شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"أفضّل الموت على ارتداء الشادور"... الطبيبة الإيرانية التي أضرمت النار في جسدها احتجاجاً على الحجاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 25 فبراير 202305:47 م

"تحيا إيران، تحيا الحرية، الموت للدكتاتور"؛ كان ذلك شعار أطلقته امرأة بعد أن خلعت حجابها وسكبت على نفسها البنزين لتتحول إلى نيران مشتعلة في وسط ساحة تجريش الشهيرة في العاصمة الإيرانية طهران، في 21 شباط/ فبراير 1994، أي قبل 29 عاماً.

خرجت بعد ذلك مظاهرات ضد الحجاب القسري في إيران، ما زال يظن البعض أنها أول اعتراض رسمي على الحجاب بعد سنوات من استقرار نظام الجمهورية الإسلامية، ووقتها لم يكن قد وُلد بعد الكثير من داعمي حركة "المرأة، الحياة، الحرية" (الاحتجاجات الإيرانية الجارية والتي اندلعت بعد وفاة الشابة مهسا أميني بعد اعتقالها من قبل شرطة الحجاب) أو أنهم كانوا أطفالاً.

تقدميّة وثورية

تلك المرأة التي أشعلت النار في نفسها، في عمر 54 عاماً، لتكون كالشمعة في تاريخ النضال من أجل حقوق المرأة، هي الطبيبة النفسية والأستاذ الجامعية والناشطة النسوية التي ولدت في سنة 1940، هُما دارابي.

حسب ما قالت زميلة هما، بَروانة فروهر، فقد حضرت الدكتورة هما كلّ الاحتجاجات في بداية الثورة ضدّ الحجاب الإجباري، حتى أنّها ذهبت مع نساء تقدميات للقاء رئيس الجمهورية حينها، أبو الحسن بني صدر، لتنتقد "الظلم المضاعف" على النساء، لكنها لم تحصل على نتيجة واضحة

كانت هُما، الحاصلة على شهادة في علم النفس وطب الأطفال، إحدى الناشطات السياسيات ضد النظام الملكي السابق في إيران، وأدى نشاطها إلى وقوع الثورة في عام 1979. باشرت نشاطها عند دخولها جامعة طهران فرع الطب في عام 1959، وأصبحت عضوةً في "الجبهة الوطنية الإيرانية" (حزب سياسي ليبرالي ديمقراطي)، وأصبحت في ما بعد عضوةً في حزب الشعب الإيراني، وهو حزب قومي ليبرالي.


بعد عام من ذلك، قُبض عليها في أثناء الاحتجاجات الجامعية ضدّ رئيس الوزراء السابق منوجهر إقبال، الذي عُيّن رئيساً لجامعة طهران، متهمينها بحرق سيارة إقبال. وتنقل أختها الناشطة "بَرْوُيِن"، قصة اعتقالها بقولها: "لقد سحلها رجال الأمن من البيت ولم يعرف أحد هل هي على قيد الحياة أم لا. اتصل طبيب سجن قصر الذي كان زميلاً لها بمنزلها وقال إنّ هما هنا وسيطلَق سراحها بعد أسبوعين".

في عام 1962، أسست هما مع الناشطة بَروَانة فروهر، من ضحايا القتل المتسلسل للجمهورية الإسلامية، منظمة النساء الوطنية. كانت تنشط في مؤتمرات الجبهة الوطنية وسُلّم لها الكثير من الخطب. بعد أن أنهت دراستها، ذهبت إلى قرية بهمني في شمال إيران وقدّمت المساعدات للأهالي كطبيبة لفترة سنتين.

اهتمت هما اهتماماً بارزاً بأفكار الوطني محمد مصدق، ودائماً ما كانت تزوره في منفاه. كان مصدق من مؤسسي الجبهة الوطنية، وأمّم النفط في زمن رئاسته الوزراء، وسُجن بعد انقلاب آب/أغسطس 1953، وبقي في السجن ثلاث سنوات، ثم نفي إلى قلعة أحمد آباد الواقعة في قرية على أطراف العاصمة طهران.


وبعد وفاة مصدق في بداية عام 1967، ذهبت هما مع زوجها، منوجهر كياني، وهو عضو في حزب الشعب الإيراني، إلى أمريكا لإكمال دراستها. بعد إنهاء فترة دراسة أمراض الأطفال وعلم النفس، نجحت في الحصول على الترخيص الطبي في ولايات مهمة؛ نيويورك وكاليفورنيا ونيوجرسي. لكنها قررت العودة إلى الوطن في عام 1974، كي تضع تجربتها وقراءتها في مجال الصحة وصحة الأطفال في خدمة أبناء وطنها.

عند عودتها، قامت بالتدريس في الجامعة، وزاولت نشاطها السياسي من جديد، فأهداف هما كانت الحصول على الحرية السياسية. في نهاية المطاف، أثمرت جهودها طوال سنوات إلى جانب جهود آخرين من المناضلين والسياسيين من شتى الأحزاب والتيارات، وذلك في شباط/فبراير 1979، حيث سقط النظام الملكي في إيران وهرب محمد رضا شاه إلى الخارج.

محبطة وخائبة الأمل

بعد سقوط النظام الملكي في إيران وانتصار الثورة الإسلامية، فرض التيار الإسلامي بزعامة رجل الدين روح الله الخميني، نظام الجمهورية الإسلامية، وبدأ وقتذاك يضيّق الخناق والقيود على باقي التيارات التي ساهمت في نجاح الثورة وخالفت بعدها أسلمة المجتمع والنظام السياسي، كما تحمل الكثير من المطالبين بالحريات الفردية، من ضمنهم الناشطات، قيوداً صارمةً بعد الاستيلاء الكامل على مؤسسة الحكم في البلاد من قبل رجال الدين.

وأشعل قانون الحجاب الإجباري في البلاد موجات احتجاجات متعاقبةً في الشوارع والمؤسسات الحكومية والجامعات والمحافل الأدبية والسياسية والاجتماعية. وحسب ما قالت زميلة هما، بَروانة فروهر، فقد حضرت الدكتورة هما كلّ الاحتجاجات في بداية الثورة ضدّ الحجاب الإجباري، حتى أنّها ذهبت مع نساء تقدميات للقاء رئيس الجمهورية حينها، أبو الحسن بني صدر، لتنتقد "الظلم المضاعف" على النساء، لكنها لم تحصل على نتيجة واضحة.

قرار فرض الحجاب قد حسمه الإسلاميون المتشددون وأيّده الخميني، صاحب الكاريزما الثورية والشعبية لدى شرائح مختلفة من المجتمع، لكن هما لم تتقبل ذلك القرار الجارح لحرية النساء والذي بقى عبئاً عليهن على مدى العقود المتعاقبة.


أكملت هما نشاطها العلمي في السنوات الأولى بعد انتصار الثورة، وأثمرت جهودها في تأسيس القسم النفسي وعلاج النطق في إحدى مشافي طهران. في غضون ذلك، انضمت إلى قسم التعليم الاختصاصي لعلم النفس في وزارة الصحة، وأصبحت مديرة قسم شؤون علم النفس في جامعة بهشتي.

مع تصاعد الضغوط على النساء في الدوائر والمؤسسات الحكومية، اعترضت هما أمام وزير الصحة حينها، على وجوب ارتداء العباءة، وفرض تعليم القرآن على الممرضات بدل انشغالهن في التخصص العلمي.

لسانها الحاد كالسيف في الدفاع عن حقوق المرأة، جلب عليها الكثير من الويلات سواء في زمن الشاه أو زمن رجال الدين؛ طُردت من الجامعة الطبية ومُنعت من التدريس بسبب حجابها ومعارضتها لذلك، وتشرح أختها بَرْوِين عن ذلك قائلة: "قالت هما لرئيس المستشفى المتشدد دينياً، التابع لجامعة العلوم الطبية، إنها تفضّل الموت على ارتداء الشادور (العباءة الإيرانية)".

"أخذوا مني سبب الحياة"

احتجت هما دارابي مرات ومرات على الحكم الصادر في حقها ظلماً حتى دخلت في حالة اكتئاب شديدة. تذكر بروين في كتابها عن أختها تحت عنوان "الغضب على الحجاب؛ حياة وممات معارضة شجاعة ضد الإسلام"، نقلاً عن هما: "لقد أخذوا مني سبب الحياة. يريدون كسري. ماذا لديّ في الحياة سوى طلابي؟ مَن يمكنه تدريسهم مثلي؟ لا أحد هنا. كل هؤلاء الشباب، كلّ هذه العقول اللامعة عليهم فقدُ أساتذتهم من أجل هذا الحجاب الأحمق".

لم يكتفِ النظام الإسلامي بهذا ضد هما، فقد تم إغلاق عيادتها النفسية لعلاج الأطفال، فكان بعض مرضاها من أعضاء الحرس الثوري أو من العوائل الدينية المتشددة، الذين يرفعون تقارير عنها بأنها لا ترتدي غطاء الرأس ولا الجوراب وأموراً أخرى، حسب ما تنقل أختها.

"أُغلقت هذه العيادة لعدم مراعاة الشؤون الإسلامية"، هكذا كُتب على باب العيادة. رغم اكتئابها لكن هما لم تنكسر تحت هذه الضغوط، فعندما رفعت شكوى، استطاعت الفوز بها وعادت إلى العيادة، بيد أن عملها خفّت وتيرته بسبب زيادة وتيرة اكتئابها نتيجة فقدانها الأمل بثورة حصلت لتجلب الكثير من التطورات الإيجابية في وضع الإيرانيات.

"لقد أخذوا مني سبب الحياة. يريدون كسري. ماذا لديّ في الحياة سوى طلابي؟ مَن يمكنه تدريسهم مثلي؟ لا أحد هنا. كل هؤلاء الشباب، كلّ هذه العقول اللامعة عليهم فقدُ أساتذتهم من أجل هذا الحجاب الأحمق"

أقدمت هُما على الانتحار ولكن محاولاتها باءت بالفشل بعد تدخل أقاربها، وفي يوم من تلك الأيام الكئيبة، رمت كتب علم النفس وقالت لأختها: "لا فائدة منها. لا أريد الاستمرار في الحياة، لقد تعبت".


سلبوا حياتها، وحطّموا آمالها، وضيّعوا نضالها، لكنها قررت أن تنهي حياتها وصوت احتجاجها يملأ الآذان، فاختارت ساحة تجريش الشعبية حيث أقلعت الحجاب عن رأسها وقامت بصب البنزين على نفسها، لتصدح ضد الحجاب وضد الدكتاتورية، وبقيت حاضرةً في المخيلة الإيرانية، أيقونةً في النضال السلمي والتوعوي ضد الرجعية. توفيت هما في المستشفى بعد يوم من القيام بحرق نفسها، إثر الجراحات الواردة. وأشعلت ضجة كبيرة في البلاد بعد وفاتها. 

يعتقد الباحثون والمحللون للشأن الإيراني أن الاحتجاجات الأخيرة في إيران على خلفية وفاة مهسا أميني وضد الحجاب وتقييد الحريات لم تكن وليدة الساعة، بل إنها استمراراً لنضال واحتجاج على مدى 4 عقود من عمر الجمهورية الإسلامية.

"لم تحدث هذه الاحتجاجات عبثاً، فعندما ننظر إلى استمرار العنف والقمع والاعتداء والقتل والدماء التي سُفكت على مدى 44 عاماً من تاريخ الجمهورية الإسلامية، عند ذلك نعذر الشباب الذين خرجوا في احتجاجات شديدة وعنيفة"؛ هكذا يصف المفكر الديني عبد الكريم سروش الأحداث الأخيرة في إيران في أحدث تصريحاته. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image