خضت الفترة المنصرمة صراعاً حقيقياً مع نفسي وعائلتي ومجتمعي، المجتمع الذي لا يعلم عني شيئاً، لكني انتصرت انتصاراً صغيراً قد يراه البعض لا شيء وأراه كبيراً ،حتى وإن تداعياته قد تكون عنيفة مستقبلاً. جاء هذا الانتصار بعد سنوات عديدة استنزفت روحي إلى حد الدخول بموجة اكتئاب كنت سأقتل نفسي إثرها.
أنا من مجتمع قبلي معقد للغاية، ومن أسرة تعيش بفكر وهابي بعدما كانوا تحت تأثير الاشتراكية، التخبّط مع ارتفاع الخطاب السلفي في منطقتنا (وهذا الارتفاع لدواعٍ سياسية صرفة) جعلني أواجه أفكاراً وحشية وسلوكاً عدائياً من عائلتي التي تخشى مطرقة المجتمع وتخشى أن تضيع أمانتها "نحن البنات" عند الله، وكأن الله وضعنا ودائع إلى أجل غير مسمّى، ثم تنتقل هذه الوديعة إلى عنق رجل آخر هو "الزوج". وهكذا يتم التبادل السلمي للوديعة من يد إلى أخرى، شريطة أن تكون اليد التي تمسك الوديعة تملك قضيباً لتستطيع تحمل أمر الأمانة.
على مدار سبعة وعشرين عاماً كان يتم التعامل معي كطفلة، تؤخذ القرارات بالنيابة عنها ولا يحق لها أن تفتي في شيء يخصّها، على الرغم من أن الطفلة داخلي كبرت كثيراً وباتت ترفض هذه الوصاية، ومع كل صوت قادم من داخلي يرفض هذه المعاملة، كنت أسمع تبريرات من نوعية: "كله عشان مصلحتك" أو "أنت بنت" أو "ايش تبين الناس يقولون علينا"، وأشدها تلك التي تقال أولاً بشكل دائم: "حرام".
كل شيء كان حراماً ومضافاً إليه الكثير من حشو عبارات المجتمع الشهيرة والعيب والتقاليد التي تقف جداراً عارضاً في وجه حياتي، وأدركت مبكراً كم هو صعب أن يكون الشخص بدوياً ومتديناً، ثنائي خطير يجتمعان في مجتمعي، ولكم أن تتخيلوا المصاعب التي واجهتني.
لا أنكر أنني كنت أمتلك بعض الميزات من طفولتي، لا تمتلكها الفتيات الأخريات في منطقتي ولا حتى قريباتي. ولكن كنت محرومة من ميزات أخرى يحتاجها الإنسان حتى يستطيع تحمل صعوبة الحياة. ففي الوقت الذي كنت أذهب فيه للجامعة بانتظام، كنت قد أُقصيت من اختيار التخصّص الذي أرغب فيه كونه لا يناسب عادات وتقاليد المنطقة، وفي حين أن بنات منطقتي يحسدنني على ذهابي للجامعة، كنت أحسدهن على ممارسة بعض تفاصيل حياتهن، كالذهاب للسوق وتبادل الزيارات مع صديقاتهن دون تحضير عريضة تشرح أسباب الزيارة كما أفعل أنا، وغالباً ما تكون هذه العريضة غير مقنعة ويتم رفضها.
كأن الله وضعنا ودائع إلى أجل غير مسمّى، ثم تنتقل هذه الوديعة إلى عنق رجل آخر هو "الزوج". وهكذا يتم التبادل السلمي للوديعة من يد إلى أخرى، شريطة أن تكون اليد التي تمسك الوديعة تملك قضيباً
بعد الجامعة، ونظراً لنشاطي في الصحافة التي لم تكن يوماً تخصّصي، عملت لسنوات فيها دون علم أحد، وعلى ضوء ذلك كانت تأتيني الكثير من فرص العمل التي يتم رفضها من قبل العائلة فور حديثي معهم.
في أحد المرات قبل نشاطي الصحفي، كنت قد تسللت للذهاب لمقابلة عمل. تم توظيفي لهذه الوظيفة بعد أيام قليلة من المقابلة، حيث وضعت عائلتي أمام الأمر الواقع، كانت والدتي خائفة علي لأني سأقضي ساعات طويلة خارج المنزل دون أكل تثق فيه ولا شرب، وهذه مخاوف والدتي العاطفية لم تستطيع التخلص منها منذ كنت طفلة، أما مخاوف والدي فهي آتية من منطلق العيب وماذا سيقول الناس.
لم يبارك لي أي منهم حينها، أصرّت والدتي أن أتراجع وأصرّ والدي أنه ليس الأب الذي سيترك ابنته مع زملاء وزميلات لا يعرف منهم أحد لثمانية ساعات يومياً، وماذا إن حضر الشيطان مع أحدهم؟
كان أبي يتلو علي قائمة من الشروط، أبرزها تلك التي قال لي فيها: "تذهبين شريفة وتعودين شريفة".
حينها لم أتوقف أو أستسلم، وكان إصراري هو سيد الموقف، لا مفر من ذلك، لقد توظفت الآن قتلني الجلوس في البيت. وأخيراً وافقا بعد جهد، لم أسمع من والدي إلا جملة ما زالت ترن في أذني وهي: "بينك أنت والموت رصاصة إن جبتي لنا العار"، وبالفعل دخلت هذه الجملة في قلبي كالسهم وجرحتني. حاولت تجاهلها قدر المستطاع ونجحت في عملي، والفرص الرائعة تتوالى علي لكنها تُرفض من قبل عائلتي فوراً، أروعها تلك التي فيها السفر والتنقل من مدينة لأخرى، وحتى الخروج خارج البلد. وسرعان ما أقصتني جائحة كوفيد 19 عن العمل خارج المنزل وعن الشعور بدم الحياة الذي ضخّ في أوردتي لفترة، وعدت لحياتي السابقة.
أصبحت عودتي للحياة السابقة هي الحلم الذي جعل الجميع يأمنون على شرفهم ويبتهجون، لأني أمام أعينهم، لا أتحرّك ولا أخرج من البيت. ليس ذلك بسبب الجائحة فحسب، لكنه أسلوب حياة مستمر إلى اليوم. سرعان ما استسلمت للقوانين التي قيّدتني ومرضت، كرهت نفسي والحياة، وحتى أصوات الصديقات المخلصات اللواتي أتهرب من اتصالاتهن ورسائلهن، وشعرت أني أعيش في عيب كبير علي أن أصحّحه بأسرع ما يمكن، لكنني أفشل دائماً.
مسألة أن أكون شابة لا تعيش في المدينة ولا تملك علاقات كثيفة مع المحيط الذي تتوفر فيه الأعمال، أو ربما بشكل أدق "لم أكن سهلة المنال" للأشخاص الذين يوفرون وظائف عند الابتسام لهم، جعل مأساتي تعيش طويلاً، ووقعت في فخ الاكتئاب. هذه الوقعة مضت معي طويلاً على الرغم من نشاطي في العمل الصحفي، لكنه يظل عملاً منزلياً وحراً، يخضع للمزاج أولاً وأخيراً، وأنا أسيرة حالتي النفسية المتردية.
ذهبت وخضت تجربتي، لم أضاجع رجلاً كما يخشى المجتمع، "كل انفراجه للمرأة ستفتح فيها ساقيها"، ولم أمش مع رجل، وذهبت بشرفي وعدت به، لأني أيضاً أملك لنفسي تقديراً يجعلني أعرف مع من وكيف سأعيش تفاصيل حياتي السرية
كل هذه العوامل الصعبة أثرت على صحتي وشكلي وسلوكي. كنت لا أرى الحب إلا بالكاد، أنام وأصحو وشيء ما يجثم على صدري ويهشمه. فكرت بأسوأ الاحتمالات "أن أقتل نفسي" لكن الحب الذي في قلبي للحياة أبى أن يستسلم مع كل هذا الجنون الذي أعيشه.
في بداية 2022 قلت لنفسي لقد مكثتِ مطولاً حيث أنت، افعلي شيء. عدت لأؤمن بنفسي مجدداً، تحرك الكون معي، نجحت وفشلت مراراً. لم أخرج من حالتي السابقة كثيراً، بل لجأت لطبيب نفسي وصُرفت لي أدوية ساعدتني كثيراً، وهكذا كنت في صراع مستمر مع نفسي وعائلاتي والفرص، مؤخراً حصلت على فرصة كنت أنتظرها لسنوات، لم تأتني بسهولة ولكنها جاءت لأني أستحق. حين أخبرت أفراد عائلتي بها رفضوا رفضاً قاطعاً، لم تدعمني إلا أختي التي لا صوت لها في البيت، ولكن صوتها داخلي كان قوياً.
في سبيل إقناع عائلتي دفعت كثيراً من الأموال من أجل المنزل، كنت ودودة أكثر وخدومة، لكن ذلك لا يراه أحد منهم عند التفاوض، لأني ببساطة إن سُمح لي بخوض هذه التجربة سيشعرون وكأني اشتريتهم، وذلك مستحيل أن يحدث.
كان الأمر محبطاً. كنت كمن ينحت في الفراغ، لا نتيجة ظاهرة ولا أمل في أن يستجيبوا. بدعم أختي استطعت بعد ذلك فتح باب الحوار مع والدي لأسابيع طويلة. كان عذر رفضه: ماذا سيقول الناس، وحرام أن تسافري لمفردك! كم هذا جنوني أن أنتظر رجلاً حتى أعيش ما أريد.
بدعم أختي استطعت بعد ذلك فتح باب الحوار مع والدي لأسابيع طويلة. كان عذر رفضه: ماذا سيقول الناس، وحرام أن تسافري لمفردك! كم هذا جنوني أن أنتظر رجلاً حتى أعيش ما أريد
ذات مساء، وقبل رحلتي بأربع ليالي، أصريت أن آخذ موافقته أو رفضه، لم يعد لدي وقت، كنت مؤمنة بقوة أنه سيستجيب لأني أريد هذه المرة، وبالفعل استجاب! يا إلهي هل حدث شيء الآن للقبيلة وللكوكب؟ لا بالطبع لم يحدث ولكن هذه الاستجابة كانت مُرّة وصعبة رغم إنها أتت وبشروط جارحة، في حين أني أنتظر موافقة عائلتي ووالدي تحديداً، كان يتلو علي قائمة من الشروط، أبرزها تلك التي قال لي فيها: "تذهبين شريفة وتعودين شريفة"، ثم سرد طويل لنظرة المجتمع للفتاة التي تخدش نفسها بتصرفات طائشة، ثم طلب مني المعاهدة أن لا أخوض في عواطفي مع أي رجل، ببساطه لأن الحب يأتي بعد الزواج، ولأني في موقف المحتاج عاهدته من خلف قلبي، لأن إيماني بالحب يفوق كل ترهات المجتمع، والشرط الأخير ألا أنشر ولا أخبر أقاربي وأهل المنطقة، وهي رغبتي قبله.
ذهبت وخضت تجربتي، لم أضاجع رجلاً كما يخشى المجتمع الذي بنى هذه الفكرة في رؤوس أفراده، "كل انفراجه للمرأة ستفتح فيها ساقيها"، ولم أمش مع رجل، وذهبت بشرفي وعدت به، ليس لأن من حقي أعيش مثل هذا وأكثر وامتنعت عنه بسبب وصايتهم، ولكن لأني أيضاً أملك لنفسي تقديراً يجعلني أعرف مع من وكيف سأعيش تفاصيل حياتي السرية.
مضى الوقت سريعاً، كانت تجربة فريدة من نوعها، انتزعتها بقوة. بالمقابل أسأل نفسي: هل عائلتي أيضاً ضحية مثلي تماماً؟
حين عدت شعرت بأحضانهم المليئة بالشوق والخوف والحب تتدفق نحوي، وهذا ما جعلني أتساءل بحزن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون