لا أحد ينكر ما تحقق للمرأة التونسية، على مدى السنوات السبعين الأخيرة، بسبب قدرتها على اقتحام كافة نواحي الحياة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، حتى باتت رقماً صعباً يستحيل تجاهله. وإن كانت قد عانت كثيراً من محاولات الردة، خصوصاً بعد صعود حركات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتمكنها من مسك زمام التشريع، فإنها بقوة حضورها في الشارع أسقطت كل مشاريع العودة بها إلى مربع الاستغلال والتبعية، وكرّست حقوقها في دستور 2014، بعد إسقاط نسخة 2013 التي كان للإسلام السياسي، ممثلاً في حركة النهضة، الدور الأبرز في محاولة جعلها مجرد عنصر "مكمل للرجل".
المرأة الأداة
وبهذه اليقظة فرضت المرأة التونسية حضورها بقوة في الثقافة بكل فروعها، كاتبةً وممثلةً ومغنيةً وراقصةً ورسامةً ونحاتةً وشاعرةً وناقدةً ومخرجةً، وفرضت نفسها وزيرةً ورئيسة حزب وسيدة أعمال، لتتحول بذلك من مجرد ديكور كان النظام يستخدمه لخدمة البروباغاندا السياسية وليظهر صورةً حداثيةً زائفةً عنه، فقد كان الرئيس السابق، بن علي، يضع النساء في الواجهة كي يزيّن بهنّ صورة النظام ويلمّع صورة الحزب الحاكم، ويبعث برسائل الطمأنة إلى الغرب ويحصد علامات الإعجاب المزيفة، والحال أن المرأة بالنسبة إليه هي المرأة التجمعية فحسب، أي المرأة الخاضعة التابعة، أما اللواتي اخترن نهج الاختلاف، واستقللن بقرارهن السياسي والأيديولوجي، فقد كنّ عدوّاته اللّدودات، حاربهنّ حرباً شرسةً، فخصص لهن صفحات الجرائد لتشويههن، وإخراجهن في صورة المرتزقات على أبواب السفارات الأجنبية و"العاهرات" و"المارقات" و"عدوات الوطن" اللواتي ينبغي إسكاتهن وقمعهن بكل السبل، وضيّق الخناق على المنظمات الحقوقية التي يدرنها كما فعل مع جمعية "النساء الديمقراطيات" ورموزها، وغيرها من الجمعيات الناشطة في مجال حقوق الإنسان المطالبة بالحرية والديمقراطية، وخاصةً تلك التي تنادي بحقوق النساء وعلى رأسها المساواة التامة والفعلية بين المرأة والرجل.
وإن كانت قد عانت المرأة التونسية كثيراً من محاولات الردة، خصوصاً بعد صعود حركات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتمكنها من مسك زمام التشريع، فإنها بقوة حضورها في الشارع أسقطت كل مشاريع العودة بها إلى مربع الاستغلال والتبعية
ولم تكن المرأةُ الأداةُ حكراً على النظام فقط، بل إن حركة النهضة المعارضة كانت تطبّق ذلك حرفياً، فلم تكن غاية زعيمها راشد الغنوشي، تكريم المرأة بوصفها كائناً له حقوق مشروعة سلبتها الأنظمة المتعاقبة، بل إنّ غايته الأبرز هي أن يبرز جيلاً من النساء بديلاً من صورة المرأة الحداثية كما أرادها بورقيبة، وذلك خدمةً لحزبه، وتالياً فإن المرأة لم تكن غايةً في ذاتها بل إنها كانت مجرد أداة لضرب الخصم الحاكم. ولم يكن يتحدث عن المرأة بل عن "الأخت"، أي المنتمية إلى الحركة. يقول في كتابه "المرأة بين القرآن وواقع المسلمين": تحتاج الحركة الإسلاميّة في الميدان السياسي والثقافي والاجتماعي (النقابي)، إلى إبراز زعامات نسائية يخضن معترك الميدان السياسي والاجتماعي والثقافي (...)، خاصةً أنّ الوجوه النسائية التي أبرزها النظام البورقيبي (...)، لا عمل لبعضهنّ وحتى للكثير لا داخل البيت ولا خارجه إلا التشدّق بالشعارات" (ص. 77).
امرأة المستحيل
ولكن بعيداً عن هذه الصورة النمطية للمرأة الوسيلة/ الأداة، هناك نساء اخترن الطريق الأصعب، ففرضن أنفسهن بنضالاتهن الحقوقية والسياسية، وصرن علامات بارزةً ونماذج للتحرر الذاتي فوصلن إلى أعلى المراتب السياسية في أحزابهن وانتقلن ليصبحن زعيمات حقيقيات، وسأذكر تمثيلاً الراحلة مية الجريبي، التي كانت أمينةً عامةً لحزبها الحزب الديمقراطي التقدمي حينها.
والمقارنة بين الصورتين تؤكد أن ما يبقى حقاً ويخلد هي الصورة الثانية التي سأسمّيها "امرأة المستحيل"، أي المرأة التي تنحت طريق تحررها بنفسها، وتتحدّى كل العراقيل مهما صعبت، فتقتلع حقوقها اقتلاعاً، ولا ترضى بأن تقدَّم إليها العطايا في أطباق من ذهب، لإيمانها الذاتي بأنها قادرة على تحصيلها بوعيها العميق ومثابرتها، وذكائها وخبراتها التي راكمتها.
وها هي المرأة التونسية اليوم تحصد الاعتراف تلو الاعتراف في مجتمع ذكوري محافظ تسيطر عليه ذهنية قروسطية متخلفة، وإن كانت أهون حالاً من كثير من الدول العربية
وها هي المرأة التونسية اليوم تحصد الاعتراف تلو الاعتراف في مجتمع ذكوري محافظ تسيطر عليه ذهنية قروسطية متخلفة، وإن كانت أهون حالاً من كثير من الدول العربية. وما نشر اثنين وعشرين طابعاً بريدياً هذه الأيام بصور نساء تونسيات رائدات في مجالات مختلفة، سوى اعتراف رمزي بمكانة حصّلنها ولم تُهْدَ إليهن. فقد اختار البريد التونسي اثنين وعشرين اسماً من حقول متعددة كالفلاحة ومكافحة الإرهاب والثقافة والرياضة والفلسفة والفنون وغيرها، لتكون المرأة رمزاً في كلّ مجال. وهو احتفاء رمزي بهن واعتراف بنضالهن وثباتهن على درب حقوقهن.
إن نشر اثنين وعشرين طابعاً بريدياً هذه الأيام بصور نساء تونسيات رائدات في مجالات مختلفة، ما هو سوى اعتراف رمزي بمكانة حصّلنها ولم تُهْدَ إليهن.
احتفاء واعتراف
وفي الواقع إن الصور التي تم اختيارها جديرة حقاً بكل تكريم واعتراف في مختلف الحقول التي تركت فيها المرأة التونسية بصمات لن يمحوها التاريخ، ولكن من الصور التي وجدت احتفاء كبيراً صورة الفلّاحة التي التقطها المصور محمد كريت، ذات يوم لإحدى الأمهات وعلى رأسها "فولارة تونسية" وعلى كتفها زوّادة، وهي تدير ظهرها للكاميرا، فلا يظهر وجهها. والصورة عميقة الدلالات، ذلك أن هذه المرأة وإن كانت معروفةً، فإن ملتقطها لم يكشف وجهها بل ركّز بدلاً من ذلك على إظهار لباسها التونسي الذي يشبه لباس التونسيات الفلّاحات اللواتي ترضع البلاد كلها من أثداء عرقهن، وأظهرها في صورة الذاهبة إلى العمل من ناحية، وكانت بانعطافها ورفضها كشف وجهها للكاميرا أشبه ما تكون بحنظلة ناجي العلي. إنها المرأة الأكثر إرهاقاً وتعباً وعرقاً، ولكنها في الوقت ذاته المرأة الغاضبة لأنها لا تجد حقوقها، وكثيراً ما سالت دماؤها في الطرقات في حوادث سيارات النقل العشوائي للفلّاحات إلى الحقول، والتي ذهب ضحيتها العشرات في أحداث أليمة موجعة لم ينسها التونسيون والتونسيات. إنها الفلّاحة التي تربّي الأطفال وتعيلهم وتنفق على تعليمهم وتحرص على ألّا يجوعوا وألا يعروا. تقضي في الحقول أكثر من ثماني ساعات في أعمال فلاحية توكل في العادة إلى الرجال، ولكنها تتحملها بصبر وقوة وتحدٍّ من أجل أجر لا يتجاوز ثلاثة دولارات.
إن المرأة التونسية في نظري ليست امرأة الهدايا والعطايا السخية كي تزيّن المشهد، وهي حيلة اعتمدتها الأنظمة المتعاقبة للإلهاء عن القضايا الحقيقية، والاستقطاب السياسي والتوظيف الحزبي
وأما الصورة الثانية، فهي بورتريه رسمته الرسامة التونسية أمينة بالطيب، لخنساء تونس كما لقبها التونسيون والتونسيات بعد أن فقدت ولديها في عمليتين إرهابيتين بأبشع ما يمكن أن ترى. إذ اختطف الإرهابيون ولدها الأول الذي كان يرعى الغنم بالقرب من الجبل، وذبحوه ونشروا مقطعاً مصوراً للعملية، فتم العثور على رأسه في مكان، وعلى بقية جثته بعد أيام في الجبل بعد بحث طويل. وبعدها بفترة عاشت فقدان ولدها الثاني بالطريقة نفسها تقريباً. ولا أحد يمكنه وصف حزنها أو تصويره بالكلمات سوى تلك الرسمة الفنية التي تظهر صورة امرأة تونسية غلبتها التجاعيد، وهيمن الحزن عليها، ولكن ذلك لم يطفئ نظرة الأمل والتحدي والصبر في عينيها.
وعلى أهمية هذه الحركة الرمزية، فإن ذلك يبقى غير كافٍ لأن مسيرة المرأة التونسية ونضالاتها قبل الاستقلال وبعده جديرة بأكثر من مجرد الاعتراف بهن في صور، وهن يعانين مرارات وخيبات في الواقع ويتعرضن لأبشع ألوان الظلم، ظلم آتٍ من الجهات الأربع: من الذهنية الذكورية وذهنية الحريم والتحريم، ومن الاستغلال بكل أشكاله في شتى المجالات اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً...
المواطنة مطلباً نسوياً
إن المرأة التونسية في نظري ليست امرأة الهدايا والعطايا السخية كي تزيّن المشهد، وهي حيلة اعتمدتها الأنظمة المتعاقبة للإلهاء عن القضايا الحقيقية، والاستقطاب السياسي والتوظيف الحزبي، وهي حيل لم تعد تنطلي على المرأة التونسية الواعية، بل هي المرأة التي تنفق من وقتها وجسدها وصحتها وتعبها الجسدي والذهني، وتضحّي بكل ما تملك من أجل أن تكون. إنها امرأة تقتطع ذاتها من لحمها، وتنحت كينونتها من عرقها، وتكتب بفكرها ودمها تاريخها ومستقبل الأجيال القادمة.
بالرغم مما حققته إلى الآن، فإن المحافظة على مكتسباتها منذ مجلة الأحوال الشخصية، بل منذ العبقري العظيم الطاهر الحداد الذي سبق عصره بمئة عام حسب عبارة تنسَب إلى طه حسين عنه، فإن ذلك لم يعد هدفاً يجب أن تناضل من أجله المرأة التونسية أو ترضى به
وبالرغم مما حققته إلى الآن، فإن المحافظة على مكتسباتها منذ مجلة الأحوال الشخصية، بل منذ العبقري العظيم الطاهر الحداد الذي سبق عصره بمئة عام حسب عبارة تنسَب إلى طه حسين عنه، فإن ذلك لم يعد هدفاً يجب أن تناضل من أجله المرأة التونسية أو ترضى به، بل إن الغاية الأهم هي تحقيق المساواة التامة والفعلية مع الرجل وعدّهما مواطنين تامّي المواطنة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. ولن يتحقق ذلك بالثقة في أي سياسي كائناً من كان، لأنه حال تربعه على عرش السلطة يتحول إلى محافظ، بل إلى رجعي يلهث وراء إرضاء "الجماهير العريضة" المتخلفة عن واقعها بالضرورة، متكئاً على دساتير وقوانين وعادات وتقاليد وثقافة ودين لا تعترف جميعها إلا بصيغة المذكر.
ولن يكون تحقيق ذلك سهلاً في مجتمع الرجم والجلد والضرب والسحل والتنمر، بل إنها مسيرة شاقة تقتضي أولاً أن تكون المرأة أكثر إيماناً بذاتها وكيانها، كي يسهل في ما بعد إقناع الآخرين بجدارتها بما تريد. وعليه فإنّ الطريق ما زالت بعيدةً بالرغم من الأكاذيب التي تروّجها السلطة في مناسبات عدة، ومنها عيد المرأة في الثالث عشر من آب/ أغسطس من كل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون