شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"القاهرة هتبلعك"... كيف تحمي أمهات استقلالية بناتهن من "الوحش"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الاثنين 12 ديسمبر 202203:02 م

بدأت هذه الرحلة البحثية بتأمل المقولة الشعبية "زي القطط بتاكل عيالها"، والتي تعبّر عن ممارسة أمهات القطط لقتل صغارها في حالة إحساسها بالخوف عليها، من خطر ما أو أن يمثّل أحدهم خطراً عليها أو على إخوتها كأن يمرض بمرض معدٍ، محاولةً فهم ما تمارسه أمهات الصديقات المستقلات عن أسرهن، من عنف مادي ومعنوي كأساليب رافضة للاستقلال.

يُعدّ الاستقلال لنساء كثيرات السبيل الأوحد لتحقيق أحلامهن وطموحاتهن والحفاظ على مساحاتهن الشخصية وممارسة أهليتهن، فالقاهرة المدينة الشاسعة المزدحمة أصبحت مهولةً بالشكل الذي يستحيل معه الانتقال بين أحيائها المترامية بسهولة، وهذا يضطر بعض العاملين والعاملات إلى السكن في شوارع مجاورة لمؤسسات العمل حتى لا يكون البديل ضياع أربع أو خمس ساعات يومياً في المواصلات بين المنزل والعمل، كما تتسم القاهرة أيضاً بمركزيتها الواضحة فهي تقبض على مجالات عمل بعينها بامتلاكها مؤسسات ضخمةً ليست لها فروع في محافظات أخرى، ومنها المؤسسات الإعلامية والمسارح ودور السينما والشركات التجارية الكبرى والمؤسسات السياسية وبعض المؤسسات الطبية وغيرها، مما يلزم الراغبين والراغبات في الانضمام إلى هذه القطاعات بالسفر من محافظاتهم والإقامة في القاهرة. وإلى جانب العمل يظهر الاستقلال باعتباره حلاً للتخلص من سطوة الأسرة حين يصعب على الأفراد الاندماج مع سياقاتها الاجتماعية وبنيتها الأخلاقية، وحتى من هم على وفاق مع أسرهم يحتاجون إلى الاستقلال كخطوة نحو اكتشاف ذواتهم وقدراتهم والمضي نحو تجاربهم الشخصية.

إجمالاً، تتقبل الأسر المصرية استقلال الأبناء بشكل أيسر من استقلال البنات، ولما كان ذلك مرهوناً بإحكام الذكورية لقيم المجتمع المصري، يتبادر إلينا السؤال: كيف تستوعب الأمهات هذه القيم ويتحدّينها أو ينغمسن فيها؟ لذا كانت الأمهات موضوع الدراسة لمحاولة فهم اعتماد الذكورية في عمليات إعادة إنتاجها، على النساء اللواتي في الأغلب عانين منها سواء كن ناجيات أو لا زلن يحيين تحت براثنها.

إجمالاً، تتقبل الأسر المصرية استقلال الأبناء بشكل أيسر من استقلال البنات، ولما كان ذلك مرهوناً بإحكام الذكورية لقيم المجتمع المصري، يتبادر إلينا السؤال: كيف تستوعب الأمهات هذه القيم ويتحدّينها أو ينغمسن فيها؟

هذه الدراسة كانت مشروعاً تطبيقياً لما نلته من معرفة خلال التحاقي بأكاديمية المجلس العربي للعلوم الاجتماعية المقامة في تموز/ يوليو 2021، وانطلقت تحت عنوان "من النساء إلى النساء... إعادة إنتاج العنف"، مستهدفةً الإجابة عن السؤال حول ماهية رؤى واتجاهات الأمهات نحو استقلال بناتهن عن الأسرة، ومحاولةً من موقعي كباحثة وكمستقلة، فهم مشاعر الأمهات ودوافعهن نحو قبول أو دعم أو رفض قرارات بناتهن المستقلات، وعلاقة التقاطعات الجغرافية والاجتماعية والدينية على ردود فعل الأمهات، فضلاً عن تحليل العنف كممارسة سلطوية في سياق مهتم بسماع صوت بعض الأمهات المرتكبات عنفاً لردع البنات باعتبارهن أفراد مجتمع ذكوري البنية يعاقب كل المخالفين لمبادئه.

بدأت الدراسة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وانتهت في آذار/ مارس 2022، واعتمدت في منهجيتها على عقد مقابلات معمقة مباشرةً وعبر الإنترنت مع 15 أمّاً لديهن فتيات خضن تجربة الاستقلال، تراوحت أعمار الأمهات بين 45 و60 عاماً، وهن منتميات إلى الطبقة الوسطى ويمارسن العمل الربحي سواء من المنزل أو في مؤسسات عامة أو خاصة، وأيضاً تمت مراعاة التوزيع الجغرافي إذ كانت العيّنة متعمدةً التنوع ووزعت كالتالي: 5 من صعيد مصر، واحدة نوبية من أسوان، و4 من محافظات الدلتا و2 من سيناء و1 من كل من القاهرة والجيزة فضلاً عن واحدة تعيش خارج مصر.

انطلقت هذه الدراسة تحت عنوان "من النساء إلى النساء... إعادة إنتاج العنف"، مستهدفةً الإجابة عن السؤال حول ماهية رؤى واتجاهات الأمهات نحو استقلال بناتهن عن الأسرة، ومحاولةً من موقعي كباحثة فهم مشاعر الأمهات ودوافعهن نحو قبول أو دعم أو رفض قرارات بناتهن المستقلات

حول مصطلح الاستقلال

استغرق مصطلح الاستقلال سنوات لبلورته، فهو على مستوى اللغة حديث نسبياً، بالرغم من قدم وجود الدلالة، فتاريخياً قامت نساء كثيرات بالانفصال عن الأسرة سواء داخل مصر أو خارجها، ولكن لم يطلقن على أنفسهن لفظة مستقلات، هذا ما أكدته الأمهات المشاركات في البحث. فإما قمن بأنفسهن لسنوات بالانفصال أو على الأقل سمعن أو شاركن تجارب لصديقاتهن. كانت أيضاً شوارع معيّنة في القاهرة مليئة بإعلانات عن سكن "للمغتربات" وكان هذا الإعلان يتضمن فرقاً واضحاً عن "سكن للطالبات"، فاستخدام كلمة مغتربات يعنى أن مالك المنزل يرحب بالنساء اللواتي يسكنّ القاهرة لأسباب غير مرتبطة بالتعليم فقط، كالعمل مثلاً.

لا يمكننا دراسة المصطلح بعيداً عن دلالاته المتشابكة التي تعني أحياناً انفصال النساء بغرض الالتحاق بالتعليم أو العمل في مؤسسة خارج المحافظة، ولكن في ظل الاعتماد الاقتصادي الكلي أو الجزئي على الأسرة، أو على العكس أن تكون المرأة مستقلةً اقتصادياً عن الأسرة، ولكنها لا زالت تعيش داخل منزلها، كما كان امتلاك القرار تشابكاً جديداً مع المصطلح، فبينما كان الاستقلال يحوي دلالات عن الانفصال الاقتصادي والانفصال المكاني، أي العيش خارج منزل الأسرة، كانت هناك نساء تمكنّ من إحداث الدلالتين ولكن لا زالت قراراتهن بيد الأسرة.

لا يمكننا دراسة مصطلح "الاستقلال" بعيداً عن دلالاته المتشابكة التي تعني أحياناً انفصال النساء بغرض الالتحاق بالتعليم أو العمل في مؤسسة خارج المحافظة.

في عام 2016، تكونت مجموعة مغلقة تديرها شابات نسويات على فيسبوك، تحت اسم "Femi Hub"، وإلى جانب دورها في دعم النساء المستقلات في القاهرة والإسكندرية حيث كانت مثالاً للتضامن النسائي بين أفرادها بتداول النصائح الحياتية والعملية، هي أيضاً ساهمت في بلوّرت المصطلح وشجعت على استخدامه في العالمين الواقعي والافتراضي، ووهبته اتساعاً يشمل الاستقلال بكافة دلالاته، مما يظهر في الاقتباس التالي من تعريف المجموعة: "هو غروب لدعم المستقلات والساعيات إلى الاستقلال في محاولة لتوفير مجتمع داعم وآمن للفتيات المستقلات في إطار ما يتعرضن له بشكل يومي سواء في العمل أو المنزل أو الشارع".

مالت غدير أحمد، في دراستها الصادرة عام 2019، بعنوان " المستقلات: تنقل النساء ما بعد 2011"، إلى التركيز على المستقلات المنفصلات مكانياً عن عائلاتهن، وتحليل المخاطر التي يواجهنها مع الأسرة والحي والجماعة والدولة والمجتمع.

من بين الأطروحات المختلفة السابق ذكرها، اختارت الباحثة أن تعرّف الاستقلال إجرائياً على أنه " قرار تتخذه النساء بالانفصال المادي والمكاني عن منزل الأسرة، أملاً بتحقيق السيطرة على القرارات الشخصية والحفاظ على الخصوصية".

النتائج... الخوف واحد وذو أصوات متعددة

أكدت كل المشاركات معي في الدراسة، على أن الخوف على بناتهن هو شعورهن المركزي والمزمن تجاه استقلال بناتهن، ومنهن من تعاملن معه بالتجاهل، أو الإنكار أو الكبت أو فهمه ومشاركته مع البنات، ومنهن (وهن الأغلبية)، دفعهن الخوف إلى ممارسة عنف رمزي تجاه بناتهن تعددت أشكاله كالخصام أو التهديد والمشادات الكلامية أو حتى الزيارة المفاجئة لمنزل الابنة من أجل الاطمئنان عليها أو مراقبتها. على الناحية الأخرى، مارست بعضهن عنفاً مادياً تجاه البنات كالضرب والحبس ومنع التنقل أو التواصل مع الآخرين.

شكّلت الجغرافيا معياراً في تشكّل الشعور بالخوف، فقد كان بُعد المحافظة التي تسكنها الأم عن القاهرة التي تحركت إليها البنت عاملاً مؤثراً في تقدير المخاوف، وعبّرت الأمهات ساكنات أسوان وسانت كاترين، عن القلق من المسافة قائلات: "لو حصلتلها مصيبة وعايزة ألحقها أقعد مستحملة سفر 10 ساعات"، أما الأمهات من محافظات أقرب إلى القاهرة، مثل الفيوم وبنها والإسكندرية، فعبّرن عن خوف أقل، بينما رفضت الأم التي من القاهرة استقلال ابنتها في مسكن آخر في المحافظة نفسها، لأنها لم تجد مبرراً لذلك سوى رغبة ابنتها في ممارسة "الانحرافات الأخلاقية" من دون رقابة.

أكدت كل المشاركات معي في الدراسة، على أن الخوف على بناتهن هو شعورهن المركزي والمزمن تجاه استقلال بناتهن، ومنهن من تعاملن معه بالتجاهل، أو الإنكار أو الكبت أو فهمه ومشاركته مع البنات، والأغلبية، دفعهن الخوف إلى ممارسة عنف رمزي تجاه بناتهن 

كان التعليم، سواء الجامعي أو استكمال الدراسات العليا، هو المبرر الأكثر قبولاً لاستقبال الأمهات قرارات بناتهن بالاستقلال والنزوح إلى القاهرة. بعده يظهر العمل كمبرر، لكن في الخلفية عبّرت معظم الأمهات عن أنهن في انتظار زواج بناتهن باعتباره الحدث الذي سيوفر لهن الأمان، وينزع عنهن مسؤولياتهن الرعائية التي يشعرن بوجودها حتى بعد استقلال بناتهن اجتماعياً واقتصادياً.

تزويج البنات هو الشغل الشاغل لمعظم الأمهات المشاركات، ولأنهن يمتلكن صورةً نمطيةً للبنت "الصالحة" للزواج، تعاملت بعض الأمهات مع الاستقلال على أنه طريقة تمكّن بها ابنتها من التعرف إلى رجال "عرسان محتملين"، يتقبلون "عيوب" ابنتها، وبهذا كانت السمات الشكلية كأن تكون الابنة ممتلئةً أو تعانى من السمنة أو جمالها ليس متوافقاً مع النماذج الجمالية المتعارفة مجتمعياً، عوامل مؤثرةً في تسامح الأمهات مع استقلال بناتهن، كما أن بعضهن رأين أن تمرّد البنات وإيمانهن بأفكار تحررية عيب أو على الأقل اختلاف جوهري يصعّب مهمة الوصول إلى شريك حياة من القرية أو المحافظة بينما ستكون الفرصة أكبر في القاهرة.

السنّ أيضاً عامل مهم في تقبل قرار الاستقلال، وكانت أهميته على صعيدي الابنة والأم، فكلما كبر سن الابنة، كلما كان النزاع على الاستقلال مع الأم أخفّ، وأحياناً كان السبب نفسه مرتبطاً بأن الاستقلال فرصة لإيجاد شريك حياة أو يتأتى من الثقة بالابنة، وفي كل الحالات كانت الأمهات الأكبر سناً أكثر قبولاً للاستقلال من الأصغر.

وجود حالة ناجحة لامرأة مستقلة في المنزل أو العائلة أو حتى في محيط الجماعة، سهّل على كثيرات من الأمهات قبول قرار استقلال البنات لأسباب مرتبطة بإمكانية استخدام المثل كمبرر أمام المجتمع الذي يلوم الأم لقبولها استقلال ابنتها.

أيضاً وجود أخ أو أسرة لها صلة قرابة بالأم، يجعل اتجاهها إيجابياً نحو الاستقلال، إذ عبّرت المشاركات عن مشاعر مختلطة نحو ذلك، فبينما كان وجود أخ مرافق للبنت أو أسرة ترجع لها في حالة حدوث خطر، بدوره يقلل من حدة الخوف لدى الأم، كان وجودهم، حتى لو في مكان بعيد، يضمن للأم إجابةً مستحضرةً لأسئلة المجتمع المحيط بها والرافض للاستقلال.

تزويج البنات هو الشغل الشاغل لمعظم الأمهات المشاركات، ولأنهن يمتلكن صورةً نمطيةً للبنت "الصالحة" للزواج، تعاملت بعض الأمهات مع الاستقلال على أنه طريقة تمكّن بها ابنتها من التعرف إلى رجال "عرسان محتملين"، يتقبلون "عيوب" ابنتها

على عكس المتوقع، كانت الأمهات المعيلات اللواتي فقدن الزوج بالموت أو الانفصال أو السفر، الأكثر رفضاً لقرارات استقلال بناتهن، بينما كانت الأمهات اللواتي لا زلن متزوجات الأكثر دعماً لقرارات استقلال بناتهن، إذ عبرّت الأمهات من المجموعة الأولى بأن وظيفتهم أصبحت مزدوجةً: "أنا أب وأم"، مما يشعرهن بضغط نفسي واجتماعي يلزمهن بنجاحهن في مهمة تربية وتقويم بناتهن، أما المجموعة الثانية من الأمهات فلا زالت تثق بأن الأب سيتحمّل معها مسؤولية القرار وعواقبه النفسية والاجتماعية.

لاحظت في أثناء عقدى للمقابلات مع الأمهات المشتركات باختلاف خلفياتهن الثقافية، امتلاكهن مشاعر وأفكاراً مرتبكةً يمكن أن تصل إلى حد التناقض أحياناً، فبينما كان الحب والخوف مركزي الشعور في علاقة الأم بابنتها، إلا أن الثقة كانت تجد صعوبةً في التواجد في تلك المساحة، وكأن بعض الأمهات رافضات لإرساء تلك الثقة لأنها تتطلب منهم قوةً نفسيةً ونقداً حقيقياً للأمومة كسلطة، كما تستدعى نضالاً جاهزاً للدفاع أمام المجتمع المستنفر لقرارات النساء بالاستقلال.

وأخيراً، تفسر النتائج السابقة الذكورية التي تمارسها النساء (الأمهات) على النساء (البنات)، وتكشف لنا أن الذكورية ليست مجموعة امتيازات للرجال في مقابلها يمارس الاضطهاد على النساء، فقط علينا إدراكها بالخروج من الثنائية المغلقة رجل وامرأة، محلّقين بالنظر إلى البنى الاجتماعية وعلاقات القوى التي تتحكم في تحدي الأدوار وتولية الأفراد سلطة مراقبتها وحسابهم عليها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard