هنّ نساء فلسطينيات من قطاع غزّة، تجاوزن الستين سنةً من العمر، وحُرمن في طفولتهن من التعليم والآن يردن تعويض ما فاتهنّ عبر الالتحاق بمقاعد الدراسة.
السيدة سمية بركات (61 سنة) إحداهن. وَجَدَت في الالتحاق ببرامج محو الأمية سبيلاً لمحاربة الضعف، وصارت اليوم قادرة على قراءة وكتابة النصوص باللغة العربية وإجراء بعض العمليات الحسابية غير المعقّدة.
بعد وفاة والدها، اضطرت سمية إلى ترك الدراسة ومساعدة والدتها التي كانت تعمل في مجال التطريز، لإعالة شقيقاتها وتعليمهن، ومعالجة واحدة منهنّ كانت مصابة بمرض عانت منه لسنوات قبل أن يخطفها الموت.
حُرمت سمية من فرصة الجلوس على مقاعد الدراسة. حتى بعد زواجها، أبدت رغبتها في تلقّي التعليم، لكن زوجها لم يساندها لتحقيق حلمها وفضّل بقاءها في المنزل والتفرغ لرعاية الأبناء. تقول لرصيف22: "قررت الاهتمام بتعليم أبنائي التسعة، وجميعهم حصلوا على شهادات جامعية مرموقة"، وتضيف: "رغم فقر زوجي إلا أنني ‘حوّشت’ (جمعت المال) بشق النفس لتعليمهم أحسن تعليم لأني أحب العلم كثيراً".
انتظرت "الحاجة سميّة" انقضاء العقد الخامس من عمرها لتجد فرصة سانحة لتحقيق حلمها. وشجعتها على ذلك الرغبة وحاجتها إلى معرفة قراءة الأوراق الثبوتية والمستندات الرسمية وبعض العناوين، إلى جانب توقها لتعلّم قراءة القرآن. التقت كل هذه الدوافع ووقفت وراء توجهها إلى حلقات التدريس الخاصة بمحو الأمية، بالقرب من مكان سكنها،في مخيم الشاطئ للاجئين، غربي قطاع غزة.
والآن، تطمح الحاجة سمية إلى الاستمرار في التعلم حتى الانتهاء من الدراسة الجامعية، لكن الأحوال المعيشية الضيّقة لن تمكنها من ذلك، رغم أنها وعدت نفسها بأنها لن تستسلم.
تشاركها في الحصة الدراسية الصباحية الأولى تسع سيدات من الكبيرات في السن. يجتمعن مرتين كل أسبوع أمام طاولة و‘سَبّورة’ (لوحة دراسية) في مقرّ جمعية رعاية كبار السن، عيونهن تجاه الحروف والكلمات التي تسطرها معلمتهن في برنامج محو الأمية لتعليم الكبار داخل الجمعية، قبل أن تعلو بصوت واحد تهجئتهن وهنّ يرددن بعض الكلمات.
الحاجة خضرة البرعي (77 عاماً) لا تصدّق نفسها عندما تستعدّ كل صباح للذهاب إلى دروسها. ترتدي ثوبها وتضع منديلاً أبيض، وتحمل ظرفاً فيه دفتر وبضعة أقلام رصاص، ونظارة تساعدها على الرؤية. استطاعت حفظ الأحرف والأرقام العربية، وصارت قادرة على تهجئة بعض الكلمات. تحرص على حضور الدروس وتبذل جهوداً في نسخ كل ما يُلقى عليها وحفظه، بمساعدة بعض أحفادها الصغار، ومنهم مَن هم في نفس مستوى مرحلتها التعليمية، رغم الفارق العمري الذي يتجاوز الـ65 عاماً.
تكاد ذاكرتها تنسى الأيام التي تركَت فيها تعليمها. لكنها تستذكر جيداً الظروف الصعبة التي عاشتها وعائلتها ودفعتها إلى مغادرة المدرسة وتعلّم الخياطة ثم العمل بها كمصدر رزق استطاعت من خلاله تعليم أشقائها. وحين صارت أماً وجدت نفسها أيضاً أمام مسؤولية رعاية أولادها وتعليمهم، قبل أن يُقتل كبيرهم ويُسجَن ثانيهم في سجون إسرائيل، ليبقى بجانبها فقط أصغرهم.
مرَّات، عانت من صعوبة الإمساك بالقلم للكتابة، وكثيراً ما عاندها النسيان المتكرر في البداية للحروف والعمليات الحسابية الصغيرة، وخانتها صحتها كثيراً وتشتت ذهنها أحياناً، لكن سعادتها بأنها حفظت جزءاً من القرآن وبفهم كل ما تراه مكتوباً، بددَّ كل ما كابدته للوصول إلى هذه المرحلة.
أسباب انتشار الأمّية في فلسطين
كثيرات من السيدات اللواتي تجاوزن الستين من العمر خسرن تعليمهن في الصغر لعدة ظروف، على رأسها التهجير القسري الذي عاشه الفلسطينيون أثناء "النكبة"، عام 1948، وما تلاها من حروب وموجات نزوح ولجوء.
وتمثلت الأسباب الأخرى في تفضيل تعليم الأبناء الذكور على الإناث، إلى جانب الصعوبات الاقتصادية وضعف الميزانية الأسرية المخصصة لتعليم الأبناء وإعطاء مسألة توفير القوت اليومي الأولوية على التعليم، هذا بالإضافة إلى عدم وجود مدارس متوسطة وثانوية كافية للإناث في بعض المناطق الريفية، ما اضطر الفتيات لترك التعليم بعد الصفوف الابتدائية الأولى.
كثيرات من النساء اللواتي انقطعن عن الدراسة بسبب الظروف المذكورة، قررن بعد عقود من الاهتمام بالأسرة عكْس مسار حياتهنّ، والعودة للدراسة في مراكز محو الأمية، لتحقيق حلم الطفولة بعد عقودٍ من الحرمان من جهة، وبحثاً عن رفيقات يتبادلن معهن أطراف الحديث عن الهموم والأوضاع في القطاع المحاصر من جهة ثانية.
حُرمت الحاجة سمية من فرصة الجلوس على مقاعد الدراسة. حتى بعد زواجها، أبدت رغبتها في تلقّي التعليم، لكن زوجها لم يساندها مفضلاً بقاءها في المنزل والتفرغ لرعاية الأبناء. انتظرت انقضاء العقد الخامس من عمرها لتجد فرصة سانحة لتحقيق حلمها
وجمعية رعاية كبار السن أُسست عام 1980 بتبرعٍ من السيدة سعاد الأعظمي، وهي سيدة عراقية من الكوفة أبعدت إلى فلسطين في أيام الانتداب البريطاني، لتكون أول مؤسسة تُعنى بتقديم خدمات مختلفة ومتكاملة لكبار السن فوق الـ60 عاماً في قطاع غزة.
تقول المشرفة على حلقات تدريس محو الأميّة، لأكثر من ثماني سنوات يسرى مطر لرصيف22 إن محبة السيدات للتعلم، إلى جانب الرغبة في تلافي المواقف المحرجة التي يتعرضن لها في حياتهن اليومية، كعدم القدرة على كتابة أو قراءة أسمائهن أو التوقيع على أوراقهن الثبوتية، أو حتى شراء الدواء ومعرفة مواعيده، وعدم استطاعتهن الاستدلال على العناوين حينما يردن التنقل دون مرافق، أسباب دفعتهن إلى تحمل الصعاب والعودة للدراسة.
وتشيد بإصرار طالباتها ممن تجاوزن الستين والسبعين من العمر على التعلّم، وإجادتهن الخط العربي بشكل مذهل يشبه لوحات فنية عربية، ومثابرتهن على متابعة دراستهن وإنجاز واجباتهن باستمرار.
وتشير مطر إلى أن تلك الحلقات الأسبوعية تتبع مناهج تعليمية مصدَّقة من قبل وزارة التربية والتعليم، مكّنت عدداً منهن من اجتياز امتحان المستوى الأول المعتمد من قبل وزارة التربية والتعليم بنجاح وتفوق، كخطوتهن الأولى للانتقال إلى مستويات أعلى.
ويؤهل النجاح في المستويين الأول والثاني من برامج محو الأمية للتقدم لاجتياز اختبار الصف السادس، ويتمكن الناجحون من الانضمام إلى برامج التعليم الموازي التي تتطور فيها طبيعة العلوم التي يتلقونها، وتؤهلهم للحصول على شهادة الإعدادية، ومن ثم الانتقال لمرحلة الدراسة الثانوية، وصولاً إلى أعلى درجة يرغبون في الحصول عليها. وتتبع المناهج المعتمَدة في المراكز الأهلية للمنهاج الفلسطيني المخصص لمحو الأمية.
جهودٌ أهلية واهتمام رسمي
رغم ذلك، تقول مطر إنها واجهت صعوبة في البداية في تعليم النساء الكبيرات في السنّ بسبب نسيانهن للمعلومات وتشتت أذهانهن بفعل الأوضاع التي تعيشها مدينة غزّة المحاصرة من جهة، وانشغالهن بمشاكل عائلاتهن وعدم قدرتهن على الالتزام بتخصيص وقت محدد للتعلّم من جهة أخرى.
إلى جانب الجهود المبذولة من قبل المراكز الأهلية المعنية بكبار السن، تتلقى النساء في مراكز محو الأمية التابعة لوزارة التربية والتعليم في قطاع غزة مناهج تعليمية مبسطة تتناسب مع قدراتهن الإدراكية، وتُمكنهن من الحصول على الشهادة الابتدائية في المرحلة الأولى، ومن ثم الانتقال إلى الإعدادية والثانوية، ضمن برامج التعليم الموازي.
ويقول نائب المدير العام في إدارة القياس والتقويم والامتحانات في وزارة التربية والتعليم في غزة جمال يوسف لرصيف22 إن العمل في برنامج محو الأمية وتعليم الكبار في قطاع غزة بدأ بمبادرة من وزارة التربية والتعليم في العام 1997، على يد فريق من المختصين التربويين ذوي الكفاءة والخبرة بهدف التصدي لمشكلة الأمية التي تواجه المجتمع الفلسطيني وتقديم خدمات تعليمية وتثقيفية، و"جعل الأميين والأميات مواطنين مستفيدين وأرباب عمل صالحين وأفراد أصحاء واعين عن طريق إكسابهم معارف هادفة، وقيماً ومهارات ترفع من مستواهم الاجتماعي والمادي وترقى بحياتهم الخاصة والعامة".
كل صباح، ترتدي الحاجة خضرة (77 عاماً) ثوبها وتضع منديلاً أبيض، وتحمل ظرفاً فيه دفتر وبضعة أقلام رصاص، ونظارة تساعدها على الرؤية. تبذل جهوداً في نسخ كل ما يُلقى عليها وحفظه، بمساعدة بعض أحفادها الصغار
ويشير إلى أن "هناك حالة إصرار من النساء في قطاع غزة للالتحاق بمراكز محو الأمية، وتعليم الكبار، إذ يسجل في المراكز التابعة للوزارة والمقدر عددها بـ14 مركزاً في مختلف محافظات غزة عدد كبير منهن".
وبلغ عدد الملتحقين والملتحقات ببرامج محو الأمية وتعليم الكبار في قطاع غزة حوالي 650 رجلاً وامرأة، عام 2022، في المستويين التعليميين الأول والثاني، فقد بلغ عدد الملتحقين بالمستوى الأول في فصول محو الأمية وتعليم الكبار 361 شخصاً، بينهم 120 امرأة، فيما بلغ عدد الطلبة في المستوى الثاني 266 شخصاً، بينهم 81 امرأة، بحسب نائب المدير العام في إدارة القياس والتقويم والامتحانات.
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، انخفض معدل الأمية في الضفة الغربية من 14.1% في العام 1997 إلى 5.2% في العام 2021، في حين انخفض في قطاع غزة من 13.7% إلى 2.0% لنفس الفترة.
وهذا الاتجاه في الانخفاض ينطبق على الجنسين، إذ انخفض المعدل بين الذكور من 7.8% في العام 1997 إلى 1.2% في العام 2021، أما بين الإناث فقد انخفض من 20.3% إلى 3.5% لنفس الفترة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون