شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ليلة بكى

ليلة بكى "برق الليل"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 5 مارس 202304:27 م

في أواخر خمسينيات القرن الماضي أطلق الكاتب التونسي البشير خريف أولى رواياته "برق الليل" واختطفت جائزة المدينة وقتها٫ وهي رواية تاريخية تدور أحداثها في القرن العاشر الهجري، وبطلها شاب أسود البشرة إفريقي يختطف من والديه ويباع عبداً، فشغله عن خدمة صاحبه ولعه بالموسيقى وعشق فتاة أحبها، فينطلق في المدينة راكضاً وراء أحلامه باحثاً عن الحرية. وتزامن ذلك مع حكم خير الدين بربروس.

كان برق الليل المعادل لدون كيخوته الإسباني الباحث عن استعادة القيم الأصيلة والفن ونشر المحبة. وكان البشير خريف فعلاً قد كتب الرواية متأثراً بالإسباني ميغيل دي سيرفنتس الذي يذكر أنه قرأ له رواية "دون كيخوته".

ظل "برق الليل" في ذاكرة التونسيين رمزاً للتحرر والمرح والدعوة للسلم والتعايش ولنصرة الإنساني ومقاومة ثقافة القتل والعنف والاستبداد٫ فأطلقت الطبعات المتعددة للرواية وحُوّلت إلى مسلسل إذاعي شدت المستمعين وظل يعاد لسنين وحاول المخرج السينمائي علي العبيدي تحويل الرواية إلى السينما وظل الآخرون يتحسرون على إفلاتهم لتلك التحفة لأن الفيلم كان متواضعاً جداً.

عندما أطلقتُ مؤسسة "بيت الرواية" وهو أول بيت للرواية في العالم العربي، لم أفكر طويلاً وأنا أجهز لإطلاق مجسم رمزي للرواية، لأختار "برق الليل"٫ فهو الشخصية المفاهيمية الأشهر التي اخترعها السرد التونسي وتقاطع فيها التاريخي والخرافي، والمحلي والإنساني والشعبي٫ فكان المجسم "برق الليل".

ظل "برق الليل" في ذاكرة التونسيين رمزاً للتحرر والمرح والدعوة للسلم والتعايش ولنصرة الإنساني ومقاومة ثقافة القتل والعنف والاستبداد. فأُطلقت الطبعات المتعددة للرواية وحولت إلى مسلسل إذاعي شدت المستمعين 

ليلة انطلقت تلك الحملة البشعة للتحريض على الأفارقة رأيت برق الليل يبكي٫ وكأنه ينوح على بلد طالما دافع على وجهه السلمي والثقافي والفني، يسقط في الظلامية والقومية المتطرفة.

سنة 2019 أطلقتُ ملتقى كبير للرواية العربية في دورته الثانية في "بيت الرواية"، وخصصتُ كل الملتقى الدولي لقضايا البشرة السوداء وفتح فيها الروائيون نقاشاً عميقاً حول قضايا التحرر والعبودية والعنصرية، وهوجمتُ بسبب ذلك الملتقى في التلفزيون وفي قاعات المحاضرات من العروبيين والقوميين واتُّهمتُ منهم باختلاق المشاكل والقضايا المشبوهة وغير الموجودة أصلاً وإحداث فتنة بين التونسيين.

حضر الملتقى عدد كبير من الروائيين العرب المعنيين بسؤال الملتقى في كينونته منهم الرّوائي التونسي شكري المبخوت، الرّوائيّة الأردنية سميحة خريس، السوري نبيل سليمان، السوداني حمور زيادة، التونسيّ إبراهيم درغوثي، السوداني منصور الصويم، الشاعر التونسي جمال الجلاصي، الروائي الإريتري حجي جابر، الروائي السوداني طارق الطيب، الروائية التونسية آمنة الرميلي، الروائي المغربي إبراهيم الحجري، الرّوائية التونسية سنية الشامخي، الروائي التونسي صلاح الدين بوجاه، الروائي العراقي علي بدر، الروائية التونسية مسعودة بوبكر، الروائي اليمني علي المقري،، الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب، الناقد العراقي عبد الله إبراهيم، الباحثة التونسية هاجر بن إدريس، الروائي المغربي مصطفى لغتيري. أما ضيف الشرف فكان الروائي اللبناني إلياس خوري.

وكنا نبهنا إلى مظاهر العنصرية في مقال برصيف 22 يوم 7 كانون الثاني/يناير 2019 بعنوان "ظاهر العنصرية في بلد التسامح والحرية: تونس!"٫ ووجه المقال باستنكار وإنكار للظاهرة.

اعتبرنا أن الحملة التي شنت على الملتقى ضمن الحراك المجتمعي الممكن في دولة حديثة العهد بالديمقراطية وتفهمنا ذلك على مضض على اعتبارها ممارسة لحرية التعبير بين من يرفض الحديث في الموضوع وينكره ومن يؤكده بالبراهين مستعملاً محامل فنية وأدبية روايات وقصص وأفلام ومسرحيات وكتب فكرية وتاريخية ولوحات تشكيلية ورقص.

ظل ذلك الظن حتى أطل علينا قيس سعيد بخطابه الغريب نصاً على صفحة رئاسة الجمهورية وعبر الفيديوهات والتصريحات ليدعي أمام مجلس الأمن القومي، ويا لها من تسمية معبرة، أن هناك مخططاً إجرامياً لا لتوطين الأفارقة بتونس فقط، بل هدفه تغيير الطابع الديمغرافي للبلاد. وهكذا لم يعط حصانة للحشود المتوحّشة والخلايا النائمة والمعادية للسود والأفارقة فقط٫ بل أعطى الإشارة لهم بالعمل على التصدي لما سماه المخطط الإجرامي. وصفه الفنان توفيق عمران في رسم كاريكاتيري ساخر بالعفريت الذي أطلقه قيس سعيد من قمقمه والذي يعده بإرجاع تونس بيضاء إلى يديه.

يقول البيان الصادر عن صفحة رئاسة الجمهورية يوم 21 شباط/فبراير 2023: " ترأس رئيس الجمهورية قيس سعيد، عصر يوم الثلاثاء 21 شباط/فبراير 2023 بقصر قرطاج، اجتماعاً لمجلس الأمن القومي خُصص للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس".

وأكد رئيس الجمهورية على أن هذا الوضع غير طبيعي، مشيراً إلى أن هناك ترتيباً إجرامياً تم إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس٫ وأن هناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس، مشيراً إلى أن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية.

وشدد رئيس الدولة على ضرورة وضع حد بسرعة لهذه الظاهرة خاصة أن جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء ما زالت مستمرة مع ما تؤدي اليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة فضلاً عن أنها مجرمة قانونياً.

اليوم، وللأسف، نرى في الأفق ثلاث جثث: الديمقراطية والثورة وبرق الليل الذين طعنوا ثلاثتهم يوم 25 تموز/يوليو 2021 في مقتل.

ودعا رئيس الدولة إلى العمل على كل الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم للقانون المتعلق بوضعية الأجانب في تونس ولاجتياز الحدود خلسة.

واعتبر رئيس الجمهوية أن "من يقف وراء هذه الظاهرة يتاجر بالبشر ويدعي في نفس الوقت أنه يدافع عن حقوق الإنسان".

وُوجهتْ هذه التصريحات برفض دولي كبير ومن منظمات وهيئات حقوق الإنسان في تونس وخارجها ومن الصحافة التونسية والدولية ومن الأحزاب المعارضة لقيس سعيد٫ بينما وقف يدافع عن الرئيس  حزب واحد: حزب قومي شوفيني أطلق على نفسه اسم "الحزب القومي التونسي" والذي كان قد سبق تصريحات الرئيس في ادعاءات ما يسمونه بـ"الاستبدال الكبير" وراح أعضاؤه يجوبون البلاد ويدخلون المقاهي الشعبية لتحريض التونسيين على أصحاب البشرة السوداء الأفارقة وتخويفهم منهم واستغلال بعض الحوادث التي يتورّط فيها هؤلاء الأفارقة للتحريض عليهم وتأكيد نظريتهم بأن هؤلاء غزاة وينوون احتلال البلاد.

أدت تصريحات رئيس الجمهورية إلى حالة من الفوضى الأمنية بخصوص الأفارقة حيث طُرد الأفارقة من أًصحاب البيوت التي استأجروها وطُردوا من أعمالهم وتعرضوا لشتى أشكال العنف بالشوارع مما دفع بالمنظمات الحقوقية والإنسانية والتونسيين العقلاء إلى التظاهر في شوارع تونس دفاعاً عنهم وعن تونس المتسامحة التي تؤمن بالتعايش السلمي والتي لا ترى نفسها إلا جزءاً من إفريقيا٫ بل هي واهبة اسمها عندما كانت تونس تسمى إفريقية ويسمى الشمال الغربي منها "فريقا".

حاول قيس سعيد أن يتراجع ويلطف من خطابه ويؤكد أن خطابه لم يكن عنصرياً٫ بعد أن تابع ردة فعل التونسيين المستنيرين والمنظمات الدولية والإعلام العالمي٫ غير أن خطابه ظل محافظاً على خطره ونبرة التهديد٫ حيث يحاول طمأنة الأفارقة فيقول:" المهاجرين القانونيين لا خوف عليهم"٫ وهو بذلك يواصل في خطاب الكراهية وترويع الآخرين الذي تقطعت بهم السبل بسبب الحروب والمجاعات والجماعات المتطرفةة فدخلوا تونس هاربين من الأخطار الكثيرة محاولين البحث عن ملاذ.

دوافع الخطاب وخطورته

الواضح أن الرئيس قيس سعيد بخطابه هذا يريد أن يختلق مشكلاً يلهي به الشعب عن حملة الإيقافات الممنهجة التي يقوم بها لتصفية المعارضين وأصحاب الأصوات الحرة من ناحية ومحاولة إلهاء الشعب عن التأمل في نتائج الانتخابات الهزيلة من ناحية أخرى٫ والتي تقدم الدليل الحاسم على رفض غالبية الشعب لمسار 25 تموز/يوليو 2021 والذي تسميه المعارضة انقلاباً لأنه كان بداية مسار قرصن فيه الرئيس كل السلطات واستحوذ عليها وأغلق كل المؤسسات المستقلة التي كانت الضمان لمواصلة المسار الديمقراطي البطيء.

تونس التي كانت أول بلد في العالم يمنع تجارة العبيد ويحرمها سنة 1843 وأول بلد في شمال إفريقيا والشرق الأسود يسن قانوناً لمناهضة العنصرية صارت مهددة من أحزاب فاشية محمية ومستثناة من الملاحقة مقابل ولائها التام للرئيس 

إلا أن الخطورة التي يشكلها هذا الخطاب أنه دعوة للتقاتل بين التونسيين والأجانب على أرض تونس وتحريض للتونسيين على لاجئين استجاروا به دون الأخذ بعين الاعتبار الوضع الإنساني لهؤلاء النازحين والفارين من بلدانهم. وهذا ما يزداد خطورة إذا ما راجعنا ما سجلنا في البداية بأن هناك شيئاً من العنصرية الثابتة  والمقموعة بالقانون وبخطاب السلطة الصارم في احترام حقوق الإنسان قبل قيس سعيد ورفع هذه الصرامة أو هزها سيهدد السلم الأمني بالبلاد إلى جانب الخسائر الاقتصادية الكبرى التي ستتكبدها البلاد إن كان في علاقتها بإفريقيا أو بالعالم. وما زال انسحاب البنك الإفريقي للتنمية من تونس سنة 2014 وعودته إلى الكوت ديفوار ذكرى اقتصادية مؤلمة.

تونس التي كانت أول بلد في العالم يمنع تجارة العبيد ويحرمها سنة 1843 وأول بلد في شمال إفريقيا والشرق الأسود يسن قانوناً  لمناهضة العنصرية صارت مهددة من أحزاب فاشية محمية ومستثناة من الملاحقة مقابل ولائها التام للرئيس الذي بدأت حاشيته في الترويج لضرورة بقائه في الحكم وإلغاء الانتخابات الرئاسية القادمة.

إننا اليوم، وللأسف، نرى في الأفق ثلاث جثث: الديمقراطية٫ والثورة٫ وبرق الليل٫ الذين طعنوا ثلاثتهم يوم 25 تموز/يوليو 2021 في مقتل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image