شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عندما أحالتني

عندما أحالتني "لا" إلى شاعرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 29 أكتوبر 202201:42 م

"لا"


في هذه البقعة الجغرافية الممسوسة بشيطاني الخوف والقلق، ستكون النتيجة الطبيعية للولادات البشرية فيها انحناء في الرّقبة، طأطأة في الرّأس وتقوّساً في العمود الفقري، مع ملامح للوجه يغلب عليها الخجل، فترى العيون ترتجف وكأنّها لا تقوى على استدامة النّظر، مع توجيه دائم لأفق النّظر نحو الأسفل، والشّفاه ترتعش ما إن تهمّ في نطق حتى تحيّة الصّباح. في هذه البقعة الجغرافية الممسوسة، لا أحد يرى ربّه.

خسارتي لكرتونة مقابل اكتسابي رقبة مشدودة

كنت في الصّف الثّالث الابتدائي، عندما لاحظت أنّ رقبتي بدأت بالانحناء لكثرة ما أقول كلمتي "نعم" و"حاضر"، وفي يوم توزيع الجلاءات المدرسية للفصل الدّراسي الأول، أعطت المعلمة منى ابنها شهادة الامتياز، وقالت إنّه الأول على الصّف، في حين أعطتني شهادة تفوّق وقالت إنّي الثّانية، فوضعت الجلاء مع شهادة التّفوق على طاولتها وقلت: "لا أريدهم". وبمجرّد لفظي لكلمة "لا" لاحظت أنّ شكل رقبتي تغيّر قليلاً، لذلك عندما وبّختني المعلمة على سلوكي، ابتسمت لاكتشافي وأعدت قولي: "لا أريدهم. أنا أشطر من ابنك"، لألاحظ مباشرةً التّأثير الخفي لكلمة "لا" مرة ثانية على رقبتي.

وصلت البيت، وفي حين كان أخوتي يستعرضون جلاءاتهم على أمّي، سألتني عن جلائي المدرسي، فحدّثتها بما حصل، فوبّختني. وصباح اليوم التّالي، قلت لها: "لا أريد الذّهاب للمدرسة"، هنا لاحظت تماماً الاستقامة التي اكتسبتها رقبتي، شدّتني أمّي من أذني، وأنا أكرّر رفضي الذّهاب إلى صف تلك المعلمة الغشّاشة التي تُحابي ابنها على بقية التّلاميذ.

كان أبي في العمل، ووصل البيت في ذلك اليوم، احتضني وحدّثته أنّي الأشطر وأنّي أستحق الامتياز، وصباح اليوم التّالي ذهب معي إلى المدرسة، وناقش أثر الأمر على نفسيتي مع المديرة التي كانت بلا أولاد، الأمر الذي جعلها رحيمة وتتعاطف مع الطّلاب. أتذكّر قولها للمعلمة التي لم أفهمها تماماً حينها، وفهمتها لاحقاً: "أتقتلين رغبة طفلة بالتّعلم، وهي بالفعل مميزة، بسبب كرتونة طُبعَ عليها رسومات؟".

قلت "لا" للمجتمع الذكوري والسلطوي، "لا" للأديان، "لا" للطائفية، "لا" للتنمّر، "لا" للعنف اللفظي والجسدي، "لا" لتقسيم العالم إلى أبيض وأسود، فالأبيض عندما يتسخ يصبح أسود، والأسود عندما يتسخ يصبح أبيض.... مجاز

كانت المعلمة منى عنيدة ومتحيّزة، ولم تغيّر موقفها. لم أحصل حينها على كرتونة مكتوب عليها "امتياز"، لكن حصلت على رقبة مشدودة ميّزتني عن كافة أبناء جيلي الذين كلّما تقدّمنا  في صف اكتسبوا انحناء أشدّ في رقابهم.

عداوة مشرفة السّلوك التي سبّبت استقامة ظهري

عندما كنت في الصّف الثّامن من مرحلة التّعليم الأساسي، كان قد تمّ مسبقاً إلغاء مادة التّربية العسكرية، وبالتّالي إلغاء مهمة "مدرّب الفتوّة" في المدارس وتحويل مهمته إلى مشرف سلوك، لكن لطالما سمعت من أخوتي الذين عاشوا مرحلة مادة التّربية العسكرية عن صفات مدرّب الفتوة، من قسوة ووجه حاد وقلب متحجّر.

في إحدى أيام الفصل الدّراسي الثّاني، قرّرت مشرفة السّلوك معاقبة طلاب صفي، فطلبت منّا الزّحف على ركبِنا، وعندما جثونا انتبهت أنّ هذه العقوبة ستؤدي لتخريب حذائي الأسود الشّاموا الذي كان قد اصطحبني أبي منذ أسبوع تماماً لشرائه كمكافأة، كوني حصلت على المرتبة الأولى ومجموع شبه تام في الفصل الدّراسي الأول؛ فوقفت مباشرةً قائلةً لمشرفة السّلوك: "لا أريد تنفيذ العقوبة، فأنا أساساً لم أُسىء التّصرف". وهنا لاحظت أنّ تغيراً حدث في استقامة ظهري. انصدمت مشرفة السّلوك، وجحظت عيناها، فهي من قضت أكثر من عشرين عام من مهنتها في إعطاء مادة التّربية العسكرية، وفي إرهاب الطّلاب، وإصابتهم بأشدّ أنواع الرّعب بمجرد صرخة واحدة من صوتها، وبعد كل هذه المسيرة لها، تأتي طالبة لا يتجاوز طولها 150سم، بوجهٍ طفولي وغمّازتين، وبصوت طبقته منخفضة وهادئة، لتقول لها بكل بساطة وثقة: "لا أريد". صرخت في وجهي، لأنضم لرفاقي، فالعقوبة جماعية.

كلما قلت "لا" ازدادت استقامة ظهري وسعة نظرتي

فكررت الرّفض وأنا مبتسمة: "لا أريد". وبالفعل لاحظت ازدياد استقامة ظهري، عندها قالت لي بصوتٍ أعلى: "اذهبي إلى الإدارة، مباشرةً". نفّذ العقوبة طلاب الصّف جميعاً، في حين كنت في الإدارة أحكي للمدير أنّ مشرفة السّلوك أرسلتني إلى الإدارة لأنّي لا أريد تنفيذ العقوبة، فأنا لا علاقة لي بالمشكلة التي حدثت بين زملائي وانقسام أغلبهم لفريقين متعاركين، وعندما طلبَ مني أن أفتح يدي ليضربني بالعصا، قلت: "لا أريد". طلب مني الذّهاب للبيت، وأن آتي في اليوم التّالي مع ولي أمري، فابتسمت لأنّي لاحظت مدى الاستقامة التي أصبحت في ظهري إضافة لرقبتي المشدودة غير المنحنية، الأمر الذي جعلني أبدو مختلفة كليّاً عن جميع طلاب المدرسة.

في البيت أخبرت والدي على الهاتف أنّي رفضت تنفيذ العقوبة لأن حذائي سيتضرّر، ولا أريد إفساد هدية نجاحي، ضحك والدي وطلب من والدتي تغييبي عن المدرسة في اليوم التّالي، حتى يحصل على إجازته، ويستطيع الذّهاب بصحبتي للمدرسة، وعندما اصطحبني استطاع بنجاح تحويل الموضوع لشيء من الفكاهة، قائلاً وهو يضحك: "طفلة ومبسوطة بحذائها الجديد، والله لو انتزع كنت أنا عاقبتها، ويا حرام كانوا صاروا عقوبتين".

تبادل المزاح والحديث هو والمدير، في حين بقيت مشرفة السّلوك تومئ لي بالتّهديد ونظرات الشّر وكأنّها كانت تريد ابتلاعي. ورغم المضايقات التي كانت توجهها لي بطريقة غير مباشرة على مدار فصل دراسي كامل، وأثر ذلك النّفسي بداخلي، لم تنجح أبداً في ابتلاعي، فقد كنتُ مبتهجة بتميزي عن باقي طلاب المدرسة بظهري ورقبتي.

الآن أرى الأفق بعينين غير مرتجفة

خلال دراستي للمرحلة الثّانوية ومن ثمّ الجامعية، وبعدما اكتشفت القوة الكامنة في كلمة "لا"، استمرّيت في قول هذه الكلمة لمواجهة كثير من المواقف والأشخاص،  وأنا أستمتع بأنّها كانت تضبط شَدّ رقبتي واستقامة ظهري، إلى أن جاء يوم ولاحظت تغيراً جديداً في عينَي. أخبرتني أمّي أنّ ابن عمي سيتقدّم لخطبتي، وأنّها سعيدة جداً بذلك، إذ إنّني سأسكن على بعد 500م عنها، وهذا أمر سيضمن قربي من بيت أهلي وبيت عمي الذين سيصبحون بيت أهل زوجي.

تلمحني النّساء، فتسارع المتزوجات منهنّ لوضع أيديهن على أعين أزواجهن، وأمّا الرّجال يتبعوني بصمتٍ وسريّة تامّة كما يتبع الغاوون الشّعراء،، وهكذا أصبحتُ شاعرة... مجاز

واستمرت أمّي في سرد التّفاصيل عن حياتي الزّوجية والعائلية المستقبلية، والتي رسمتها هي وزوجة عمي، لأقاطعها قائلة بكل هدوء: "لا أرغب بالزّواج"، وهنا لاحظت أنّ الارتجاف في عيوني الذي رافقني طوال ثلاث وعشرين عاماً قد توقف. أخذت أمّي تولول قائلة: "اصمتي ولا تسمعيني صوتك، أتريدين إحداث شَرخ في العائلة برفضك ابن عمك". فأجبت: "لا رغبة لي في الزّواج حالياً، لا من ابن عمي ولا من غيره، أريد أن أصبح شاعرة"، وهنا تحوّل أفق نظري من الأسفل إلى الأعلى.

امتنعت العائلة الكريمة عن التّعامل معي وتناولتني ألسنهم لسنوات بسبب رفضي غير المبرّر بالنّسبة لهم، لكنّي ربحت عندما أصبحت أنثى بعيون غير مرتجفة وأفق نظر متجه نحو الأعلى، ليصبح ذلك ثالث علامة فارقة في تكويني الشّكلي عن صديقاتي اللواتي سقطنَ في مصيدة الزّواج المبكر والتّقليدي، الواحدة تلوَ الأخرى.

عندما أحالتني "لا" إلى شاعرة 

زادت قراءاتي، وهنا لا أقصد الكتب فقط، بل الأفلام والإنترنت وعلاقاتي مع آخرين من بيئات مختلفة وأديان مختلفة واعتقادات واعتناقات مغايرة كلياً، فبدأت نبرتي تتغيّر شيئاً فشيئاً لتصبح نبرة واثقة وناضجة ومسالمة، وزاد استخدامي كلمة "لا" لكن تغيّرت طريقة استخدامها،  إذ لم أعد أقل "لا" للآخر وإنّما لأفكار بالية ولاعتقادات مجتمعية ودينية جاهلة ومضحكة ومتحيّزة، ولسلوكيات غبية ومجحفة برفض وعدم تقبل اختلاف الآخر. وتحوّل صوتي إلى هادئ غير مرتجف.

نعم قلت "لا" للمجتمع الذّكوري والسّلطوي، وقلت "لا" للأديان المبنية على الأساطير التي تستخف بالعقل البشري، وقلتُ "لا" للطّائفية التي تذبح معنوياً وفكرياً والتي كانت أداة قذرة في حرب أكلت الأخضر واليابس في بلدي، "لا" للعنصرية التي هي من أقوى سمات مجتمعنا والتي تتشكّل في عقلنا اللاواعي منذ نعومة أظافرنا وتجعلنا روافض لكلّ من لا يشبهنا في اللون والدّين والميول الجنسي والتّفكير والآراء والرّغبات وحتى أسلوب الكتابة، "لا" للتّنمر على المرأة والطّفل والضّعيف والمريض نفسياً والمنطوي والقلق والمُصاب برهاب الحياة، وقلتُ "لا" لنبذ الآخر، هذه الصّفة التي تتضاعف وجودها بعد الحرب والحواجز والبطاقات الشّخصية التي تُشير من مكان ولادتك لدينك وانتمائك السّياسي، "لا" للعنف اللفظي والنّفسي ثمّ الجسدي ، "لا" للانقسام في بلدي المذبوح، "لا" للطّرفين في هذا البلد المنقسم للونين فقط، أبيض وأسود، والنّكتة أنّ الأبيض عندما يتسخ يصبح أسود، والأسود عندما يتسخ يصبح أبيض.

وعندها توقّفت شفاهي عن الارتعاش كليّاً.

الآن أمشي بجسدٍ قوامه ممشوق، بخصرٍ مُنساب، ورقبة وأكتاف مشدودة، وظهرٍ شاقولي انحناءاته مثالية. تلمحني النّساء، فتسارع المتزوجات منهنّ لوضع أيديهن على أعين أزواجهن، وأمّا الرّجال يتبعوني بصمتٍ وسريّة تامّة كما يتبع الغاوون الشّعراء،، وهكذا أصبحتُ شاعرة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image