شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الزنانة.. الطائرة الحرباء في سماء غزة

الزنانة.. الطائرة الحرباء في سماء غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 15 نوفمبر 202203:30 م

الكثير من الضغط على المشاعر، الكثير من ملاحقة الأذن بالضوضاء والمزيد من القلق والتوتر، هذا ما تقوم الزنانة بفرضه على المواطنين في قطاع غزة بشكل يومي. والزنانة هي مصطلح غزّي أطلقه المواطنون على طائرات الاستطلاع بدون طيار الإسرائيلية، والتي يتم التحكم فيها عن بعد، وتحمل معها صواريخ وكاميرات يستخدمها الاحتلال فى المراقبة بشكل مستمر ولفترات طويلة وفي الهجوم أحياناً ولها صوت مزعج وعالٍ ومستمرّ، ما يسبّب الإزعاج والقلق والخوف لسكّان غزّة.

كسر الهدوء

تعلو الزنانات سماء غزة ليل نهار، كاسرة بشكل حتمي حالة الهدوء التي يطمح إليها أي إنسان يعود إلى منزله بعد يوم طويل من الإرهاق والتعب، أو أي مريض يروض آلام جسده بالمسكنات، ويطمح للحظات قليلة ينعم من خلالها بالنوم، أو أي أي طالب يتمنى أن ينال لحظة من صفاء العقل للفهم والتركيز، وبدلاً من أن يستيقظ المرء في غزة على زقزقة العصافير أو أصوات هديل الحمام - وإن تحقق ذلك بالفعل - فإن الزنانة الإسرائيلية تكون شريكاً أساسيّاً لكل أجواء الاسترخاء التي من المفترض أن تكون طبيعيّة في أيّ حياة يوميّة.

الزنانة هي مصطلح غزّي أطلقه المواطنون على طائرات الاستطلاع بدون طيار الإسرائيلية، والتي يتم التحكم فيها عن بعد، وتحمل معها صواريخ وكاميرات يستخدمها الاحتلال فى المراقبة بشكل مستمر ولفترات طويلة 

دوماً، صوت الزنانة أعلى من أي صوت آخر، كونها تتخذ مساراً مستمراً من الزن والصخب، دون انقطاع، يتناساها الفرد قليلاً لكنه لو استعاد تركيزه، فإن الصوت زززززززز، لا يكف ملاحقة الأذنين، وبطريقة مزعجة، حتى يشعر الإنسان هنا بأنه وعاء ممتلئ بالرنين السيئ، وقد تفعلها الزنانة وتقصف أي هدف في أي لحظة ممكنة، هكذا تنتهي حياة المرء في هذه البلاد بلمسة على لوحة كيبورد من عسكري بليد، يجلس في غرفة مكيفة، ويتحكم من بعد بالزنانة التي تشوه يوميات الآخرين.

يقول السيد عماد البرقوني (52 عاماً)، لرصيف 22:"أنت تتحدث عن شيء دمر حياتي، وهدم الحلم الوردي الذي كنت أحياه، فالزنانة لقب يلطّف من وجود هذه الطائرة في سماء غزة، لأنها لا تقتصر على الزن، بل تقتل في أي لحظة، ويمكن أن أسميها الحرّابة، الحرباء، أي لقب يدل على الوحشية والعنصرية والدونية، ويكشف بشاعة هذا الاحتلال".

يكمل السيد عماد، وقد طالت لحيته وامتلأت بالشيب فيما ملأت التجاعيد وجهه وامتدت لأطرف عينيه: "قبل حرب 2014، عشت وعائلتي المكونة من زوجتي وابني وابنتي، حياة هادئة نمضي بالحياة مكافحين من أجل الأفضل، ونجحت إلى حد ما بتوفير حياة هادئة لعائلتي، لكن أتت الحرب، وكانت ابنتي تستعد لامتحانات التوجيهي، التي جاءت الحرب متزامنة معها، واحتاجت لأخذ ملزمة دراسية من زميلة لها، خلال أجواء الحرب. بيتها كان ليس بعيداً، ودون علم مني ذهب ابني أحمد لجلب هذه الملزمة، لكنه خرج وقت نومي، ولم يعد، فكانت هذه الطائرة المشؤومة الحرباء مترصدة لهدف كان بالقرب من خطى ابني، وذهب بفعل ذلك القصف شهيداً مع مجموعة".

يضيف الرجل:"تخبرني زوجتي بأنه جاء ليقبّلني قبل أن يخرج من المنزل، لقد كنت نائماً، قبلني قبلة وداع، وأنا بالفعل قبلته القبلة نفسها، لكن الفارق أنه نومته الأخيرة والطويلة، الممتدة مثلما يمتد ضجيج الزنانة الحرباء".

كثيراً ما ينعم الإنسان بالراحة في حال نسي الذكرى المؤلمة، فقد يغفل الوعي عن جرح الذات، وبالتالي الألم المرافق له، لكن في غزة فالأمر مختلف، إذ يضع الاحتلال أدوات جرائمه معلقة في سماء غزة، دون اكتراث لأي شعور يطال الناس هنا، هذا لأنه لا يأبه بأي عاقبة على أفعاله، وسط تأييد المجتمع الدولي، عوضاً عن الصمت العربي، فالزنانة الحرباء كما وصفها السيد عماد، تبقي على مفعول الحرب، وتسترجع ذكريات الإنسان الغزي مع الحرب، وكأنّ كلّ لحظة هي حرب مستمرة في الأرجاء.

يقول عماد:"مخطئ من يظن أن الحدث السيىء ينتهي، فهو مستمر، ومن سوء حظنا أنا وعائلتي أن حدثنا جاء بشكل مغاير، فمهما حاولنا النسيان، فإننا وبعد ثمانية أعوام، نعيش أمام نار تلسعنا كل يوم، فطائرة الاستطلاع لا تتوقف عن الزن، وتشعرنا بالضيق المستمر، غير أنها تعيد لنا ذاكرة الفقد للابن الغالي".

ويتابع:"أنا أكره هذا الصوت، صوت الزنانة الحرباء، أكره الضغط المستمر الذي يلاحقني بسبب وجودها، أكره الذكرى التي تقحمني هذه الطائرة داخلها كل يوم، ولست أدري لماذا علينا أن نعيش هذه المأساة خلال الحرب وبعدها، أليس من حقنا أن نرتاح من العذاب قليلاً؟ لقد انكسرت يا سيدي لحظة شعرت أنني تمكنت من الحياة."

الزن في الغرفة

أما السيدة أم أحمد، زوجة السيد عماد فتقول لرصيف 22: لقد ربيت ابني لمدة 14 عاماً بخوفي وحبّي وقلقي عليه، وجاءت طائرة الاستطلاع المشؤومة لتنهي حياته في لحظة، لا يمكن أن أصف لكم مدى البؤس الذي أحياه من بعدها، فأنا لا أنسى ابني الشهيد المغدور، وحينما أسمع صوت الزنانة في سماء غزة وهي تقتحم بيوتنا، حتى غرف نومنا، أشعر بالغيظ، وكم تمنيت لو رجمت الزنانة بالحجارة، حتى تنسحب من حياتنا، وتكف عن بث الألم من جديد".

أنا أكره هذا الصوت، صوت الزنانة الحرباء، أكره الضغط المستمر الذي يلاحقني بسبب وجودها، أكره الذكرى التي تقحمني هذه الطائرة داخلها كل يوم، ولست أدري لماذا علينا أن نعيش هذه المأساة خلال الحرب وبعدها، أليس من حقنا أن نرتاح من العذاب قليلاً

وتضيف الزوجة:"لدي جانب آخر من المعاناة، وهو ابنتي. منذ تلك اللحظة، تشعر بعقدة الذنب تجاه فقدان أخيها، معتقدة أنها السبب في كل ما حدث، لقد عانت ابنتي من نوبات صرع متكررة، ودخلت في حالة نفسية سيئة، عطلت على دراستها، وخفضت من تحصيلها العلمي في التوجيهي الذي تقدمت إليه بعد عام من استشهاد أخيها، فإنها حتى الآن تحمل آثاراً نفسية سيئة تجاه الحدث، حتى بعدنا تزوجت فإنها تحيا بحياة مبتور منها الفرح".

وتكمل:"أشعر بأن حياتي تدمرت بفعل هذه الزنانة الغبية، ولا تتوقف لدي مشاعر الحزن والخوف على حياة من أحبهم، وإنه لشعور شديد البشاعة أن تجد من تسبب لك بالعجز والحسرة يستمر في الصراخ في أذنك ليل نهار، حتى أنني صرت أكره الليل، فأجد نفسي وحيدة، كل الأصوات تخمد من حولي، ولا يتبقى سوى صوت الزنانة وعليّ أن أواجهه، حينما يعيد شريط ذكرياتي الموحشة، هذا يحدث كل ليلة، حتى أني بت أشعر بفقدان قيمة الحياة".

متاهة كثيرة التعرجات

وتكمن صعوبة الحياة في الحفاظ على الصحة النفسية للأفراد وسط مجتمع يعيش مشاكل معقدة ومتراكبة، فعلى مدار أجيال مختلفة، يتعرض سكان قطاع غزة، لأقسى الظروف المعيشية، وكأن المرء عليه أن يدخل متاهة معقدة، شديدة الالتواء كثيرة التعرجات، ضف على ذلك، وجود ألغام قد تنفجر بالجسد ومخزونه العاطفي، في أي لحظة.

والصعوبة الأكبر تتجسد في قدرة العائلة الغزية على تصدير أطفال أصحاء للمجتمع، بالرعاية والتوعية، لكن هذا لا يخضع لخطة منتظمة، بفعل التقلبات الأمنية، وبفعل رواسب الحرب في نفوس الأهل والأطفال، بالإضافة إلى وجود الزنانة كذاكرة معلقة في سماء غزة، تبث الخوف والرعب في نفوس الأطفال، وتعاود التلويح لهم بأصوات الانفجارات والحرب.

تقول علياء حميد، 33 عاماً، لرصيف22، وهي أم لطفلة في الثامنة من عمرها: "تشعرني الزنانة دوماً بالأرق، فأعاني من النوم المتقطع طوال الليل، وكلما علا صوتها حين تدنو من منزلي، تزداد الرهبة، فلا تتوقف الأفكار السيئة عن السيطرة على عقلي، كما أنني أشعر بوحشة الحرب خاصة في الصباح الباكر والليل، حيث تكون الحياة هادئة من كل الأصوات ولا يهيمن سوى صوت طائرة الاستطلاع".

مثل غراب

وتكمل السيدة علياء بقلق:"مشواري طويل مع المعاناة، فمنذ حرب 2018، تبقى الزنانة تحوم مثل غراب في سماء غزة، وترصد الأهداف الجديدة، لقصفها لاحقاً، لكن ابنتي لا تفهم غير أن هذه الزنانة كانت في الحرب الماضية، وبقيت في السماء، وهذا يعني لها أن الحرب لم تنته بعد".

وتضيف:"ابنتي تشعر بالخوف الشديد في كل لحظة، وتتأثر بفعل وجود هذه الطائرة الحربية، فكلما ارتفع صوت الزنانة، تأتي إلى حضني راكضة بخوف شديد وهي تصرخ. حدث هذا بعدما تم قصف منزل أحد الجيران بصاروخ استطلاع في حرب 2018، وأدى لاستشهاد طفل كانت تلعب معه كل يوم".

وتضيف السيدة علياء:"إنه لأمر يدعو للحسرة والكآبة أن تجد ابنتك تعاني كل هذه المعاناة ولا تستطيع إنقاذها أو طمأنتها، فالأمر تعدى حدود مشاعرها، ولا تستطيع تقبل أن هذه الزنانة طيلة اليوم من شدة الخوف؛ فالزنانة تتلصص على حياة أهل غزة، وتهددها، وتعيد لهم الذكريات الموجعة".

وتستفيض الأم: "تطورت الأمور إلى حد معاناة ابنتي من حالات مختلفة من القلق الليلي والكوابيس المزعجة، بالإضافة إلى التبول اللاإرادي الذي أصابها، كما خاضت رحلة صعبة من فوبيا الأصوات، حيث أصبحت تهرع خائفة من أي صوت، كإغلاق الباب بقوة، أو صوت منشار المنجرة المجاورة لمنزلنا. كما أصبحت عنيفة جداً في التعامل مع الجميع من حولها، وتصرخ بأعلى صوتها، وتصيبها في بعض الأوقات تشنجات عصبية مقلقة، إنني أشعر بالخوف على حياة ابنتي".

وتكمل: "لقد أخبرتنا الطبيبة النفسية عن ضرورة التركيز على إخراجها من الضغط العصبي المستمر على جسدها، لكن كيف يحدث ذلك؟ كيف أستطيع أن أخرجها من ضغط مستمر يتحقق بفعل تفاهة عقلية العدو، ورغبته في تصدير الضرر والضغط النفسي للأطفال والكهول والمرضى، إنه أمر لا يمكن تداركه في ظل استمرار الزنانة في طريقتها البشعة في التحليق في غزة، وإرسال الصوت الممرض للجميع، حتى أنني بت أفكر في الهجرة عن غزة، والعيش في مكان آخر، يحقق لنا بعضاً من الأمان والاطمئنان على صحة ابنتي التي لا تتحسن حتى بعد الجلسات النفسية، لكن حتى محاولات الهجرة باتت أعقد من الأول، ولا يتم نيل فرصة السفر بسهولة، في ظل الظروف المادية الصعبة التي نحياها في هذا المكان". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image