"مات العراب فمات الأمل وماتت الروح. رحلت بجسدك لكنك ستبقى فينا بروحك". و "شكراً لك فقط علمتني معنى الحياة". و"وداعاً أيها القريب، وداعاً أيها الحبيب"... هكذا توزعت الكلمات على مقبرة "العراب" أحمد خالد توفيق بخطوط تلاميذه ومحبيه الذين رحل عنهم قبل أيام تاركاً سيلاً من الأحزان التي لم تندمل حتى اللحظة. بين المقابر في طنطا ستلمحون حالة فريدة، إذ يحضر الناس يوم الخميس فقط، أو في المناسبات، إلى المقابر لزيارة الموتى، غير أن قبر "العراب" تحديداً يعج بالزوار كل يوم، حتى أن البعض وصف ضريحه بأنه ضريح لأحد أولياء الله الصالحين الذين يقف البعض على عتباتهم يشكو همومه طالباً العون. على واجهة المقبرة، سيلفت نظركم الكثير من الرسائل التي تركها الزوار، تعبيراً عن حبهم لمن علمهم معنى الحياة. ورغم أن هذه الرسائل اختفت في أحد الأيام وسارت الشكوك حول الفاعل، فإن الحقيقة ظهرت فيما بعد، ومفادها أن أسرة الراحل نزعتها لتغليفها بشكل لائق قبل تعليقها من جديد، لتبقى خالدة خلود كلمات العراب وأفكاره. تعلم التلاميذ والمريدون والأتباع من "العراب" الكثير، جمعتهم به مواقف عدة، وتفاصيل حياتية أبعد ما تكون عن علاقة أديب بقرائه.
يقول الكاتب والممثل محمد خميس: "علاقتنا بدأت سنة 1990، لم تكن علاقة قارئ بكاتب، تعرفت إليه أول مرة في ندوته الأولى في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة غرب القاهرة، وكنت واحداً من المنظمين، ومنذ ذلك اليوم استمرت علاقتنا حتى رحيله". ويروي: "في يوم رحت اللقاء بتاع روايات مع د. أحمد خالد توفيق عند مكتبة الإسكندرية. الراجل وقف على رجله في ساحة البلازا ما يقرب من 5 ساعات تحمل فيها كل تفاهاتنا ببساطة على الرغم من الجو العاصف. وفي يوم تاني قابلناه في محطة القطار في القاهرة، وقعد معانا 3 ساعات على رصيف المحطة. كان بـيستحمل كل تفاهاتنا بطول بال رائع، وأذكر في اليوم ده إن أحد أصدقاءنا من دولة عربية مجاورة كان معانا. وسأل الدكتور عن مشاكل صحية يواجهها تتعلق بألم ما في قدمه، بصينا لبعض وكتمنا ضحكنا بالعافية".ويضيف: "حاولت أن أقنعه أن يترجم كتاباته للغات أجنبية، اعتقاداً مني أنها سوف تفتح منطقة جديدة للثقافة العربية، لكنه اعترض، وكانت وجهة نظره "محدش يبيع المية في حارة السقايين"؛ لأن لدى الغربيين أدب رعب من النوع الممتاز". ويواصل: "الإرث الحقيقي ليس كتاباته فقط وإنما سعيه الدائم لنقل الثقافة للأجيال التالية، كي يكون لدينا أجيال مثقفة ثقافة مختلفة. فكان باحثاً عن فتح أبواب جديدة تنير لنا الطريق، وهناك الكثير من القراء عرفوا أشياء كثيرة من خلال كتاباته". أما المخرج الشاب أحمد الرمادي، أحد جيران العراب، فقال: "أقرأ للدكتور أحمد من سنة 1995.
بدأت بسلسلة "ما وراء الطبيعة". ولم أفوت أي عدد من السلسلة، ثم طرح سلسلة "فانتازيا" و"سافاراي"، لكنني أحببت سلسلة "ما وراء الطبيعة" وبطلها رفعت إسماعيل هو الأقرب لقلبي". ويضيف: "كذلك تابعت مقالاته الأسبوعية وروايته خارج السلاسل، أما أول لقاء لي معه فكان عام 2006 عندما عرفت أنه دكتور في كلية الطب بجامعة طنطا، فذهبت إلى هناك لأني كنت أدرس في الجامعة نفسها، طرقت باب مكتبه فسمعت صوته الهادئ يقول: اتفضل، ثم سألني هل أنا طالب عنده؟ فقلت: "لا، أنا بس جاي أسلم على حضرتك". ويتابع: "بدا خجولاً جداً ومتواضعاً عندما قال لي: "أنت فعلاً جاي هنا بس علشاني، أنا مش مصدق". فقلت له: "يا دكتور أنا اللي مش مصدق إني قاعد في حضرتك كده وبنتكلم". الحقيقة أنه ارتبك وأصر على أن يطلب لي فطوراً وشاياً".
ويواصل: "اكتشفت لاحقاً أنه جاري في طنطا بعدما تقابلنا عدة مرات في الشارع نفسه، وأشار لي باتجاه بيته. تكررت لقاءات الصدفة خصوصاً بعد صلاة الجمعة". ويختتم "كل يوم أنا وشباب كتير بنروح نزور القبر، نكتب له رسائل، ونعلقها على قبره لا شعورياً كده. هو كل تواصله معنا كان عن طريق الكتابة فيمكن ده السبب. ويمكن كمان إن كلنا عارفين إنه كان بيحب الخطابات المكتوبة بخط اليد أكثر من الإيميلات والرسائل الإلكترونية. والأجمل من كل هذا أن أسرته وبخطوة في منتهى الرقي جلدت الخطابات دي وعلقتها تاني على القبر علشان عارفين قد إيه ممكن تكون دي حاجة فارقة معاه وأنه أكيد حاسس بينا".
وقال أحمد عبد الحميد: "في أحد الأيام، حدثني المستشار الثقافي لمكتبات "أ"، وشرح لي إن المكتبات ستقيم احتفالية للدكتور أحمد بمناسبة اختياره شخصية العام الثقافية، ويحضرها الكتّاب الشباب الذين تأثروا بكتاباته كي يحتفوا به. أتذكر أنه قال إن الدكتور يعاني من مشاكل صحية، لذا لا نريد أن نرهقه، وأننا نحن الكتّاب سنتحدث عن تجربتنا معه وتأثرنا به، طبعاً وافقت بدون أدنى تردد. ولم أكن أعرف هل سيتذكرني أم لا؟". ويواصل: "عندما قابلت الدكتور أحمد، فوجئت أنه يتذكرني، إذ قال لي: "أنت فلان البطة الميتة!"، وهو الوصف الذي أطلقته على نفسي عندما قلت له مازحاً إني لا أستطيع السفر معه إلى ندوة بالإسكندرية دون أن أخبر زوجتي وإلا فسأصبح "بطة ميتة". يوم تكريمه في مكتبة ألف كان من أجمل الأيام في حياتي، سألني عن أصدقائنا المشتركين: خميس ووسام ونيرفانا، وأهديت إليه روايتي ترنيمة سلام".
وقال أحمد فريد، 25 سنة، خريج كلية الحقوق بجامعة طنطا، وأحد قراء خالد توفيق: "كان هناك تواصل مستمر بيننا، منذ أن قابلته في إحدى الندوات، كان بمثابة أب لي، لم يكن يرفض الحديث في أي موضوع، وربما من هنا كنت أتصل به أحياناً لأساله عن أمور حياتية". ويتابع: "أغلب كتاباته قرأتها، وكل نصائحه لي ولجيلي أحتفظ بها في قلبي، وأنا واحد ممن يحرصون على زيارة القبر مرة كل أسبوع، وربما لن تصدقني إذا قلت لك إني أشعر براحة كبيرة هناك. كان الراحل حالة فريدة من نوعها، وربما من هذا المنطلق رأينا جنازته وكأنها تظاهرة حب لهذا الرجل الكبير". وقالت ريهام فايز، 27 سنة، خريجة كلية العلوم بجامعة طنطا: "كنا نزوره باستمرار في مكتبه بالكلية، وكان يتعامل معنا وكأنه شاب في مثل عمرنا، لم أكن أتحدث إليه عن كتاباته أو في الجديد الذي سطرحه لاحقاً فقط، بل عن كل شيء". وقال وائل مكرم 20 سنة، طالب بكلية التربية بجامعة طنطا: "كنت أنا وزملائي نتواصل معه باستمرار، أحياناً عبر الإيميلات وأحياناً أخرى عبر الرسائل التي كان يعشقها، كنا نزوره عندما نعلم بمرضه. علّمنا كيف نثق في أنفسنا، وعلمنا أن نحب القراءة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.