قبل عشرين عاماً من تأسيس دار الفنون اليابانية، وبعد ثلاث سنوات من تأسيس دار الفنون العثمانية، قام المستشار الإيراني ميرزا محمد تقي خان فَراهاني، الملقب بـ"أمير كبير"، بتأسيس مدرسة دار الفنون في طهران سنة 1851.
خطرت الفكرة في بال المستشار بعد إقامته لفترة محددة في موسكو، وبعد قيامه بمهمة سياسية في إسطنبول. وكان رجل الإصلاحات في عهد الدولة القاجارية في القرن التاسع عشر، والملقب كذلك بالمصلح الإيراني الأول، قد أدرك أنّ المستشارين الأجانب لن يعلموا من أجل إيران، وأن المنح الطلابية إلى أوروبا لم تعطِ ثمارها كما أراد لها.
من هذا المنطلق، ولسد حاجات البلاد، أصرّ على أن يكون التعليم الحديث في البلاد، فقام بإنشاء مدرسة دار الفنون لتكون أول مؤسسة للتعليم العالي في مجال العلوم العسكرية والمهن والصناعات الحديثة في العاصمة طهران. وكان قد استثنى المستشار الكبير تعليم علوم الفلسفة والأدب والحكمة وتعلّمها، إذ كانت تُدرَّس في المدارس الإيرانية القديمة.
تأسس المعهد في موقع ثكنة الجنود، على الجهة الشمالية من القصر الملكي في عام 1849، أي قبل سنتين من افتتاحه رسمياً، بيد أنّ مشروع البناء استمر لسنوات بعد مزاولة المعهد عمله.
لسدّ حاجات البلاد، أصرّ على أن يكون التعليم الحديث في البلاد، فقام بإنشاء مدرسة دار الفنون لتكون أول مؤسسة للتعليم العالي في مجال العلوم العسكرية والمهن والصناعات الحديثة في العاصمة طهران
"في أثناء إقامة الصفوف التعليمية للطلاب، لم يكن مبنى المدرسة العالي ذو الأسلوب العمراني الجديد والذي يحتوي على خمسين غرفةً واسعةً ومزيّنةً بالنقوش، قد انتهى بعد"؛ هكذا جاء في صحيفة "وقائع الاتفاقية" وقتذاك، التي تُعدّ أول صحيفة إيرانية.
أشجار الفاكهة والدلب، وغرف متساوية المساحة، وجدران تزيّنها الرسومات، والبلاط القاشاني الإيراني، وحوض كبير يتوسط المدرسة، كلها كانت من خصائص الهندسة المعمارية لمدرسة دار الفنون.
معلمون نمساويون
خطا أمير كبير خطواته بذكاء بعد مفاوضات عدة، لاختيار معلمي المعهد الأجانب، بعيداً عن البريطانيين والروس، أي بعيداً عن البلدين المسيطرين على القرار الإيراني حينها، فاختار أستاذاً إيطالياً، و6 أساتذة نمساويين.
باشر المعلمون تدريسهم في مجالات الطب والصيدلة والهندسة والتعدين والعلوم العسكرية. وبمرور السنوات، تمت إضافة معلمين إيرانيين إلى دار الفنون، أول مدرسة حديثة، وكانوا في البداية مترجمين، ثم سُلّمت إليهم مواد التدريس، كما درّس في المدرسة طلاب إيرانيون بعد إنهاء دراساتهم في أوروبا.
اختار النظام الملكي مئة طالب من الأمراء وأبناء العوائل البرجوازية للدراسة في 29 من كانون الأول/ديسمبر 1851، بيد أن مؤسسها رئيس الوزراء أمير كبير، كان قد نُفي من طهران بعد سلبه مسؤولياته في مؤامرة دُبّرت له من داخل البلاط الملكي والحكومة، للإطاحة به بعد أن نجحوا في إيقاع الخلاف بينه وبين الملك الشاب الذي كان يحترم مستشاره كثيراً ويحبّه.
لم يستطع المستشار أن يرى ثمار جهوده المخلصة في سبيل ارتقاء البلد أكاديمياً، إذ قُتل في منفاه في مدينة كاشان وسط البلاد، بأمر من الملك ناصر الدين شاه القاجاري، وذلك بعد أيام قليلة من انطلاق العمل في المدرسة.
بدلة خاصة ولغة فرنسية
مات أمير كبير، إلا أن إرثه بات مفخرةً للبلاد، فاهتمت الحكومة بطلاب المعهد كثيراً، وقد تقرر تسليمهم بدلتَين في العام الدراسي، بدلة شتوية من نوع "ماهوت" وهي من الحرير الهندي، وبدلة صيفية من قماش "خارا"، ولتمييز طلاب الفروع الدراسية المتعددة، تم اختيار بدلة خاصة من حيث التصميم واللون لطلاب كل فرع دراسي.
كما تم تعيين طبيب خاص للطلاب، وإنشاء مكتبة خاصة بهم. وكانت الفرنسية لغة التعليم، برغم أن الأساتذة كانوا من النمسا وإيطاليا.
لم يكن التعليم الحديث في إيران يتجاوز مرحلة الثانوية في البلاد، وعند إنهاء الدراسة في دار الفنون، يتوجه الطلاب نحو أوروبا لتكميل دراساتهم على نفقة الحكومة بشكل منتظم ورسمي.
قرّبت دار الفنون العلم من العمل رويداً رويداً، إلى درجة أنّ أول إحصائية أُجريت في طهران كانت على يد طلاب هذه المدرسة، وقد قاموا برسم أول خريطة حديثة لطهران.
ولتعزيز الدور الاقتصادي والعملي للمدرسة، خصصت الحكومة مطبعةً خاصةً، ومصانع ومختبرات لها كي تقوم بفعالياتها في استقلال أكبر.
حول ثمار المدرسة، كتبت صحيفة "وقائع الاتفاقية"، التي أسسها أمير كبير، واستمرت في عملها حتى بعد وفاته: "دُشّنت مدرسة دار الفنون حسب الأمر الملكي في القصر السلطاني، ويدرّس فيها معلمون نمساويون وغيرهم، الأمراءَ وأبناءَ العوائل النبيلة والبرجوازية، وقد نُفّذ النظام التعليمي بشكل صحيح، ونال الطلاب علومهم الحديثة حتى أنهم وفي فترة قصيرة امتلكوا المهارات وامتهنوا الحرف كمن كان يمارسها لسنوات عدة".
وسام ملكي بعد اجتياز الاختبارات
وأكمل تقرير الصحيفة: "تُدرّس ثماني علوم تحتاجها البلاد من الجيش والشعب، على غرار باقي الدول. ويُمتحن الطلاب كل عام ثلاث مرات، والامتحان عبارة عن ترقية حيث يحصلون على وسام من صاحب السمو الملكي".
لم يكن التعليم الحديث في إيران يتجاوز مرحلة الثانوية في البلاد، وعند إنهاء الدراسة في دار الفنون، يتوجه الطلاب نحو أوروبا لتكميل دراساتهم على نفقة الحكومة بشكل منتظم ورسمي.
ويذكر الوزير البريطاني اللورد كرزن، الذي زار إيران في نهاية حكم ناصر الدين شاه القاجاري: "مررت على غرف الدراسة في النهار في أثناء التعليم، وفي غرفة تعليم الفرنسية يقوم الطلاب بتعلم مفردات ثم يقومون بتركيب جمل فرنسية من كتاب 'تلماك' المترجَم إلى الفارسية أيضاً".
هبوط دار الفنون
تحولت المدرسة إلى معهد خاص للأمراء وأصحاب السمو كي يصبحوا حكماء متعلمين تحت إمرة الملك، وهذا ما لا يصبّ كثيراً في مصلحة البلاد وسد حاجاتها.
وخلال سبع سنوات لم يتخطَ عدد الطلاب المئةَ طالب، ولم يتغير شيء في نظامها التعليمي، وقد انحرفت المدرسة عن أهداف مؤسسها أمير كبير، حتى أن جهوده ذهبت سدى.
اليوم هي عبارة عن معلَم تاريخي وسط طهران، يزورها معظم السياح الأجانب الذين يتوافدون على العاصمة الإيرانية كي يتعرفوا على أول مدرسة إيرانية حديثة على طراز النظام التعليمي الغربي
قُتل ناصر الدين شاه، رابع ملوك الدولة القاجارية في سنة 1891، فاهتم ولي عهده مظفر الدين، بدار الفنون. وجاء في كتاب "أفضل التواريخ": "زار صاحب السمو الأقدس المحبّ للعلوم في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من ذي الحجة الحرام، مدرسة دار الفنون الحكومية المباركة، وأشرف على امتحانات التلامذة".
ومع مرور الوقت، قل الاهتمام بدار الفنون تزامناً مع أحداث جوهرية وقعت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية قرن العشرين، ومنها تأسيس مدارس أخرى، ووقوع الثورة الدستورية التي تقيّد صلاحيات الملك، بالإضافة إلى المشكلات الداخلية وكذلك وقوع الحرب العالمية الأولى.
وبعد نهاية حقبة القاجاريين، وبداية حكم رضا شاه بَهْلوي، تحول اسمها من دار الفنون إلى ثانوية أمير كبير. وبعد بضع سنوات عاد الاسم القديم مرةً أخرى.
أما اليوم فهي عبارة عن معلَم تاريخي وسط طهران، يزورها معظم السياح الأجانب الذين يتوافدون على العاصمة الإيرانية كي يتعرفوا على أول مدرسة إيرانية حديثة على طراز النظام التعليمي الغربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين