرئيسي في مارسيليا، وهي المدينة التي درس وتعلم فيها ابنه ألبير شمامة. كل هذه كانت ظروف مواتية ساهمت في تكوين شخصيته المنعتقة والمغامرة التي ظهرت عليه مبكراً، فقد كان يسافر عن طريق مركب، صال وجال به العديد من الدول، وهي السفريات والرحلات التي شحنته بالمعارف الجديدة والمختلفة، وكوّنت شخصيته القوية والجامحة في الوقت نفسه.
أنجز ألبير في بداياته الأولى العديد من الأفلام الوثائقية ذات الأحجام المختلفة، وباعها للعديد من الشركات العالمية، ومن بينها أفلام وثائقية صوّرها عن طريق المنطاد سنة 1908، وهي السنة التي افتتح فيها أول صالة عرض سينمائي في تونس تحت تسمية "أمنية باتي"، كما صوّر أيضاً مناظر ومشاهد تحت الماء عن طريق غواصة خشبية، ولم يكن الفن وحده من سلب عقله واهتمامه، بل المغامرة أيضاً ساهمت في هذا، إذ بدأ العمل في الصحافة كمصوّر، وقد غطى العديد من المعارك خلال الحرب الإيطالية التركية التي جرت في ليبيا سنة 1911.
كما انخرط بعدها في خلية السمعي البصري التابعة للجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، وأعدّ وصوّر وقتها العديد من التقارير حول الجيش الفرنسي ونشاطه وأهدافه ودعايته.
كما يعود له الفضل في توثيق إحدى أهم المعارك وأطولها خلال الحرب العالمية الثانية، وهي معركة "فردان" التي جرت خلال الفترة من 21 شباط/ فبراير حتى 18 كانون الأول/ديسمبر عام 1916، على الجبهة الغربية في فرنسا، وقد صوّر خنادق المواجهة الشهيرة، وقد عُرف بنشاطه وجرأته وحرفيته في هذا المجال، لذا رفع قادته العسكريون العديد من التقارير الإيجابية حول شجاعته ومهنيته وتنفيذه مهامه تحت أي ظرف، خاصةً خلال الاشتباكات المدفعية العنيفة التي كانت تحدث، أو في أي ظرف كانت تقتضيه الضرورة العسكرية والدعائية للجيش الفرنسي؛ ما جعل السنوات التي قضاها في خضم الحرب تحت القيادة الفرنسية تكلّل بـ52 فيلماً سمعياً بصرياً، وأكثر من 2،600 صورة بالأبيض والأسود، أصبحت مرجعاً مهماً بعد توثيق تلك المواجهات الدامية.
اليهودي المغامر الذي أسس للسينما التونسية
لكن بالنسبة له، الإثارة وحدها لا تصنع فناً خالداً حسب معتقده، لذا عاد مرةً أخرى إلى تونس، من أجل أن يحدث نهضةً سينمائيةً، ويساهم في بلورة توجه جديد لهذا الفن في بلده، وبدأ مغامرة الإخراج والإنتاج والصناعة السينمائية، وكانت البداية من خلال فيلمه الروائي الرائد "زهرة" (35 دقيقةً، 1922)، الذي يُعدّ أول فيلم محلي، ليس في تونس فقط، بل في قارة إفريقيا ككل، وقد أرّخ به حبر البدايات في السينما التونسية، وأصبح حجة تونس على الريادة في هذا الفن.
وقد كتبت قصة هذا الفيلم الروائي القصير، ولعبت دور البطولة فيه ابنته هايدي شمامة تمزالي (1906-1998)، التي تُعدّ هي الأخرى إحدى الرائدات التونسيات الأوائل في التمثيل والكتابة للسينما، ويعود الفضل لها في الدفاع عن المرأة بشكل مبكر جداً عن طريق السينما. لهذا عكست كل الأعمال التي كتبتها أو مثلت فيها وعيها الكبير بقضايا المرأة، وهي النقطة التي تشترك فيها مع والدها ألبير شمامة الذي كان هو الآخر مدافعاً شرساً عنها، ويروي فيلم "زهرة" قصة شابة فرنسية تحطمت سفينتها في عرض البحر، ليتم إنقاذها من طرف بدو، من خلالهم نكتشف تقاليدهم وطرائق عيشهم.
عكس ما تعلمه وما رآه وما أحس به في تلك الرحلات الكثيرة، فإن شغفه الأكبر صوّبه نحو الفنون، خاصةً السينما التي لم تزل مغامرةً جديدةً وقتذاك، ولم تصنَّف بعد على أنها فن، بل فقط تجربة حياتية وترفيهية جديدة بالنسبة للتونسيين
بعدها بسنتين، أخرج ألبير ثاني أفلامه الروائية، سنة 1924، بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلمه الأول، وعنون عمله الروائي الثاني بـ"عين الغزال" وفي النسخة الفرنسية اختار له عنوان (La fille de Carthage) (17 دقيقةً)، وهي خطوة ذكية من المخرج، بحكم أن قرطاج أو تسمية قرطاج لديها محمول ثقافي وتاريخي مهم لتونس. ويروي العمل حسب ما جاء في ملخصه، أحداث ارتباط فتاة ابنة ضابط تونسي بمأذون فقير، في الوقت الذي كان فيه فلاح ثري يحبها، ويطلب يدها من أبيها. يوافق الضابط أن تتزوج ابنته من الفلاح، وتهرب الابنة مع المأذون، لكن الفلاح يتمكن من إعادتهما، ويساق الشاب إلى السجن، أما هي فتنتحر.
لعبت ابنته هايدي تمزالي دور البطلة في الفيلم الثاني كما في الأول، ويعود لها الفضل في كتابة سيناريو الفيلم.
ركّز ألبير شمامة شيكلي في سنواته الأخيرة، في مجال السياحة والأسفار، فقد كان مرشداً ومنظّماً للعديد من الحفلات، لتنتهي حياته سنة 1934، ويعود سبب الوفاة بالدرجة الأولى إلى تسمم جسمه من الغازات الكيميائية السامة التي بقيت فيه منذ الحرب العالمية الأولى. دُفن في مقبرة بورجل في العاصمة التونسية، وهي مقبرة خاصة باليهود، وكُتب على شاهدة قبره: "Inlassable dans la curiosité, téméraire dans le courage, résigné dans le malheur, il laisse des amis" (مثابر في الفضول، متهور في الشجاعة، مستسلم في المحن، يتخلى عن الأصدقاء).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...