"بالتعليمة الأخيرة لوزارة الثقافة الجزائرية، نكون قد عدنا حقاً إلى دائرة الجدل في ما يُسمح أو يُمنع إنتاجه وسماعه من الفن"؛ هكذا بدأ الناشط السياسي جلال سعدوني، من ولاية برج بوعريريج شرق الجزائر، حديثه إلى رصيف22، حول القرار الأخير بمنع بث الأغاني المبتذلة.
فولاية برج بوعريريج التي كانت أحد المعاقل الكبرى للحراك الجزائري لإسقاط ولاية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، يقول جلال إن شبابها "كانوا يرددون أغاني وشعارات كلها تجسد واقعهم في الحياة، بعدما أصبحوا ضحايا للمخدرات والهجرة غير الشرعية وغيرهما مما ورد منعه في بيان وزارة الثقافة".
أيضاً، ترى سارة بن مراد، من ولاية بجاية شرق الجزائر، أن وزارة الثقافة في الجزائر أصابت في شقّ كبير مما ورد في البيان، خاصةً ما يتعلق بالفن أو الأغاني المحرّضة على العنف والجريمة.
لكنها تقول لرصيف22: "هذا المنع لا يجب أن يمس الأغاني التي تصف الواقع وتصور الحياة اليومية للمواطنين بما فيها من استهلاك للمخدرات وهجرة غير شرعية وغيرهما مما يعاني منه الشباب اليوم".
هذه هي الأغاني الممنوعة في الجزائر
ومنعت تعليمة وزارة الثقافة الجزائرية، والتي تم إرسالها إلى كل الهيئات والمديريات والمؤسسات التابعة لها، بما فيها محافظات المهرجانات والفعاليات الفنية، والديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، بث وبرمجة ما وصفتها بـ"الأغاني المبتذلة".
التعليمة التي نشرتها الوزارة أيضاً في صفحتها الرسمية على فيسبوك، أكدت طبيعة الأغاني والأعمال الفنية الممنوعة من البث، وهي تلك التي تشجّع على العنف والجريمة في الشارع، وتعاطي المخدرات، والهجرة غير الشرعية.
وقالت الوزارة "إن هذه الأغاني مسجلة ومذاعة بعشوائية، ومضللة لكل فئات المجتمع، لا سيما الشباب، من خلال نشر الابتذال والانحراف وما إلى ذلك من الآفات على غرار الأغاني التي تشجع على العنف والجريمة".
القرار حسب ما قالت "يتماشى مع الضوابط القانونية التي تحرص على عدم السماح لكل ما يخالف قيم وثوابت المجتمع الجزائري، ومع القانون الذي يعاقب على الاعتداء على الآداب العامة، وما يمس بالقيم والثوابت المعبّرة عن الهوية والأصالة".
وأهابت الوزارة بكل المسؤولين في قطاع الثقافة والفنون، عدم برمجة وبث ونشر هذه الأغاني في الفعاليات الثقافية، بهدف وقف هذا الانفلات والحد من انتشاره في أواسط النشء والشباب، مشددةً على حتمية التنفيذ الفوري لهذا القرار، ومؤكّدةً اتخاذ إجراءات ضد كل من يخالف هذا التعميم.
وبيّنت أن الهدف من قرارها هو حماية هذه الشريحة أولاً، والحرص على الارتقاء بالذوق الفني وحمايته من التشويه والتضليل، وللدفع بشباب الجزائر نحو المواطنة الراشدة وخدمة البلاد، وتحقيقاً لالتزامات الرئيس عبد المجيد تبون، بأخلاق السياسة والحياة العامة.
بالتعليمة الأخيرة نكون قد عدنا الى زمن تقرر فيه الدولة ما يُسمح سماعه أو يُمنع في الجزائر
لجنة عليا مختصة بقراءة الكلمات
توظف وزارة الثقافة الجزائرية كل السبل من أجل منع بث وبرمجة الأغاني المبتذلة، وفي كل الفعاليات والتظاهرات الثقافية بحسب سعيد حمودي، إطار من الوزارة.
وتتوفر الوزارة وفق تصريحات إعلامية لحمودي، "على لجنة وزارية عليا، مهمتها قراءة كلمات الأغاني المنتجة، قبل أي قرار ببثها أو الامتناع عن ذلك، وأي أغنية تحرّض على العنف والجريمة، وتروّج لجرائم المخدرات أو الهجرة غير الشرعية، فهي ممنوعة".
ولا يستبعد حمودي أن تلتحق قطاعات أخرى بالقرار، في انتظار كما قال "سن قانون واضح في هذا الشأن"، مشيراً إلى مباركة عدد من الفنانين لهذه الخطوة التي تأتي لتطهير الفن الجزائري.
أغاني الحراك الجزائري كانت من هذا النوع
يربط جلال سعدون، من ولاية برج بوعريريج شرق الجزائر، بين ما تم ترديده وإنتاجه من أغانٍ خلال فترة حراك الشعب ضد عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وبين النوع الممنوع في بيان وزارة الثقافة.
هذه الأغاني يقول: "كانت رافعةً لهمّة الشباب في مواصلة المسيرات، وهي كلها تتناول بالتفاصيل واقع الحياة اليومية للشباب الذي كان غارقاً في البطالة، ومشكلات المخدرات، والهجرة غير الشرعية التي أودت بحياة كثيرين".
ومن الأغاني التي نالت شهرةً كبيرةً خلال الحراك، ورددها الشباب، أغنية "وين بيها وين؟"، أي "إلى أين بهذه العقلية إلى أين؟"، وكانت تصف واقع البلاد.
ومن ملاعب كرة القدم التي يجتاحها الآلاف من الشباب في كل لقاء كروي، انطلقت مسارح التعبير الحر عما يحدث في البلاد من مشكلات، سواء أكان في الشق السياسي أو الاجتماعي وحتى الرياضي والثقافي بأغانٍ وشعارات كان وقعها كبيراً على الدولة.
ويقول جلال: "أكثر هذه الأغاني التي كانت تؤثر فيّ شخصياً، وكنا نرددها وزملائي في الساحات والشوارع خلال الحراك أغنية ‘في الليل ما جاني نوم’، أي في الليل لم يأتِني النوم، والتي وصفت ما كان يحاك للجزائر وشعبها وواقع حياة شبابها من فقر ومخدرات وهجرة غير شرعية".
وبكلمات كلها تتحدث عن طلب الحرية، ووصف مظاهر حياة الشباب، اشتهر خلال الحراك المغنّي الجزائري سولكينغ، بأغنية "الحرية"، والتي تابعها الملايين ورددوها في شوارع الجزائر وأزقتها.
ويتخوف جلال من أن يغيب هذا النوع من الإبداع الفني مستقبلاً، بعد التعليمات الأخيرة لوزارة الثقافة الجزائرية، متمنياً أن توضح أكثر وتحدد طبيعة الأعمال الفنية المعنية بالمنع، لأن "الغناء عن الواقع ليس جرماً".
تضييق
يرى الناشط السياسي الجزائري عثمان بن صيد، تعليمة وزارة الثقافة الجزائرية، نوعاً من أنواع التضييق على الفنانين لجعلهم بعيدين عن مشكلات الشباب والبلاد على وجه العموم.
وفي تصريح لرصيف22، يؤكد عثمان "أن حرية الكلمة والفن من المكتسبات التي كان ينشدها الجزائريون بعد الحراك الشعبي في 2019، والحديث عن النقائص والمشكلات والآفات التي يعيشها الشباب ليس جرماً".
وهذه التعليمة وفق رأيه "لا تختلف عن محاولات التضييق على قول الحقائق في الإعلام الجزائري، أو التضييق على قول الصراحة والحقيقة، كون الفن والغناء من هذه الوسائل والسبل".
وعلى الفنانين والمغنّين، يضيف، "أن يجتمعوا لفهم ما تم منعه من الوزارة، فإن كان التحريض الصريح على القتل والجريمة والعنف العلني، فهو مرفوض حتى في الدول الأكثر ديمقراطيةً، أما إن كان القصد منع التطرق إلى المشكلات اليومية للشباب فهذا غير مقبول وعليهم رفضه".
وهذا ما تذهب إليه سارة بن مراد، عشرينية من ولاية بجاية شرق الجزائر، أيضاً، إذ قالت لرصيف22: "الفنان أو المغنّي الذي يعالج مشكلات الشباب من بطالة، ومخدرات وهجرة غير شرعية، لم يتعدَّ واجبه في نقل الواقع، وإن كانت الوزارة تقصد ذلك فهو تضييق على حرية الفن والكلمة".
لكن في المقابل تضيف: "على المغنّي أو الفنان أن يختار كلماته، ويبتعد عن التحريض الصريح على ارتكاب العنف والجرائم والزجّ بالشباب في قوارب الموت وغياهب المخدرات، لأن هناك فرقاً بين المعالجة والتحريض".
هل ندمت الجزائر على الانفتاح الفني؟
في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان هناك نوع من الفن الممنوع من البث والبرمجة، سواء عبر التظاهرات الثقافية أو حتى على أمواج الإذاعات والبرامج التلفزيونية.
ويفسر الناقد الفني الجزائري سفيان عليوات، لرصيف22، أن هذا الوضع يعود إلى أن "الإعلام الرسمي كان يرى في الرومانسية وبعض الألفاظ الساخنة تابوهات (محرمات)، من الصعب كسرها أمام العائلة الجزائرية".
ومثال ذلك يضيف: فن الراي الجزائري الذي بلغ العالمية. كان يراه الإعلام الجزائري وليد الملاهي والمراقص الليلية، ومنع من العرض أي عمل يندرج في هذا الجانب، إلى أن كسر ذلك الشاب حسني ببعض أعماله وعلى رأسها "ڨاع النساء" أي "كل النساء"، برغم أن الفيديو كليب كان يُظهر النساء راقصاتٍ في صورة أثارت الجدل حينها، "قبل أن تصبح في خانة العادي لدى الأسرة الجزائرية بمرور السنوات".
ويتخوف عليوات، من أن تكون التعليمة الأخيرة لوزارة الثقافة خطوة ندامة على فتح تلك النافذة يوماً ما، ويقول في هذا الشأن: "على الرغم من أن البيان لم يتطرق إلى عرض أي نوع من أنواع الغناء أو انتقاده بقدر ما تكلم عن الكلمات والآداب العامة وأغاني التحريض على العنف والجرائم، إلا أننا متخوفون من أن الخطوة المستقبلية قد تمسّ بطابع الراي كونه الأقرب إلى الكلمات الحميمية وشؤون الشباب الجزائري".
منعت الجزائر الأغاني تلك لدفع الشباب نحو المواطنة وخدمة البلاد ودعم الرئيس
فن الراي في خطر
يُعدّ فن الراي في نظر الناقد الفني سفيان عليوات، "أكثر الأنواع الغنائية الجزائرية التي عالجت مشكلات الشباب واقتربت من همومهم، زيادةً على كونه الطابع الذي تغزل بالمرأة وأظهر جمالها بكلمات جعلته ممنوعاً في الإعلام الجزائري، إذاعةً وتلفزيوناً، ولسنوات".
وقد تجعل التعليمة الأخيرة لوزارة الثقافة وفق رأي المتحدث نفسه، "فن الراي في خانة الخطر، لأن الشباب الحالم بحمل مشعل الكينغ خالد والشاب مامي وفوضيل وغيرهم، سيجدون أنفسهم متخوفين من مواصلة الأداء مهابة الوقوع في الممنوع من خلال المواضيع المعالَجة، خاصةً مشكلات الشباب وهمومهم.
ومجهودات الجزائر وفنانيها على مر العقود الفارطة، من أجل ترسيم الراي كتراث جزائري عالمي من قبل اليونيسكو في نظر الإعلامي والناقد الفني والسنيمائي محمد علاوة حاجي، مجهودات قد تذهب سدى، كون الراي الجزائري من الفنون التي تطرقت بصراحة إلى مشكلات المخدرات، والهجرة غير شرعية وغيرهما من مشاغل الشباب.
وفوق ذلك يقول حاجي لرصيف22: حتى الغناء الشعبي الذي يُعدّ أكثر الفنون التزاماً في الجزائر، وظف كلمات ومصطلحات رومانسيةً، وعالج مشكلات الشباب".
يُذكر أن منظمة اليونسكو كانت قد اعتمدت في 1 كانون الأول/ ديسمبر 2022، أغنية الراي رسمياً كفن وتراث لا مادي جزائري، يجسد تنوع الفن العالمي.
مباركة خطوة الوزارة
بارك ملك الأغنية السطافية في الجزائر بكاكشي الخير، الخطوة التي قامت بها وزارة الثقافة من أجل أخلقة محيط الفن في الجزائر، وإزالة كل الشوائب التي اعترضته وجعلته مشوّهاً بالكلمات الخارجة عن الآداب العامة.
وفي حديث له مع رصيف22، أكد بكاكشي، "أن الأغنية الجزائرية بمختلف أنواعها، أصبحت بين أيدي فنانين همهم الشهرة حتى على حساب العائلة الجزائرية والأخلاق العامة. كلمات ليس لها أي معنى، هي في الغالب تقود الشباب إلى مستنقع العنف والمشكلات والآفات الاجتماعية الخطيرة".
لذا ففي نظره، "تعليمة الوزارة هي السبيل لتنظيف المحتوى، خاصةً على مستوى التظاهرات الثقافية والفنية، في انتظار تعميمها على مستوى باقي القطاعات وتحديداً المؤسسات الإعلامية لاحترام بنية المجتمع الجزائري".
رئيس المكتب المحلي لجمعية الإرشاد والإصلاح في ولاية سطيف شرق الجزائر، مهدي قادري، يبارك هو الآخر التعليمة، ويعدّها منقذة الشباب من خطر الأغاني الهابطة التي كل كلماتها عن الحبوب المهلوسة والقتل والانحراف.
ويقول قادري في تصريح لرصيف22: "الفن في الجزائر أصبح بين أيدٍ هدّامة للمجتمع والعائلة، والشباب أصبحوا لا يرددون سوى أغاني الكباريهات الساقطة التي لا تتغنّى سوى بالسكر والتمرد والهجرة غير الشرعية وما إلى ذلك من السلوكيات المشينة.
كما يُذكر أن عدداً من المواطنين العاديين أبانوا عن ارتياحهم لقرار الوزارة.
وبين انتقاد القرار ومباركته، يبقى الجزائريون في حال ترقّب للخطوة القادمة، أكانت من وزارة الثقافة أو من قطاعات أخرى قد تنضمّ إلى القرار في ظل ما أسماه الرئيس الجزائري "أخلقةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم