"من كام سنة وانا ميال ميال، وفي حبك انا مشغول البال"، صوت نجم الشباب عمرو دياب، يصدح من كشك عم خميس بائع الجرائد في نهاية ثمانينات القرن الماضي كنت وقتها أخرج من عباءة الطفولة، مللت من مجلة ميكي وسمير، واتجهت إلى قراءة المغامرين الخمسة لمؤلفها الكاتب الكبير الأستاذ عاطف سالم ، وأبطاله المميزون: تختخ ونوسة ومحب ولوزة وعاطف .
القصص دوماً ما تدور في أجواء بوليسية، حيث يساعد المغامرون الخمسة، المفتش سامي رجل الشرطة في اكتشاف الجرائم ، كانت تلك الروايات ظريفة جداً، لكنها لم تتجاوز المستوى الطفولي لقارئ يريد أن يكبر ويشعر بالبطولة.
عيني كانتا تتجولان في الكشك، كل يوم تتحرقان لشيء جديد، قلبت في صفحات الكثير من المطبوعات العربية والمصرية ، كنت أقرأ مجلة أطفال عراقية اسمها "المزمار"، لا أدري ان كان أحد قد قرأها غيري أم لا؟!
القراءة حالة استمتاعية خاصة في بدايات مراهقة جيل الثمانينيات والتسعينيات، ساهم في زرعها وبلورتها الدكتور نبيل فاروق
ثم مجلة "الشباب" التابعة لمؤسسة الأهرام العريقة إلى أن وجدت يوماً بوستر كبيراً لرجل أنيق مرسوم بعناية، يرتدي بذلة ممشوق القوام، مرفوع الرأس، وتحت الصورة كُتبت عبارة "رجل المستحيل"، لم أكن ادري أن تلك الجملة سوف تأسرني أعواما طويلة ،لأتابع كل إصداراتها تقريباً.
لست وحدي بالطبع، فلقد انتشرت تلك السلسلة انتشاراً واسعاً، وبدا اسم مؤلفها الدكتور نبيل فاروق ينتشر بشكل قوي، ذلك الكاتب الأيقوني لجيل الثمانينات والتسعينيات، والذي احتفلنا بمولده في فبراير/ شباط.
في شهر مولده ،احتفل القراء بشكل واسع على صفحات التواصل الاجتماعي بنشر اقتباسات من كتاباته، أو بعض أقواله المأثورة ،كما أفردت له الصفحات الأدبية مقالات تثني على أعماله، وتأثيره في الشباب العربي ،وخاصة جيل الثمانينيات والتسعينيات.
القراءة حالة ثمانينية خاصة
كانت القراءة هي وسيلة التسلية الوحيدة لجيل الثمانينات، وأنا منهم، الذي تربى على حب القراءة، ذلك الجيل الذي كان قبل نبيل فاروق، يعتمد في قراءته للروايات البوليسية على الأدب الأجنبي المترجم، مثل روايات أجاثا كريستي وآرثر كونان دويل وغيرهم، إذ نجح نبيل فاروق في جذب شريحة كبيره جدا من الشباب إلى قراءات الروايات البوليسية العربية، وروايات الخيال العلمي، من خلال سلاسل "رجل المستحيل" و"ملف المستقبل".
تركت فينا كتابات نبيل فاروق أثراً عظيماً، خطونا أولى خطواتنا نحو حب القراءة والإبداع ، وترسخ فينا شعور خفي بالقدرة على تحدي المستحيل، مصحوباً بمشاعر القومية الوطنية والانتماء، تلك القيم التي كاد يفقدها ذلك الجيل في سياق ظروف اقتصادية صعبة في ذلك التوقيت، حروب مختلفة، مشاكل الانفتاح الاقتصادي، والسيطرة الغربية على كل شيء، حتى الأدب.
أعادت كتابات نبيل فاروق الثقة والهوية العربية للكثير من الشباب، ولذلك أستطيع أن أقول دون مبالغة إن أعمال نبيل فاروق هي نقطة تحول هامة لجيل الثمانينات، الذين أصبحوا الآن في منتصف العمر، ولا زالوا يعشقون القراءة، ومنهم الكثير من الكتاب الذين تربوا على كتاباته، والذي أتشرف أن أكون واحداً منهم.
نبيل فاروق.. الطبيب الشاطر، والكاتب الحريف
انتشر اسم نبيل فاروق عبر الصحف والبوسترات ووسائل الإعلام، حيث صار علامة على جودة الكتابة التي كانت خفيفة وتتسم بلغة بسيطة، جاذبة للشباب بعيداً عن العبارات الأدبية الدسمة.
وتبقى سلسلة "رجل المستحيل" هي الأشهر على الإطلاق والتي اقترن بها اسم نبيل فاروق إلى الأبد، ذلك الطبيب النابغ، والذي ولد في فبراير/ شباط عام 1956، في مدينه طنطا بدلتا مصر، مترعرعاً في كنف أسرة متوسطة الحال، والتي أظهر فيها نبوغاً مبكراً، منذ نعومة أظفاره، إذ حصل على مجموع كبير في شهادة الثانوية العامة، ثم التحق بكلية الطب في طنطا، وتخرج منها عام 1980، ثم انتقل إلى الصعيد وعمل فيها طبيباً مقيماً، وقد يكون لتلك التجربة الفريدة، تأثيراً واسعاً على كتاباته، بحسب سيرته المتداولة في معظم المواقع الصحفية، والمنصات الثقافية.
من مهنة الطب الى احتراف الأدب
تحكي الروايات المتداولة، أن نبيل فاروق بدأ رحلته مبكراً في عالم الكتابة، حيث حاول كتابة بعض النصوص أثناء فترة دراسته في المرحلة الإعدادية والثانوية، وظهرت نتائجها بشكل قوي، قبل تخرجه من كلية الطب بعام واحد، حيث حصل على جائزة من قصر ثقافة طنطا عن قصة "النبوءة" في 1979 والتي ضمّنا سلسلة "كوكتيل 2000 "، في أول عدد لها.
كما كان التحول الحقيقي في مسيرة نبيل فاروق الأدبية في عام 1984، عندما اشترك في مسابقة لدى المؤسسة العربية الحديثة بمصر وفاز بجائزتها، عن قصة "أشعة الموت" والتي تم نشرها في العام التالي، في سلسلة "ملف المستقبل سري جداً" وكانت أول عدد في السلسلة.وتعتبر البداية الحقيقية لقصص المخابرات، حينما تعرف نبيل فاروق على ضابط مخابرات مصري ،أوحت له بشخصية ادهم صبري، والتي كانت الأشهر على الإطلاق في حياة نبيل فاروق، والتي انتشرت انتشارا واسعا ليس في مصر فقط ، ولكن في العالم العربي بأكمله والتي حققت له شهرة واسعة ونجاحاً باهراً، قرر على أثرهم اعتزال مهنة الطب، والتفرغ للكتابة بشكل كامل، كمهنة رئيسية .
ذلك الجيل الذي كان قبل نبيل فاروق، يعتمد في قراءته للروايات البوليسية على الأدب الأجنبي المترجم، مثل روايات أجاثا كريستي وآرثر كونان دويل وغيرهم، إذ نجح نبيل فاروق في جذب شريحة كبيره جدا من الشباب إلى قراءات الروايات البوليسية العربية
بعد هذه الانطلاقة الناجحة، أصبح نبيل فاروق أيقونة أدب الروايات البوليسية والخيال العلمي ، اتسمت أعماله بالجودة والغزارة، كتب مجموعة من السلاسل الناجحة، مثل سلسلة "رجل المستحيل"، وهي الأشهر له على الإطلاق، و"ملف المستقبل"، و"زهور"، و"كوكتيل 2000"، و"فارس الأندلس"، وغيرها الكثير.
كما كان نبيل فاروق يكتب في العديد من المجلات والجرائد المنتشرة في وقتها، وأشهرهم مجله "الشباب"،والتي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام، وفي جريدة الدستور واسعة الشهرة آنذاك.
الحب والصداقة
كان فاروق يشعر برغبته أن يصبح مؤلفاً منذ أن كان طفلاً في المرحلة الإبتدائية، وأبدى استعداداً لذلك من خلال محاولاته الأدبية، مما جعل أساتذته وزملاؤه يلقبونه بالمؤلف، كما اخبر الدكتورة ميرفت زميلته، والتي اقترن بها فيما بعد، حسب ما رواه هو في عدة لقاءات صحفية وتليفزيونية، بأنه سيتخرج من كلية الطب لكنه سيمتهن التأليف، فهل هي على استعداد ان تسير ذلك المشوار الصعب معه أم لا؟ وبالفعل اقترنت به، وخاضا معاً رحلة شاقة فالرجل مغرم بالكتابة والأدب حتى النخاع، وبدا ذلك جلياً، حينما حانت له الفرصة، فأبدع.
أما بالنسبة لأحمد خالد توفيق، فدائماً ما يقترن اسم نبيل فاروق باسمه نظراً لما أحدثته كتاباتهما من تأثير كبير على الشباب خلال الثلاثين عاماً الأخيرة.
وترتبط صداقتهما بعدد كبير من المصادفات الغريبة، إذ أن كليهما عمل بمهنة الطب، ومن مدينة طنطا، وأيضاً تزاملا في المؤسسة العربية الحديثة، لكن الكاتب أحمد خالد توفيق، اعترف بفضل نبيل فاروق في إلحاقه بالمؤسسة العربية الحديثة، إذ تم رفضه من لجنة القراءة بالمؤسسة مع أول قصة كتبها وهي "الكونت دراكولا"، ولكن الأستاذ نبيل فاروق اعترض، وطلب إعطاء فرصة أخرى للكاتب الشاب، الذي أصبح بعد ذلك من أهم كتاب المؤسسة، واستمرت صداقتهما حتى وفاتهما.
ومن منا ينسى حملة نبيل فاروق التاريخية تلك:
(بسم الله الرحمن الرحيم
إلى ادهم صبري، إلى رجل المستحيل، بعد رحلة قطعناها معاً، عبر ما يقرب من ثلاثة عقود ونصف، وقبل أن نفترق أخيراً إلى الأبد، لم تعد لدي سوى كلمة واحدة أرويها عنك ، كلمه أخيرة، دكتور نبيل فاروق).
بهذه الكلمات المؤثرة، ودع الدكتور نبيل فاروق بطل عمله أدهم صبري عام 2019 وكأنه يرثيه، أو يرثي نفسه، بما اعتبره القراء وداعاً رسميا ودع به نبيل فاروق الحياة العامة والأدبية، وترك قراؤه ، يشعرون بالحنين دائماً الى ماضيهم الجميل، وبالفعل رحل الكاتب الكبير نبيل فاروق عام 2020 تاركاً وراءه جيلاً بل أجيالاً، ممتنين له بكل ما وصلوا إليه من وعي وأدب ومتعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع