شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
سأتوب بعد الستين... لماذا يدين فنانون/ات أنفسهم/هن دينياً في الجزائر؟

سأتوب بعد الستين... لماذا يدين فنانون/ات أنفسهم/هن دينياً في الجزائر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 28 فبراير 202305:15 م

في سلسلة حوارات أخذت تجريها بعض وسائل الإعلام الفرنسية أخيراً مع فنانين حول ظروفهم المعيشية، في ظل الأزمة التي تعصف بكثير من الدول، وفي ضوء التعديلات التي يراد إدخالها على قانون التقاعد الذي يراد به رفع سن التقاعد، أكدت وجوه فنية عرفت المجد في سنوات ماضية، وأضافت لإرثنا الفني والثقافي، أنها تعيش على "معاشات" ضئيلة، مما أثار الحيرة، خصوصاً أن عائدات "الشو بيزنس" جد مغرية في بلادنا، وفي دول أخرى تحفظ حقوق ملكية المؤلف مثل أمريكا وأوروبا.

في الجزائر، أطلقت وزارة الثقافة في سبتمبر/ أيلول 2022 مشاورات واسعة مع فاعلين في القطاع الثقافي بغية سن قانون "متخصص، يُرجى منه حماية حقوق الفنان، وضمان حياة كريمة له، مع تكرار مشاهد النهايات المأسوية التي يعيشها فنانون خلال مرضهم، إذ يعجز الكثيرون منهم عن إيجاد ثمن العلاج، ما خلق حالة تعاطف شعبي تضغط على الجهات الوصية للتكفل بهم في رحلتهم الأخيرة، بالإضافة إلى رعاية الحالة المأسوية التي يخلفون فيها عائلاتهم، والتي لا تتلاءم مع المجد الشعبي الذي حصدوه".

"لا فن بعد الستين"

لكن لا يبدو التقاعد المريح أكثر ما يشغل فناني هذا الجيل، ذلك على الأقل ما جاء على لسان أحد أهم الوجوه الفنية الغنائية الجزائرية خلال السنوات الأخيرة.

في حوار متداول على يوتيوب منذ فبراير/ شباط 2022، قدم الرابر الجزائري رؤوف دراجي المعروف بـ "سولكينغ"، نظرته إلى الفن قائلاً: "لا فن بعد الستين. نحن مسلمون".

جاءت جملته هذه بعد كلام عن مسيرته التي اضطر فيها للهجرة غير الشرعية نحو فرنسا حتى يتمكن من تحقيق حلمه باحتراف الفن، كما أخبر محاوره، خصوصاً أن البلد قبل إحدى عشرة سنة لم يكن يوفر فرصاً للمشتغلين بالفن من راقصين ومغنين، بحسب قوله.

يعدّ "سولكينغ" من أكثر الفنانين الجزائريين حضوراً خلال السنوات الأخيرة بعد نجاح أغنيته "حرب guérilla" التي غناها حباً في الجزائر، وتحوّله لاحقاً لصوت الشارع خلال فترة الحركة الاحتجاجية الشعبية التي سميت "حراكاً".

ثم أدى "سولكينغ" أغنية "ليبرتي" رفقة الثلاثي السري "أولاد البهجة". إذ ذاك انقلبت أحواله عقب حفل أداه بالعاصمة الجزائرية، في أغسطس/ آب 2019، بعد أن ذهب الكثيرون من الجمهور ضحايا لحادثة التدافع التي خلفها مروره.

سبق كثيرون "رؤوف دراجي" في القول بضرورة التوبة قبل الممات، وصرح كمال المسعودي أنه لا يحفظ القصائد التي يؤديها بل يحفظ القرآن لأنه سيجده في اليوم الآخر... كيف لفنانين أثروا وجداننا أن ينقلبوا على ما أبدعوه؟

وهو كثيراً ما تعرض للانتقاد، تارة لمحدودية مواهبه الفنية، وأخرى للمواضيع التي يتناولها في أغنياته، والتي يرى فيها البعض تشجيعاً للشباب على الهجرة غير الشرعية.

"سولكينغ"، الذي يغني المحظورات المجتمعية من مخدرات، وكحول، مع نظرة دونية للمرأة، كما يفعل كل مغنيّ الراب عموماً، بدا تصريحه غير متناسق مع مضمون أغانيه، خصوصاً أن لديه شهرة غير مسبوقة في أوروبا. وهو كان قد أدى أغنية في "حفلة الموسيقى" الفرنسية على القنوات العمومية، في مايو/ أيار 2022، وهي الحفلة التي لا يحييها سوى أكثر المغنيين تأثيراً على الساحة الفنية، والذين يعدون جزءاً من منظومة إنتاجية موسيقية عالمية.

في تلك الحفلة وجّه "سولكينغ" كلامه للجمهور الجزائري تحديداً، دون غيره، كمن يحاول استعادة شارع تألب ضده، تارة لعدم اكتراثه بمصير من ذهب ضحية لحفله، وتارة لرفضه كلماته التي رأى فيها كثيرون تشجيعاً للشباب على سلك معابر الموت، طمعاً في الجنة على الضفاف الشمالية للمتوسط، وهو الكلام الذي استفاض في تفنيده بتقديم النصح لهؤلاء، موظفاً تجربته الخاصة في "الحرقة"، بل ذهب للتأكيد أن ما دفعه للهجرة غير الشرعية هو ضيق أفق سوق الفن في الجزائر.

سبق كثيرون "رؤوف دراجي" في القول بضرورة التوبة قبل الممات. ويحدث أن يعثر الباحث في هذا الشأن على فيديوهات لفنانين مشهورين كالراحل "كمال مسعودي"، إحدى أيقونات جيله، ورمز من رموز موسيقى "الشعبي" التي أدخل عليها رؤيته، حتى ابتكر لوناً خاصاً به.

صرح مسعودي في آخر حوار تلفزيوني قبل الحادث المروري الذي سيضع حداً لحياته القصيرة، أنه لا يحفظ "القصيد" (أي القصائد التي يؤديها) بل يحفظ القرآن لأنه سيجده في اليوم الآخر، ويكتفي بأن تكون نصوص أغانيه مسجلة على الورق أمامه.

الأمر الغريب الذي يستشعره المراقب هو أن مثل هذه الخطب لا تجد طريقاً لدى مغنيّ ألوان موسيقية أخرى، ذات الطابع النخبوي، كالموسيقى الأندلسية عموماً، بمدارسها المختلفة، ولقب "الحاج" و"الشيخ" الذي يكتسبه نجومها بمرور سنوات خبرتهم على المسارح في قيادة أوركسترات، مختلطة أحياناً من رجال ونساء، وتأدية قصائد تعود إلى قرون بعيدة، ربما لفحوى القصائد التي تحسب على التراث الصوفي، الذي يأخذ صبغة دينية.

البحث عن النشأة

قد تفسر التنشئة الاجتماعية، والأوساط التي ترعرع فيها كل فنان، رؤيته لرسالته الفنية، وأهميتها، ومكانتها على خارطة التاريخ، خصوصاً أن الأوساط الشعبية كانت ولا تزال متأثرة بالخطاب الديني الموروث أو المفروض، والذي يرى في الفنون عموماً مزاحمة لسلطة الإمام في السيطرة على الوعي ومنظومة الأفكار.

الجزائرية آسيا جبار تحكي في رواية لها كيف اضطرت سليلة إحدى عائلات الحواضر أن تعيش إهانة كبيرة، يوم تزوجت رجلاً ذا مكانة مجتمعية محترمة، ولكن له أصول قروية، وقد أرغمها على قضاء أولى ليالي حياتهما الجديدة داخل ضريح شيخ قريتهم، حتى تحل البركة بالعائلة الوليدة.

يبرر الكثير من المغنين أن ما دفعهم إلى امتهان الفن هو ظروفهم المعيشية الصعبة، وأنهم بمجرد أن يتجاوزوا هذه الظروف سيعتزلون ويتوبون، الأمر الذي كررته أيضاً الجزائرية "الشابة يمينة" المعروفة بتأدية تراث الشرق الجزائري، فهل هم مقتنعون حقاً بفكرتهم تلك أم يحاولون نيل إعجاب معجبيهم، الذي يغلب عليهم النزعة الدينية المحافظة؟

يبرر الكثير من المغنين أن ما دفعهم إلى امتهان الفن هو ظروفهم المعيشية الصعبة، وأنهم بمجرد أن يتجاوزوا هذه الظروف سيعتزلون ويتوبون، الأمر الذي كررته أيضاً الجزائرية "الشابة يمينة" المعروفة بتأدية تراث الشرق الجزائري الفولكورية كأغنية شاوية وسطايفية وغيرهما، والتي كثيراً ما تكرر في لقاءاتها أن ما يدفعها للغناء هو ظروفها المعيشية. علماً أنها بدأت ممثلة بارعة على خشبة مسرح قسنطينة، وظهرت في بضعة أعمال أنتجها التلفزيون الوطني الجزائري، قبل أن تتحول لألمع نجوم الغناء التقليدي، تحيي حفلات أعراس، مفصحةً عن رغبتها في الحصول على ما يخولها إنجاز مشروع في تربية الأبقار، مبتعدة عن توظيف القاموس الديني، رغم ارتدائها للحجاب بعض الوقت قبل قلعه.

يبدو مصطلح الفنان واسعاً، وقلة من الفنانين المشتغلين بالتمثيل من مسرح وسينما يأتون بمثل تصريحات "سولكينغ" و"مسعودي"، رغم تنشئة الكثيرين البسيطة. قد يبرر ذلك طبيعة المتلقين، وحتى العملية الإبداعية التي تتطلب فاعلين كثراً، يندر أن يفتقروا لتجارب فكرية في حدها الأدنى، ولكن ربما بسبب الرقابة القبلية التي تتعرض لها النصوص التي ينتجها التلفزيون الوطني، الذي يظل أهم ممولي الأعمال في ظل مناخ إنتاجي ضحل، وهو ما يفسر بعض حملات التشويه التي تعرض لها عدة فنانات على مواقع التواصل الاجتماعي كـ "بيونة" التي تحولت من أهم ممثلة جزائرية إلى العدوة الشعبية الأولى، بعد ظهورها على إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية. وهي كانت قد قدمت سلسلة أعمال سينمائية مميزة جداً كثلاثية "نذير مقناش": "ديليس بالوما"، "حريم السيدة عصمان"، "فيفا لالجيري"، إضافة إلى سلسلة عروض "وان ومان شو" في أوروبا، إضافة إلى أدائها الغناء المنفرد.

يبدو أن محاكم التفتيش قد تجاوزت سلطة رجل الدين التقليدية، وسلطة الجماهير الشعبية، التي تقيم محافل تهليل لكل فنان يقرر "التوبة" واعتزال "دنس الموسيقى"، إذ يكفي لتلمسها منابعة التعليقات على أغاني فنانين "تائبين"، أحياءً كانوا أم راحلين، وآخرين لا يزالون يبدعون –خصوصاً النساء اللواتي يرافقهن تذكير الناس بسوء المآل، كما يحدث مع كل أغنية تطلقها "نوميديا لزول" المعروفة كمؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

أما مغنيات الراي، مثل الشابة صباح، والشابة شينو، وغيرهما، فحفلات الوعظ المجاني تبدأ قبل إطلاق أي أغنية جديدة لأي منهن، رغم أرقام المشاهدات الخيالية، والاستعادة للأغاني على مختلف المنصات كـ "تيك توك" مثلاً.

قد لا تكون هذه الانطباعات مطلقة، إذ توجد تعليقات مشجعة أيضاً، ولكن يمكن الحكم بأن التفتيش قد انتقل إلى الجهة المقابلة، رقابة ذاتية ربما، أو مناورة لكسب مساحة أكبر من التعاطف، وبالتالي سوق أكبر إلى حين.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image