منذ عشرينيات القرن الماضي والمرأة التونسية تعاني اضطهاداً اجتماعياً كبيراً. في ذلك الوقت، فتح هذا الواقع نقاشاً حول وضعية المرأة وحقوقها وحرياتها، وظهر مصلحون وأطروحات إصلاحيّة أشهرها للطاهر الحداد وكتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي أثار جدلاً في مختلف الأقطار العربية. ورغم كل الظروف التي كانت تمر بها تونس الرازحة تحت الاستعمار الفرنسي، ورغم وضعية المرأة عموماً في البلاد، تمكنت توحيدة بالشيخ من كتابة قصة نجاح مميزة، لدى مواصلتها دراستها، وحصولها على شهادة البكالوريا، ثم سفرها إلى فرنسا وعودتها بشهادة الطّب. توحيدة بالشيخ التي ولدت في يناير 1909، تنحدرُ من عائلة ميسورة من مدينة بنزرت أقصى شمال البلاد، وفي شهادة لها قدمتها للباحثة ليلى بن تميم في كتاب جماعي بعنوان "نساء وذاكرة: تونسيات في الحياة العامة 1920-1960" الصادر عن مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة، تذكر بالشيخ بأنّ والدها كان فلاحاً، وقد توفّي أشهراً قليلة بعد مولدها.
وتضيف: "كنّا أربعة إخوة، ثلاث بنات وأخ ولد بعد موت أبي. أمّي حلّومة بن عمّار (شقيقة الطاهر بن عمار رئيس الحكومة التونسية عام 1954) هي التي ربّتنا، كانت إمرأة رائعة، مسلمة تؤدي الفرائض ومثقّفة، وكانت متفتّحة رغم أنها لا تعرف لا اللغة ولا الثقافة الفرنسية، وقد حرصت على تعليم أبنائها".
وتواصل بالشيخ سرد قصتها بالقول: "التحقتُ أنا وأخواتي بمدرسة نهج الباشا، وأنهينا المرحلة الثانوية، وتم ترسيمي بمعهد أرمان فاليير حيث نلت شهادة البكالوريا في العام 1928".
اللقاء الحاسم واختيار دراسة الطب
بعد حصولها على شهادة البكالوريا، وهي أوّل تونسية تحصل عليها، لم تكن توحيدة بالشيخ تدري ماذا تريد أن تدرس، حتى التقت بالسيدة Burnet زوجة الطبيب والباحث الفرنسي الدكتور Etienne Burnet الذي عيّن مديراً لمعهد باستور في تونس. وعن هذا اللقاء تقول بالشيخ في شهادتها: "كانت امرأة حيوية من أصول روسيّة، وقد تم تقديمي إليها من طرف أحد أساتذتي الذي كان يرغب في أن أواصل دراستي العليا، وعندما سألتني ماذا أريد أن أفعل في المستقبل، أجبتها بأني أتمنى القيام بعمل اجتماعي وتقديم المساعدة لمن هم في حاجة اليها". فاقترحت عليها السيدة Burnet لقاء زوجها، وتروي بالشيخ: "أتذكّر اليوم الذي التقيت فيه بالسيد Burnet في شهر جوان (يونيو) من العام 1928، حيث وجدتُ نفسي وحيدة في منزلهم الواقع على هضبة البلفدير (حديقة كبيرة وسط تونس العاصمة)، ومنذ أن رآني سألني: "إذن ماذا تريدين أن تفعلي يا صغيرتي"، فأجبته: "من المحتمل أن أدرس الطب، لكن وبما أنه لا توجد كليّة للطب في تونس، يجب علي أن أتوجّه إلى الجزائر". فاقترح عليها الدكتور Burnet أنّها إذا "أرادت دراسة الطب فإنّه يجب عليها أن تدخل من الباب الكبير وتذهب إلى باريس".امرأة في عالم كله من الرجال، هكذا كانت توحيدة بالشيخ... أول سيدة تونسية تدرس الطبوتضيف توحيدة بالشيخ: "انفجرت ضاحكةً وقلتُ "أنت تحلمُ يا سيدي"، فأجابني بالقول: "أستطيع مساعدتك، أعرف الكثير من الناس في باريس، وأستطيع تنظيم ذهابك".
متاعب إقناع العائلة والسفر إلى باريس
عند عودتها إلى البيت، حدّثت الشابة التي لم تبلغ من العمر بعد العشرين عاماً، أمّها وإخوتها عن اقتراح الطبيب الفرنسي، وتروي توحيدة بالشيخ قائلة: "بدت لي الفكرة غير قابلة للإقناع خاصةً لأمّي التي كانت قد رفضت فكرة سفر أخي الذي حصل على شهادة البكالوريا في نفس الوقت، إلى باريس، من أجل دراسته العليا، لقد كانت خائفة من أنّ إبنها الوحيد قد يتزوّج فرنسية ويستقر نهائياً هناك".كانت جبهة الرفض واسعة من قبل العائلة، فجدّتها وأخوالها، دعوا أمها إلى أن لا تسمح لها بالسفر، في الوقت الذي كان فيه الدكتور Burnet يكاتب أصدقاءه ليعثر لها على عائلة تقيم عندها أثناء دراستها، وقد وجد في النهاية مبيتاً للفتيات أسّسته سيّدة أميركيّة في باريس.
واجهت توحيدة بالشيخ صعوبات كبيرة في إقناع عائلتها بالسّفر لمواصلة دراستها في باريس، فرغم اقتناع أمّها في النهاية، إلاّ أنّ بقيّة العائلة كانوا رافضين بشكل قاطع، وتواصلت المتاعب إلى اللحظات الأخيرة. فحتى قبل سفرها بدقائق، والسيارة التي ستقلها إلى الميناء رابضة أمام البيت، تَواصل الجدل داخل العائلة الموسعة حول السماح لها بالرّحيل، غير أنّ الأمّ حسمت النّقاش بالقول "إبنتي تريد أن تدرس، تريد أن تتعلّم، وأنتم تعرفون بأنّ هذا فرضٌ في الإسلام على النّساء والرّجال"، ووسط صمت الجميع، أخذت الشابة معطفها وحقائبها وانطلقت في رحلتها نحو باريس.
تفاصيل الحياة الباريسية والعودة بالشهادة
وتواصل بالشيخ سرد ذكرياتها قائلة "وجدت نفسي في مدينة بدت لي كأنّها الجّنة، ومبيت الطالبات كان مريحاً، ومؤثّثاً بطريقة جيّدة، وكان مخصصاً لطالبات من 25 جنسية". كانت مصاريف الدّراسة تأتيها من أمّها من تونس ولا تتذكّر في شهادتها إن كانت قد حصلت على منحة دراسيّة أم لا، وكانت عودتها إلى تونس منتظمة نهاية كل عام دراسي، وبعد عامها الرّابع اضطرت لمغادرة المبيت الجامعي لتترك المكان لطالبات أخريات، وهنا تشير بالشيخ قائلة "ومن حسن حظّي فإنّ عائلة السيّد Burnet كانت قد استقرت في باريس، فسكنت معهم، وفي بيتهم تمكنت من مخالطة رجال علم وكتاب وشخصيات طبيّة". اشتغلت توحيدة بالشيخ خلال دراستها كطبيبة متدرّبة في مستشفى بباريس، وكانت تحت إدارة كبار أطبّاء ذلك الوقت. وفي العام 1936، حازت شهادتها في الطّب، وعادت بها إلى تونس، وسط ترحيب كبير من العائلة والأوساط الثقافية والسياسية، إذ احتفت بها الصحافة، ونظم لها "الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي" حفل تكريم في الـ18 من أبريل عام 1937، وفق ما ذكرت ليلى بن تميم على هامش حوارها مع بالشيخ.النشاط الاجتماعي في تونس وبناء دولة الاستقلال
بعد عودتها إلى تونس اشتغلت توحيدة بالشيخ أوّل طبيبة تونسية، لحسابها الخاص، فقد ذكرت أنها لم تتمكّن من العمل في المستشفى لأنها "كانت بيد الفرنسيين، فقد كانت توجد الكثير من الطبيبات ولكن التونسية يصعب عليها العمل هناك". عملت في البداية في الطب العام، لكنها تخصصت بعد ذلك في طب النساء والتوليد لأنّ النساء كن يأتين إليها كثيراً. وفي العام 1942 تزوجت بالشيخ من زميل أخيها في دراسة طب الأسنان في باريس، وأنجبت منه ثلاثة أطفال قبل أن يتوفى في العام 1963.أمّا عن النشاط السياسي والاجتماعي، فتقول بالشيخ في شهادتها إنها لم تكن تهتم بالسياسة، وقد دعتها بشيرة بن مراد للانخراط في "الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي" لكنها لم تنشط فيه فترة طويلة، فأكثر ما كانت تريد فعله هو ممارسة مهنتها وتقديم المساعدة عبر الطب.
وشغلت بالشيخ منصب نائب رئيس "الهلال الأحمر التونسي"، وتؤكّد أنها في أحداث العام 1952 بالوطن القبلي شمال شرقي البلاد، انتقلت إلى المكان عينه وقدمت تقريراً يدين السلطات الفرنسيّة.
وبعد استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي عام 1956، بدأت توحيدة بالشيخ نضالها في مجال الصحة النسائية والإنجابية، وانخرطت في مشروع سياسة تحديد النّسل التي تبنتها الدّولة، فأنشأت قسماً خاصاً بالتنظيم العائلي في مستشفى شارل نيكول بالعاصمة عام 1963، وعيّنت مديرة لبرنامج التنظيم العائلي في العام 1970.
تعتبر توحيدة بالشيخ من بين عناصر النخبة المثقفة والمناضلة في تونس زمن الاستعمار، والمساهمين في بناء الدّولة الوطنية المستقلة، إذ انخرطت في الكثير من الأنشطة السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية.
وتولت الإشراف على مجلّة "ليلى"، وهي أوّل مجلة نسائية تونسية ناطقة بالفرنسية بدأت بالصدور في ديسمبر 1936 كمجلة أسبوعية ثمّ شهرية، قبل أن تتوّقف عن الصّدور نهائياً في يوليو 1941، وكانت بالشيخ توقّع مقالاتها باسم "ليلى ماني".
كانت توحيدة بالشيخ محل احتفاء تونسي كبير، بعدما تم تناول مسيرتها في فيلم خاص بعنوان "نضال حكيمة"، وأصدر "البريد التونسي" طوابع بريدية تحمل صورتها، كما أنشأت مجموعة من الأطباء جمعية طبية تحمل اسم "جمعية توحيدة بالشيخ للسند الطبي" اعترافاً بمكانة هذه الطبيبة المناضلة والمميزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...