قبل عام، خضعت اللبنانية لمار إلياس (42 عاماً) لعملية إخصاب اصطناعي في محاولة لإنجاب طفلها الأول. عانت كثيراً بسبب عدم توفُّر "الفريش دولار" - مصطلح لبناني يُشير إلى الدولار المحوّل إلى البلاد حديثاً. وحين اتفقت مع الطبيب كان المبلغ المطلوب للعملية وحدها 1005 دولارات، علاوة على نحو 2000 دولار للعلاجات، على أساس سعر الدولار 40 ألف ليرة لبنانية.
وقت إجراء العملية، ارتفع سعر الدولار فجأةً إلى 50 ألفاً ووجدت نفسها مضطرة لاستدانة 1000 دولار إضافية لم تكن مستعدة لها. في نهاية المطاف، لم تنجح العملية التي مثّلت محاولتها الرابعة لأن تُصبح أماً خلال 17 عاماً في ثلاثة مراكز طبيّة مختلفة متخصصة على أيدي أشهر الأطباء في لبنان.
بمعدل مرة كل أربع سنوات، كانت السيدة اللبنانية تدخر كل ما أمكنها من أموال لإجراء عمليات الإخصاب الاصطناعي، التي أجمع الأطباء على أنها فرصتها الوحيدة للإنجاب، والتي تكلّفت الواحدة منها نحو 4000 دولار، على حد قولها. وهي تؤكد لرصيف22 أنها لو امتلكت المال اللازم لكرّرت العملية بوتيرة أكبر وخلال فترات زمنية أقل لتحقيق حلمها المشروع بأن تصبح أماً.
تقول: "لو سعرها أرخص بدل أربعة بعملها 10... ما في واحدة ما بتتمنى تكون أم". وذلك رغم إقرارها بأن العملية "مكلفة مادياً ونفسيّاً للغاية" من حيث الشعور بالضغط والقلق في انتظار نتيجتها والإحباط الشديد في حالة فشلها.
حالياً، تقول لمار إنها لن تعيد الكرّة مرغمةً - على الأقل في المدى القريب - لأسباب اقتصادية، مع إقرارها بأن فرصها تقل في أن تصير أماً مع تخطيها سن الأربعين. وهو أمر مثبت علمياً.
"لو سعرها أرخص بدل أربعة بعملها 10"... بينما اضطر لبنانيون إلى تأجيل أو التخلي عن حق الإنجاب بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، آخرون يحلمون بأن يصبحوا آباءً وتمنعهم الكلفة الباهظة لعمليات الإخصاب الاصطناعي وصعوبة توفير الفريش دولار
الإخصاب الاصطناعي وأزمات الدولار
الإخصاب الاصطناعي أو المخبري (بالإنجليزية In-vitro Fertilization (IVF)) هو عملية تلقيح البويضة خارج الرحم (في الأنبوب) حيث تؤخذ البويضة من المبيض وتُلقّح بالحيوانات المنوية في المختبر، ثم تُزرع في رحم المرأة. وهي طريقة ابتُكرت في بريطانيا عام 1978.
تستخدم هذه التقنية للتلقيح خارج الرحم إذا كان الزوجان يعانيان مشكلات في الخصوبة أو عوائق صحيّة تمنع الحمل بشكل طبيعي. كما يمكن اللجوء إليها في حالة الرغبة بتحديد جنس الجنين أو لتفادي أمراض وراثية معينة لدى أحد الوالدين.
أجبرت الأزمة الاقتصادية الخانقة الكثير من اللبنانيين واللبنانيات على تأجيل الإنجاب أو العزوف عنه بشكل مؤقت أو دائم في ظل القلق بشأن القدرة على تنشئة طفل صحي وآمن. وبات قرار الإنجاب "ضرباً من ضروب المجازفة والتهور" في كثير من الأحيان.
مع ذلك، يبقى الإنجاب حقاً من حقوق الإنسان وتيسيره - بما في ذلك لأولئك الأشخاص الذين يعانون مشكلات صحيّة تتطلب الإنجاب عبر تقنيات الإخصاب الاصطناعي - واجباً على الدولة ومؤسساتها المعنية.
يعاني الراغبون في الإنجاب عبر الإخصاب الاصطناعي في لبنان من مشكلتين رئيسيتين أولاهما ارتفاع كلفتها، وبخاصة العلاج وجميعه مستورد بالعملة الصعبة، وضرورة الدفع بالدولار في حين أن "الفريش دولار" غير متوفر أو على الأقل يصعب الحصول عليه. لا يعاني المواطنون وحدهم من هذا. إذ تكافح المراكز المتخصصة في علاج العقم عبر الإخصاب الاصطناعي أيضاً بسبب ارتفاع أسعار الأدوية والأجهزة، وصعوبة تأمين الدولارات اللازمة لاستيرادها، مع محاولة الإبقاء على أسعار تنافسية في متناول المرضى اللبنانيين المثقلين بالأعباء الاقتصادية.
وهناك مخاوف من أن تضطر بعض هذه المراكز في نهاية المطاف إلى غلق أبوابها في حال استمرار تدهور العملة وضعف إقبال المواطنين على مثل هذه العمليات المكلفة، وبالتالي هجرة كوادرها الطبيّة خارج لبنان.
في حديث مع رصيف22، يقول دكتور زياد مسعد، مدير مركز "آي في إف ليبانون" وأخصائي التقنيات المساعدة للحمل والتلقيح الاصطناعي: "المصاريف زادو علينا شي 20% بس ما زدنا التكلفة على المرضى. بعدنا بنقبض متل قبل. المرضى يللي عايشين بلبنان منحاول أد ما فينا نساعدهن وبنعملن خصومات 20 - 30%".
"عملنا انخفض بمقدار 40 إلى 50% عمّا قبل 2019"... مخاوف من أن تتسبب الأزمة الاقتصادية في لبنان في غلق أبواب مراكز الإخصاب الاصطناعي وهجرة كوادرها الطبيّة للخارج في ظل ضعف الإقبال عليها لارتفاع تكلفتها وعدم ضمان نجاحها
ويشير د. مسعد إلى أن المركز رغم ذلك يسعى إلى تطوير منشآته ومعداته ومختبره لضمان أفضل النتائج وتقديم أفضل خدمة للمرضى، مبرزاً أنهم يعولون على المرضى من خارج لبنان لتعويض هذا الانخفاض في الإقبال محلياً إذ قدّره بنحو 30% عن ذي قبل. كما يوضّح أنهم يوافقون على تلقي التكاليف بالدولار أو بالليرة اللبنانية من المرضى اللبنانيين.
يبدو د. مسعد غير متشائم إذ يضيف: "بعض الناس في لبنان عندن صعوبات مادية. لكن يبقى الوضع مقبولاً حتى الآن"، موضحاً أن كلفة عمليات التلقيح الصناعي في المركز تراوح بين 1800 و 2000 دولار.
ينوّه الموقع الرسمي للمركز الذي يديره د. مسعد بأن تكلفة دورة الإخصاب الصناعي تختلف "وفق متطلبات كل حالة"، إلا أنها تنقسم إلى ثلاث خطوات أساسية لكل منها، وهي: المعالجة التمهيدية وتشمل "الزيارة الأولى وتكلفتها تناهز 150 دولاراً أمريكياً. والأدوية اللازمة لتحفيز البويضات تكلف من 700 إلى 1200 دولار أمريكي. واختبارات الدم المطلوبة خلال دورة الإخصاب الصناعي تكلف من 300 إلى 400 دولار". ومرحلة حقن الحيوانات المنوية داخل البويضة وزرع الأجنة تراوح تكلفتها بين 2000 و3000 دولار. وأخيراً مرحلة التقنيات العلمية المتقدمة و"لا يمكن تحديد معدل تكلفتها"، بحسب الموقع.
رفع الدعم وتدهور الوضع
أما رئيس المركز اللبناني الألماني للخصوبة، الدكتور إلياس كرم، فيبدو أكثر تشاؤماً. يقول لرصيف22: "قبل الأزمة، كنّا نتقاضى من المرضى بالليرة اللبنانية على أساس سعر الصرف (الرسمي) 1515. منذ سنة، اضطررنا إلى رفع الأسعار حسب سعر السوق، وبعد هذا الارتفاع الجنوني لأسعار الدولار وصعوبة توفير الفريش دولار، تراجعت أعداد اللبنانيين الراغبين في إجراء عمليات الـIVF. لا أمتلك أرقاماً دقيقة، لكن عملنا انخفض بمقدار 40 إلى 50% عمّا كان عليه قبل 2019".
يلتمس د. كرم العذر لأن الكثير من المواطنين لم يعودوا قادرين على تحمُّل كلفة عمليات الإخصاب الاصطناعي الباهظة الثمن في مختلف مراحلها، والتي تتطلب توفير "الفريش" دولار. وهو يعتبر أن رفع الدعم الحكومي عن مستلزمات مراكز الإخصاب الاصطناعي سبباً إضافياً لاستحالة الوضع كارثياً.
"الدولة ما خصّها أبداً. ولا التأمين ولا وزارة الصحة ما بيساعدوكي بدولار... ما بعرف كيف بعتبروها… وكأنها (عمليات الإخصاب الاصطناعي) عمليات تجميل! ما معك مصاري ما بيصير عندك ولد"
يتابع د. كرم: "كانت الأدوية والمعدات مدعومة من مصرف لبنان. رُفع هذا الدعم الآن وأصبحنا مضطرين لتقاضي المقابل بالدولار لاستيراد احتياجاتنا من أجهزة وعلاجات وغيرها"، مردفاً "حاولنا التخفيف على المرضى بخفض أسعارنا. مع ذلك، تظل العمليات مكلفة والعلاج غال جداً. آمل ألّا ترتفع الأسعار أكثر".
بحسب د. كرم، "تحتاج كل سيدة أدوية فقط بنحو 1000 إلى 1500 دولار. من قبل، كنا نتقاضى بين 2000 و2500 دولار للمركز (أجرة المختبر والعملية). حالياً، قمنا بخفض هذا المبلغ إلى 1500 وأحياناً إلى 2000 فريش دولار فقط. يعني هذا أن الأسرة قد تضطر لدفع ما لا يقل عن 2500 إلى 3000 دولار مقابل دورة واحدة من IVF". احتمالات عدم نجاح العملية سبب إضافي للعزوف عنها أحياناً لما تنطوي عليه من مغامرة مادية.
في ختام حديثه، يعرب د. كرم: "أنا غير متفائل بالنسبة لإمكانية حدوث تدخل حكومي يعالج معاناة اللبنانيين الراغبين في إجراء عمليات الإخصاب الاصطناعي، بما في ذلك إعادة الدعم للأدوية والعلاجات التي تتطلبها هذه العمليات. كل ما أتمناه من الحكومة الحالية أن تسعى إلى وقف المزيد من تدهور الليرة لأن ‘مش هالحكومة اللي رح فيها تساعدنا‘".
لمار إلياس أيضاً يراودها هذا التشاؤم حيال أي دور حكومي يعزز الحق في الإنجاب للأشخاص الذين يحتاجون الإخصاب الاصطناعي. "الدولة ما خصّها (تقصد لا تهتم) أبداً. ولا التأمين ولا وزارة الصحة ما بيساعدوكي بدولار... ما بعرف كيف بعتبروها… وكأنها عمليات تجميل! ما معك مصاري ما بيصير عندك ولد. مرّة شفت مسؤول ع التلفزيون بيتساءل أنه إذا واحد ما معه مصاري لشو بدو يجيب ولد. متل هيدا التصريح بيحرقك...."، تختم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.