في كانون الثاني/ يناير 1999 بدأت في العمل كمدير لتحرير صحيفة (الجيل) حديثة الصدور والتي شاركت بالكتابة فيها منذ صدورها، وحين زارني الصديق محمود مطر لبدء التعاون مع صفحات الفن في الصحيفة، اقترحت عليه إجراء حوار مع الأستاذ ماهر عواد، وحين قال إن هذه المهمة صعبة لأن ماهر لا يقوم بإجراء حوارات صحفية على الإطلاق، ذكرته بالمهمة المستحيلة التي أنجزها في عام 1997، حين قام بإجراء حوار لصحيفة (الدستور) مع الفنانة الكبيرة سعاد حسني التي كانت قد اعتزلت الصحافة تماماً منذ سنوات، وسعدت قبيل نشر الحوار بسماع صوتها والحديث معها، حين اتصل بها محمود مطر من مقر (الدستور) لمراجعة الحوار، وكان قد انفرد قبل ذلك بعمل عدة حوارات صحفية معها حكى قصتها بالتفصيل في كتابه (سعاد حسني: القاهرة ـ لندن تفاصيل السنوات الأخيرة) الصادر عن دار بتانة.
لم يخب ظني في محمود مطر الذي تمكن من إقناع ماهر عواد بالحوار، ليكون ذلك الحوار الثاني لماهر بعد سنوات من نشر حوار سابق في مجلة (الفنون) المتخصصة. نشرنا الحوار بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 1999، وحرص محمود على التأكيد في مقدمته على احترام رغبة ماهر في عدم الحديث عن زواجه بالسندريلا سعاد حسني، ناقلاً على لسان ماهر رغبته في طمأنة القراء على أحوالها وصحتها واستمرار تلقيها للعلاج في لندن. مع الأسف حمل الحوار أخباراً غير سارة عن توقف مشروع فيلمي (سلامات يا سيما) و(نورماندي تو) الذين كتبهما ماهر وكان سيخرجهما سعيد حامد، بعد أن تعذر العثور على منتج متحمس لـ (نورماندي تو)، برغم أن عطاء البطولة انتقل من محمد هنيدي الذي انفجرت نجوميته إلى علاء ولي الدين الصاعد الواعد، أما فيلم (سلامات يا سيما) فقد تعثر بعد قرار المنتج السعودي صالح فوزان أن يخفض 200 ألف جنيه من ميزانية إنتاج الفيلم الذي كان يعتمد على الجرافيك والرسوم المتحركة مما جعل إنتاجه بالشكل اللائق مستحيلاً.
نشرنا الحوار بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 1999، وحرص محمود على التأكيد في مقدمته على احترام رغبة ماهر في عدم الحديث عن زواجه بالسندريلا سعاد حسني، ناقلاً على لسان ماهر رغبته في طمأنة القراء على أحوالها وصحتها واستمرار تلقيها للعلاج في لندن
برغم ذلك التعثر، قال ماهر عواد إنه لم يصل بعد إلى مرحلة اليأس من الكتابة للسينما، بل أعلن أنه في قمة تدفقه وعطائه للكتابة، وأنه منذ أن انتهى عرض (الدرجة الثالثة) قام بإنجاز خمسة سيناريوهات جديدة يحتفظ بها في درج مكتبه وينتظر من يتحمس لإخراجها إلى النور، وحين سأله محمود عما إذا كان يعتقد أن هذه السيناريوهات سترى النور في ظل أزمة السينما الحالية قال ماهر: "لا بد أن نعترف أن الفيلم الناجح هو الذي يحقق التوازن بين ثلاثة عناصر مهمة أساسية في السينما هي الفن والصناعة والتجارة، ونحن للأسف لا نوفق كثيراً بين هذه العناصر، ولو وفقنا بين هذا التقسيمة جيداً فساعتها سوف أجد سوقا لأفلامي".
حين سأله محمود مطر عن تفسيره لفشل فيلم (الدرجة الثالثة)، قال ماهر عواد: "كما تفشل أعمال فنية كثيرة جميلة، هذا الفيلم كان قطعة فنية عملتها وأحسست بها وخرجت من يدي ولست مطالباً بتفسير الفيلم للمشاهد حتى يقبل عليه ويشاهده، أحد الأصدقاء قال لي إنه سمع واحداً يقول لصديقه فيه فيلم درجة ثالثة نازل في السينما، يعني تصور إن بعض الناس اعتقدوا أن الفيلم درجة ثالثة يعني هابط ولم يعرفوا أن اسمه الدرجة الثالثة. هذا الفيلم تداخلت فيه ظروف مختلفة غريبة ومر بظروف عطلت تصويره كثيراً، وكان يحتاج إلى سخاء إنتاجي أكثر، وأذكر أننا كنا نحتاج في الشوت الواحد لتصوير 300 شخص في المدرجات إلى 3 آلاف جنيه، وكان من الممكن أن ينجح الفيلم لو كانت جميع الأطراف التي اشتركت فيه تمتعت بسعة صدر أكثر. في رأيي أن الفيلم كان قطعة سينمائية رائعة إخراجا وتمثيلا رغم كل الظروف المعاكسة، وقد شاهد بعض الزملاء في الوسط الفني هذا الفيلم على شرائط فيديو مؤخرا واتصلوا بي وعبروا لي عن إعجابهم".
حين ذكره محمود بأن باقي أفلامه تعرضت لمصير مشابه، فلم تحقق إقبالاً جماهيرياً في السينما بعكس نجاحها حين عرضت في التلفزيون، قال ماهر بتصالح مرير مع النفس: "أفلامي لها ستايل معين، ولذلك أطلقوا عليها فانتازيا، وفي حقيقة الأمر أنا لا أحب الدراما العادية أو الكتابة الكلاسيك، لي وجهة نظر في الدنيا من خلالها أنظر للحياة بسخرية وأشوف كل حاجة بعين مختلفة، على طريقة أستاذي رأفت الميهي، ولذلك فأفلامي تحتاج نوعية خاصة من الجمهور، لكن في الوقت نفسه تحتاج لسينما متقدمة في التقنية وتحتاج إلى إنتاج سخي، وهذا العناصر غير متوفرة حالياً للأسف، أعترف أن طبيعة كتابتي مختلفة تماماً عما يطلبه السوق السينمائي، في الوقت نفسه هناك ازدواجية في شخصية المتفرج المصري، فقد يعجبه الفيلم عندما يشاهده في التلفزيون رغم أنه لم يعجبه عندما شاهده في السينما، وقد يتحمس لفيلم ما ثم لا يذهب لمشاهدته، وقد لا يتحمس لآخر ويذهب إلى دار العرض، فليست هناك مقاييس أو معايير محددة يمكن على أساسها الكتابة للمتفرج عندنا".
ماهر عواد: "أعترف أن طبيعة كتابتي مختلفة تماماً عما يطلبه السوق السينمائي، في الوقت نفسه هناك ازدواجية في شخصية المتفرج المصري، فقد يعجبه الفيلم عندما يشاهده في التلفزيون رغم أنه لم يعجبه عندما شاهده في السينما"
تحدث ماهر عواد بعد ذلك عن حالة الانقسام التي شهدتها الساحة السينمائية وقتها بين ما أطلق عليه محمود "حزب هنيدي وحزب عادل إمام"، فاعتبر ذلك من شواهد أزمة السينما المصرية التي كانت تحتفي بالتنوع الذي هو الأساس في الفن والإبداع، مضيفاً: "الفن والأدب والثقافة قائمون على التنوع، يعني أنا والدتي لا تفهم أفلامي لكنها تبكي أمام أفلام حسن الإمام، الفن فلسفته التنوع ونحن أحياناً لا نريد أن نفهم ذلك، وفي اعتقادي أن الصحافة الرياضية هي التي صدرت عدوى المقارنات إلى الصحافة الفنية، في الرياضة قد تكون المقارنة مقبولة، هناك أهلي وزمالك ولكل فريق مشجعوه ومن المقبول أن يحرص مشجعو الأهلي على متابعة مبارياته فقط، هناك لاعب هداف وآخر لا يجيد التهديف ومن الجائز المقارنة بينهما، أما في الفن فتشجيع كل المبدعين دون تفرقة هو المطلوب، عيب أن نحول عادل إمام ومحمد هنيدي إلى أهلي وزمالك".
لم يكن ماهر عواد متفائلاً بأحوال السينما المصرية وقت إجراء الحوار، مستشهداً بتراجع عدد الأفلام التي يتم إنتاجها سنوياً، مطالباً بإيجاد صيغة من خلال وزارة الثقافة وصندوق التنمية الثقافية لكي تدخل الدولة كمنتج مع زيادة إسهامات قطاع الإنتاج ودخول القنوات المتخصصة كطرف منتج لكي نقول إن هناك أملاً بشأن السينما المصرية وتتم الاستفادة من المخرجين الجدد الذين دخلوا ساحة السينما ويدخل مخرجون جدد من خريجي معهد السينما، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تخفيض تكاليف الإنتاج لفك عقدة السينما، وهو ما سيشجع الفنانين على الاشتراك في الإنتاج مثلما فعل هو وشريف عرفة وسعيد حامد وعبلة كامل ولوسي حين ساهموا في إنتاج أفلام سمع هس ويا مهلبية يا والحب في الثلاجة بالتبرع بأجورهم، وحين طلب منه محمود التعليق على توجه خيري بشارة ومحمد خان لإخراج فوازير لصالح قنوات فضائية عربية قال ماهر: "طالما أن أبواب السينما مغلقة ماذا ننتظر منهما هل ينام كل واحد منهما في بيته؟ أنا مع أن يعمل الفنان سواء في السينما أو المسرح أو التلفزيون، خيري بشارة صبر طويلا على السينما وأجّل أحلام وكان يعيش في شقة متهالكة في شبرا مع والديه ولما حصل زلزال 92 أصيبت ابنته بانهيار ومشاكل صحية، وكان طبيعي أن يبحث خيري عن مستقبله المؤجل الذي انتظره طويلا في السينما".
تحدث ماهر عواد بعد ذلك عن حالة الانقسام التي شهدتها الساحة السينمائية وقتها بين ما أطلق عليه محمود "حزب هنيدي وحزب عادل إمام"، فاعتبر ذلك من شواهد أزمة السينما المصرية التي كانت تحتفي بالتنوع الذي هو الأساس في الفن والإبداع
قال لي محمود مطر إنه حين سأل ماهر عواد لماذا إذن لا يفعل مثل زملائه ويوسع دائرة نشاطه بدلاً من الاكتفاء بانتظار مشروعاته السينمائية، اعتذر ماهر عن الإجابة مبتسماً وطلب الاكتفاء بذلك القدر من الحوار. حاولت الاحتفاء بالحوار بنشره في صدارة صفحات الفن في (الجيل)، لكن رئيس التحرير أصر على نشره في أسفل الصفحة لأن الحوار لم يكن ساخناً بالقدر الكافي لتصدر الصفحة، ولأن صورة ماهر التي صاحبت الحوار كانت تشبه صور جوازات السفر ـ أظنها كانت صورة جواز سفر بالفعل ـ فضلاً عن أن الحوار لا توجد فيه كلمة واحدة عن سعاد حسني وعلاقته بها، فلم أجادله بالحديث عن أهمية الحوار أو عن كون تلك الصورة سبقاً صحفياً، وقررت توفير الطاقة والجهد، وحين اتصل محمود بي بعد نشر الحوار، كنت على وشك أن أبلغه اعتذاري لأنني لم أتمكن من الاحتفاء بالحوار كما يجب، لكنه بادرني بأن أبلغني سلام الأستاذ ماهر وشكره لنا على نشر الحوار بدقة وأمانة، فانتهزت الفرصة وطلبت منه رقم هاتفه لكي أسلم عليه بنفسي، لكنني لم أفعل منعاً للحرج، وقررت توفير المكالمة لوقت لاحق.
بعدها بشهر، تركت العمل في الصحيفة بعد خلافات مع إدارتها، وكنت وقتها قد أنهيت كتابة أول سيناريو سينمائي، وتصورت أن الوقت قد حان لترك الصحافة والتفرغ من أجل أن يرى فيلمي النور، ولم أكن قد عرضت السيناريو على أي من أساتذتي أو أصدقائي، ولأنني كنت أسمع أن ماهر عواد لا يبخل برأيه وملاحظاته على أصدقائه وزملائه الذين يعطونه سيناريوهاتهم لقراءتها وإبداء ملاحظات عليها، قررت أن أتصل به لأعرض عليه قراءة السيناريو قائلاً له إنني أتوهم في نفسي قدرتي على كتابة الكوميديا ولا يمكن أن أجد أفضل منه للحكم على ما كتبته لأنني أعشق طريقته في كتابة الكوميديا.
"طالما أن أبواب السينما مغلقة ماذا ننتظر منهما هل ينام كل واحد منهما في بيته؟"
بالطبع لم أكن سأغضب لو اعتذر عن قراءة سيناريو شخص لا يعرفه بشكل وثيق، لكنه كان في غاية اللطف والود في حديثه معي، وقال إن قراءة السيناريو أمر يسعده، ثم أضاف ضاحكاُ أنه سيفعل ذلك بغض النظر عن حكاية كونه الأفضل في الحكم على الكوميديا لأن هذه ورطة لي قبل أن تكون ورطة له، ثم طلب مني إرسال السيناريو إلى منزله وأن أمنحه أسبوعاً لقراءته، وحين اتصلت به بعد أسبوع تصورت أنه سيبلغني رأيه في المكالمة، لكنه فاجأني بدعوتي لزيارته في الثامنة مساءً، في شقة كان يؤجرها في شارع بالمهندسين يقع خلف مسجد مصطفى محمود، لا أذكر اسم الشارع الآن، لكن أذكر أنه كان يحمل اسماً سينمائياً ينتمي إلى زمن الأبيض والأسود: شارع الأعناب أو شارع الثمار أو شيء من هذا القبيل.
لم أستغرب من بساطة الشقة التي كان حالها مرتبطاً بأحوال ماهر البعيد عن السينما منذ سنوات، وبالطبع لم أكن سأبدي أي ملاحظة على ذلك، لكنه بادر وتحدث عن كونها شقة مؤقتة، ثم قال مازحاً وراغباً في كسر الجليد: "تقدر تعتبرها شقة عزاب مع إني مش عازب"، فاندفعت مبالغاً في مدحها مقارنة بالشقة التي أسكن فيها، ثم انتبهت إلى أن مدحي أقرب للذم، فانتقلت إلى أقرب فكرة خطرت على بالي، وهي ما قرأته عن تخرجه من كلية الإعلام بجامعة القاهرة التي تخرجت منها، فأكد المعلومة وقال إنه تخرج منها عام 1975 لكنه تخرج من قسم الإذاعة والتلفزيون وليس من قسم الصحافة كما نشر أحد الصحفيين الذي تصور أن ماهر تخرج من هذا القسم لأنه عمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط في قسم التحرير وإعادة الصياغة.
بالطبع لم أكن سأغضب لو اعتذر ماهر عواد عن قراءة سيناريو شخص لا يعرفه بشكل وثيق، لكنه كان في غاية اللطف والود في حديثه معي، وقال إن قراءة السيناريو أمر يسعده
فيما بعد قرأت في كتاب محمود مطر أن الدكتور فتحي زكي الذي كان يدرس مادة الدراما لماهر في كلية الإعلام نصحه بالالتحاق بمعهد السينما بعد أن لاحظ نبوغه في كتابة السيناريو، لكن ماهر الذي حصل على عضوية نقابة الصحفيين في تشرين أول/ أكتوبر 1979، لم يلتحق بمعهد السينما إلا بعد عودته من عُمان التي سافر إليها مع زوجته التي كانت من زملائه في الوكالة، حيث شارك في تأسيس وكالة الأنباء العمانية، ثم عاد بعد سنة واحدة، والتحق بقسم السيناريو بمعهد السينما وحصل على البكالوريوس بتفوق في دفعة زامل فيها رفيقي مشواره السينمائي شريف عرفة وسعيد حامد، وقد فاجأني الأستاذ ماهر حين قال إنه برغم عشقه لدراسة السيناريو والسينما إلا أنه كان مهتماً بالمسرح أكثر، وظل يحلم لسنوات أن يكون مخرجاً مسرحياً ولا زال يسعى لتحقيق هذا الحلم مع أنه يبتعد أكثر فأكثر مع الظروف العصيبة التي يمر بها المسرح والتي أصبحت أسوأ من ظروف السينما.
حين جاءت سيرة استقالته من العمل في الصحافة خلال كتابته لفيلم (الدرجة الثالثة)، لم أرغب في تكرار الحديث عن الظلم الذي تعرض له الفيلم، لكيلا أقترب من الحديث عن سعاد حسني، فتحدثت مازحاً عن الصورة المتجهمة التي نشرت له مع حوار (الجيل) وعدم وجود أي صورة له في أرشيف دار الهلال برغم أنه صحفي قديم، فقال إنه لا يحب ظهور صوره في وسائل الإعلام، ولا يحب حضور الندوات والبرامج التي تصور خلال الأفلام وبعد عرضها لأنه يفضل أن يظل وجهه غير معروف لكي يستطيع الحركة وسط الناس براحته ودون أن يثير حضوره قلقهم أو رغبتهم في التصنع، فضلاً عن أنه يشعر بأن لا يوجد لديه أشياء مهمة يقولها أكثر مما يقوله بالفعل في أفلامه، ثم قال بابتسامة مريرة إنه بعد أن قرأ الحوار الذي نشرناه في (الجيل)، لم يندم لأنه تحدث مع صديقنا محمود مطر الذي يكنّ له كل التقدير، لكنه سأل نفسه ما الذي أضافه للعالم كلام مثل الذي قاله وهل سيأخذ أحد باقتراحاته أو بكلامه عن أزمة السينما؟ وربما كان من الأفضل أن يصمت وهو يعرف أنه لا أحد مهتم بتقديم حل عملي لأزمة السينما، خصوصاً أنه ككاتب يقوم بممارسة الحل الأمثل من ناحيته وهو الاستمرار في كتابة السيناريوهات بغض النظر عن مصيرها.
وضعت يدي على قلبي حين وصل إلى هذه النقطة، وخفت أن يقول لي إن السيناريو لم يضحكه، لكنه طمأنني حين قال إن السيناريو أضحكه كثيراً، ثم أضاف أن ذلك برغم أهميته ليس كافياً، وقال إنه سيتحدث عن ملاحظات مهمة تخص طريقة تقديم بعض الشخصيات
كانت علامات الإجهاد قد ظهرت عليه بوضوح، فاعتذرت لإزعاجي له بالحضور في وقت متأخر، وقلت إنني كنت أتصور أننا سنلتقي صباحاً لأنني سمعت أنه يصحو في الصباح الباكر، فقال إنه لم يرغب في تأجيل موعدنا لكيلا أظن أن لديه موقفاً سلبياً من السيناريو الذي كتبته، خصوصاً وهو يعرف حساسية الكتاب جيداً، ثم قال بعد تردد إنه كان يفضل بالفعل أن نلتقي في النهار، لكنه منذ فترة يقضي النهار بأكمله في بيت أسرته في بولاق أبو العلا بصحبة والده ووالدته المسنّين والذين يمران بظروف صحية ويحتاجان منذ فترة إلى رعاية لصيقة لا يوجد من يقدمها لهما غيره، وهو ما عرفت فيما بعد من أصدقائه أنه كان سبب عدم تمكنه من السفر مع زوجته سعاد حسني إلى لندن، لكيلا يتخلى عن مسؤوليته تجاه والديه، وهو ما كانت تدعمه فيه سعاد بقوة وحب.
أربكني لطفه الشديد فأخذت أهذي بكلام غير مترابط عن حي بولاق وما أخرجه من عظماء في كل المجالات أبرزهم سينمائياً صلاح أبو سيف وعاطف الطيب، وحين رأيته يكتم تثاؤبه نبهته إلى أن عليه أن يفرمل رغبتي في الرغي لأنني ما صدقت والتقيت به، وقبل أن أسترسل في الحديث عن محبتي وتقديري له، قاطعني بابتسامة ودودة وقال إنه يفضل ألا يضيع وقتي لأنني بالتأكيد أنتظر رأيه في السيناريو، ومد يده وأمسك بالسيناريو وأخرج منه ورقة مليئة بالملاحظات، ولأخفي توتري مما سأسمعه قلت متضاحكاً إنني أريد معرفة رأيه بشكل عام في السيناريو، فقال بجدية ودودة لم تفارقه طول الجلسة إنه لا يفضل إطلاق أي أحكام عامة على أي سيناريو يقرؤه، لأن كل السيناريوهات جيدة وقابلة للتنفيذ لو صادفت فريق عمل يصدقها ويحبها ويجيد التعامل حتى مع عيوبها أو مشاكلها، لأن افتراض خلو أي سيناريو من عيوب أو مشاكل هو افتراض عبثي، وأن الحكم الرئيسي على أي سيناريو يجب أن يتم من خلال النوع الفني الذي يندرج تحته، يعني إذا كان الفيلم يصف نفسه بأنه كوميدي فسيكون من المهم أن نسأل أسئلة كثيرة عن بنائه الدرامي وبناء الشخصيات والإيقاع، لكن سيظل السؤال الأهم هل حقق وعده بالإضحاك أم لا؟
وضعت يدي على قلبي حين وصل إلى هذه النقطة، وخفت أن يقول لي إن السيناريو لم يضحكه، لكنه طمأنني حين قال إن السيناريو أضحكه كثيراً، ثم أضاف أن ذلك برغم أهميته ليس كافياً، وقال إنه سيتحدث عن ملاحظات مهمة تخص طريقة تقديم بعض الشخصيات، لكنه يريد ألا يتجاوز هذه النقطة قبل أن يقول إنه أحس في السيناريو بأبرز عيوب العمل الأول وهو أنني أحاول استعراض عضلاتي وأظهر أنني قادر على الإضحاك أكثر من اللازم وأن هذا العيب يؤدي إلى عكس النتيجة التي أرغب فيها، وأنه لاحظ خلال مشاهدته لردود أفعال الجمهور على أحد أفلامه أن الجمهور حين يعلو ضحكه بعد جملة حوار مضحكة، لا يستمع إلى الجملة التي تليها ولذلك يجب على الكاتب مراعاة ذلك وأن يحرص على التفكير في إيقاع حواره ووجود مساحة لالتقاط الأنفاس، فضلاً عن ضرورة ارتباط عبارات الحوار بالدراما التي يقدمها المشهد، وألا يجد مشكلة في حذف عبارات يحبها إذا رأى أنها تخل بالإيقاع أو "تشوشر" على ما هو أهم للفيلم في ذلك الجزء منه.
حين دق جرس الهاتف برنات طويلة، توقف الأستاذ ماهر عن الحديث المتحمس، وبدا عليه القلق وهو ينظر إلى ساعته، ثم قال معتذراً إنه سيضطر للذهاب إلى الغرفة المجاورة للرد على الهاتف، مضيفاً عبارة لم أحتج إلى تفسيرها: "معلهش، أصل ده أكيد تليفون من لندن"
فتح الأستاذ ماهر السيناريو على مشهد اختاره كمثال وأخذ يقرأ بعض العبارات التي رأى أنها مضحكة، وأخذ يتخيل رد فعل الجمهور في الصالة والوقت الذي يستغرقه في الضحك وكيف يمكن أن تضيع معلومة مهمة موجودة في العبارة التالية، وسرعان ما اتضح لي أنه اتخذ من الحوار مدخلاً رفيقاً وذكياً للحديث عن ملاحظات رئيسية في بناء الشخصيات، ولم يكن من الصعب أن ألاحظ كيف غادرت علامات الإجهاد وجهه وحل محلها حماس ملفت ومبهج، وحين أخذت أسجل بعض ملاحظاته، وجدت نفسي متلبسة بالزهو والفخر وهي تستمع إليه يقرأ بعض عبارات حوار فيلمي، لأنني نجحت في أن أدخل كاتبي المفضل إلى عالم ابتدعته وأجعله يفكر في أحداثه وشخصياته حتى لو كانت عنده ملاحظات على تلك الأحداث والشخصيات، وسرعان ما فرملت شعوري بالزهو، مذكراً نفسي الأمارة بالسوء بأن أستاذاً كبيراً مثله يحترم نفسه ومهنته، كان سيفعل ذلك مع أي سيناريو سيقرؤه أياً كان مستواه، وطالباً منها أن تركز في كل كلمة يقولها الرجل بدلاً من الفرحة بإنجاز مشكوك في دقته، وحين دق جرس الهاتف برنات طويلة، توقف الأستاذ ماهر عن الحديث المتحمس، وبدا عليه القلق وهو ينظر إلى ساعته، ثم قال معتذراً إنه سيضطر للذهاب إلى الغرفة المجاورة للرد على الهاتف، مضيفاً عبارة لم أحتج إلى تفسيرها: "معلهش، أصل ده أكيد تليفون من لندن".
...
نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه