"لا أريد أن أكون تابعاً لأي طائفة، أو حزب، أو مؤسسة دينية"، و"أؤمن بحكم مبني على نشر ثقافة العدالة الاجتماعية"، و"كامرأة أطالب بقانون موحّد يحمي حقوق المرأة وحرّياتها عوضاً عن قوانين الأحوال الشخصية"؛ الاقتباسات الثلاثة السابقة هي لمجموعة من الشابات والشبان قالوها خلال جولة من المقابلات قامت بها معدة التقرير في مناطق مختلفة في لبنان، وتحديداً في خلدة ومناطق متفرقة في البقاع والأشرفية والضاحية الجنوبية وأحياء في العاصمة بيروت، رداً على سؤال حول مدى موافقتهم للدولة اللبنانية أو معارضتهم لها.
وإلى جانب الإجابات المؤيدة لفكرة الدولة المدنية، كان هناك عدد من التعليقات المناهضة لها، إذ ورد في إحدى الإجابات أن "الشيخ في الجامع قال إن الدولة المدنية تناقض ديننا وهويتنا وتقاليدنا"، بينما علّق آخر بأن "الدول المدنية لا تشبه أفكارنا، فهي تابعة للفكر الغربي".
الدروز الأعلى تأييداً للمدنية.. والسُنّة الأدنى
كجزء من مشروع "البرلمان الشبابي النموذجي"، سأل مركز رشاد للحوكمة الثقافية التابع لمؤسسة "أديان"، عن القانون المدني الاختياري لقوانين الأحوال الشخصية. ووفقاً لنتائج المسح الذي أجري في النصف الأول من شهر حزيران/ يونيو في العام الماضي، وشمل 1،800 ناخب وناخبة تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً، 52.9% منهم ذكور، و47.1% إناث، حظي اعتماد قانون مدني اختياري في لبنان على موافقة كبيرة من قبل الدروز بنسبة 81.2%، وأيّد المسيحيون الأرثوذكس القانون بنسبة 73.7%، وبلغت نسبة التأييد عند الموارنة 76.3%. وانخفض التأييد بين المشاركين في المسح من الطوائف الأخرى، وبلغت نسبة الشيعة المؤيدين للقانون 55%، وأدنى مستوى بين المشاركين هم السُنّة، بنسبة 34.9% يؤيدون القانون.
حظي اعتماد قانون مدني اختياري في لبنان على موافقة كبيرة من قبل الدروز بنسبة 81.2%
وترى جمعيات عدة في المجتمع المدني، ومنها جمعية كفى عنفاً واستغلالاً، أن "الدولة المدنية أولوية لأنها لا تنتهك حقوق المواطنين كالقوانين الطائفية"، بحسب المحامية في الجمعية فاطمة الحاج. في المقابل، يوحي بعض الزعماء وأفراد الطبقة السياسية في لبنان بأنهم من أبرز المنادين بالدولة المدنية، إلا أن هناك قضايا خلافيةً عديدةً حول مفهوم الدولة المدنية وعلاقتها بالحريات الدينية.
ومن أبرز المفاهيم التي تقف سدّاً منيعاً ضد تبنّي الدولة المدنية من قبل البعض، وخصوصاً المؤسسات أو الهيئات الدينية، عدّها نقيضاً للأديان، وأنها تحذو حذو البلاد الغربية التي تتعارض مع معتقدات وأفكار وتقاليد وعادات مجتمعات الشرق الأوسط، وقد يذهب البعض إلى تكفير من ينادون بالدولة المدنية، أو اتهامهم بأنهم يحاولون طمس الهوية العربية.
الفرق بين المدنية والعلمانية
ما هي الدولة المدنية؟ وما هو الفرق بينها وبين العلمانية؟ تقول الكاتبة والباحثة الحاصلة على دكتوراه في الألسنية عايدة الجوهري، إن "مصطلح الدولة المدنية الذي أصبح رائجاً في الخطاب السياسي العربي منذ اندلاع الثورات العربية في العقد الأخير، غير موجود في معجم العلوم السياسية أكاديمياً"، موضحةً أن "المصطلح الأدق هو العلمانية، وهو الفكر الذي يتبنى مبادئ الديمقراطية والحريات العامة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمساواة والمواطنة".
دستورياً، هل يعتمد لبنان نظاماً مدنياً؟ يجيب أستاذ القانون الدستوري المحامي أنطوان صفير: "بحسب أحكام الدستور، لا مواد دستوريةً تُلزم لبنان بتبني نظام ديني معيّن أو شريعة دينية محددة كمصدر للتشريع، ولا مواد تشير إلى اعتماد دين معيّن للدولة أو رئيس الدولة، وعليه نظام لبنان مدني"، عادّاً أن "لبنان دولة مدنية وليست علمانيةً، فالأخيرة تفصل الدين عن مؤسسات الدولة، أما المدنية فتحترم الشعائر الدينية وتنوّعها والحريات الدينية"، ويستند صفير في رأيه إلى المادة 9 من الدستور اللبناني، والتي تنص على أن "حریة الاعتقاد مطلقة والدولة بتأدیتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جمیع الأدیان والمذاهب وتكفل حریة إقامة الشعائر الدینیة تحت حمایتها".
في المقابل، يشير المدير التنفيذي لمؤسسة "أديان" إيلي الهندي، إلى أن سبب استخدام مصطلح دولة مدنية بدلاً من علمانية في لبنان، يعود إلى "الخوف من ردات الفعل أو عدم الرغبة في التشبه بأنظمة علمانية محددة".
المدنية... عدوّة الدين؟
يلفت الهندي إلى أن "لا مشكلة للدولة العلمانية مع الدين أو التمظهر الديني طالما ليست لدى رجال الدين سُلطة على القرار السياسي، فهي تفصل الدين عن السلطة ولكنها لا تلغي الأديان". ويقدّم مثالاً واقعياً، فالولايات المتحدة "دولة علمانية مئة في المئة، ولكن نجد دوراً كبيراً للإنجيليين في إدارة السياسات وتوجيه الناس، وهذا الأمر ينسحب على الكنيسة الكاثوليكية واللوبيات اليهودية، ومؤخراً هناك تمظهرات للوجود الإسلامي".
لا مشكلة للدولة العلمانية مع الدين أو التمظهر الديني طالما ليست لدى رجال الدين سُلطة على القرار السياسي، فهي تفصل الدين عن السلطة ولكنها لا تلغي الأديان
ويضيف: "لا نؤيد كأديان حصر الدين في البيوت على مبدأ رفض الانحياز الديني أو الحياد، وهو ما فعلته فرنسا خلال الثورة الفرنسية بين عامي 1789 و1799، بانقلابها على الملكية والكنائس وأي تمظهر ديني"، ويتابع أن "الواقع يشير إلى أن الأفراد يصوّتون وفق إيمانهم، والسياسيين يتخذون قراراتهم وفق قيمهم ومبادئهم وإيمانهم، لذا فإن النظرة السليمة تكمن في إدارة التنوع الديني".
من جهتها، تشير الباحثة كاتي نصار، إلى أن "هناك علمانيةً إيجابيةً وأخرى سلبيةً، الإيجابية تدافع عن الحريات الدينية، بينما السلبية تميل إلى الإقصاء ولا تفتح المجال للتمظهر الديني". ورداً على سؤال حول الجهات التي تعمد إلى إشاعة الرأي القائل بأن الدولة المدنية عدوة الدين، تجيب نصار التي تحمل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية المسيحية، بأن "كل من لديه مصلحة في أن نبقى في دولة طائفية، أي أولئك الذين لديهم مصالح لتكريس الزبائنية والطائفية السياسية في لبنان".
وأجرت "الشركة الدولية للمعلومات"، وهي شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات في بيروت، في الفترة الممتدة ما بين 29 تشرين الثاني/ نوفمبر و14 كانون الأول/ ديسمبر من العام 2019، مسحاً تضمّن مقترح حظر أي تعابير أو رموز دينية في الأماكن العامة في لبنان، فرفض 53% من المشاركين المقترح (بينهم 19.9% رفضاً شديداً)، فيما وافق 27.3% على المقترح وفقط 8.4% كان تأييدهم كبيراً، بينما لم يؤيد أو يعارض 19.5% مقترح المسح الذي نُفّذ كجزء من مشروع "البرلمان الشبابي النموذجي".
انخفض التأييد لقانون مدني اختياري عند السُنّة، إذ يؤيده 34.9% منهم
المدنية... والحريات الدينية للمرأة
يتحدث الهندي عن مشكلة رفض الجمعيات النسوية الجلوس على طاولة واحدة مع رجال الدين، داعياً إلى "فتح حوار مع القضاة الدينيين والشرعيين والروحيين والجعفريين لتحقيق بعض المكتسبات لصالح المرأة وحرياتها".
من جهتها، تؤكد المحامية الحاج، على أننا "لا نتحاور مع الطوائف أو رجال الدين لأن معركتنا مع الدولة التي أعطتهم امتيازات وسُلطةً، لكننا نساند النساء عبر مرافقتهن إلى المحاكم الدينية والتقيّد اضطرارياً بقوانين الأحوال الشخصية الـ15 المفروضة بحسب كل طائفة عند متابعة قضاياهن".
وتضيف أن "هناك مصالح مشتركةً بين رجال الدين ورؤساء الطوائف والسياسيين، تعيق أي قانون يحمي أو يحرر المرأة من القيود الدينية"، مشيرةً إلى أنه "حين طرحنا مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري على مجلس النواب، اتفقوا على تمرير القانون على المؤسسات الدينية قبل التعليق عليه".
وتختم الحاج بالقول إن "معركتنا مستمرة في المطالبة بقوانين مدنية ترعى مصالح المواطنين على أساس المساواة والحقوق والحريات الدينية".
بدورها، تقول النائبة في البرلمان اللبناني حليمة قعقور: "أنا أكثر من يطالب بالعلمانية، ولكن نوع العلمانية الذي نطالب به هو الذي يتسامح مع الرموز والحريات الدينية معاً"، شارحةً أن "العلمانية في فرنسا تتسامح مع الحريات الدينية وليس مع الرموز، فهي ضد ارتداء الحجاب في الأماكن العامة ولكنها ليست ضد وجود الجوامع والكنائس، بعكس بريطانيا التي تتسامح مع أي شكل من أشكال الرموز الدينية، وهذا هو نوع العلمانية الذي يحمي الحريات الدينية بشكل عام والحريات الدينية للمرأة بشكل خاص".
هناك مصالح مشتركةً بين رجال الدين ورؤساء الطوائف والسياسيين، تعيق أي قانون يحمي أو يحرر المرأة من القيود الدينية
ويقول الهندي إنه نتيجة الاتجاه السائد في لبنان، بإعلاء مصلحة الطوائف على حساب حقوق المواطن وحريته، أصبحت المادة 9 من الدستور اللبناني تُطبّق على حساب المواد الأخرى، وبنتيجتها، برزت إشكاليات منها أن لكل طائفة قوانينها كقوانين الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى أن الدولة تقرّ قوانين تتعارض مع الحريات الدينية، كمنع قبول المرأة المحجبة من الدخول إلى السلك القضائي، وهو ما يناقض المادة 95 من الدستور التي تقول في مضمونها: "تُلغى قاعدة التمثیل الطائفي ویُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكریة والأمنیة والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضیات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فیها، وفي ما یعادل الفئة الأولى فیها، وتكون هذه الوظائف مناصفةً بین المسیحیین والمسلمین دون تخصیص أیة وظیفة لأیة طائفة مع التقید بمبدأي الاختصاص والكفاءة".
وتلفت عايدة الجوهري إلى أن "التجارب العلمانية التي شهدتها دول العالم، كانت من ضمن أولوياتها حماية الحريات الدينية بما فيها حرية ممارسة الشعائر والطقوس، وبإشراف الدول"، وتضيف أن "المرأة هي المستفيد الأبرز من إقرار القوانين العلمانية بدلاً من اعتماد قوانين الأحوال الشخصية، التي تميز بين لبناني وآخر وبين لبنانية وأخرى، وتؤول إلى التمييز ضد المرأة وتكرّس دونيتها".
وتتفق الناشطة النسوية مريم ياغي، مع الجوهري، وتقول إن "المرأة لن تحصل على حقوقها إلا بوجود دولة علمانية تساوي بين جميع المواطنين والمواطنات ولا تميّز لا على أساس اجتماعي أو جنسي أو مذهبي أو ديني أو طائفي، وتالياً إن وجود هذه الدولة من شأنه تحسين ظروف المواطنين بشكل عام، والمرأة بشكل خاص".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...