شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
إقالة رجاء بن سلامة ورفع ورقة التوت عن الدكتاتور

إقالة رجاء بن سلامة ورفع ورقة التوت عن الدكتاتور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الخميس 23 فبراير 202302:24 م

يردد الرئيس التونسي قيس سعيّد مع كل خطاب له أو أي تصريح صحافي نفس الكلام. ومفاده أن كل ما يروّج عن انتهاكات حقوق الانسان وانحسار حرية التعبير مجرد أكاذيب من خونة يريدون تدمير تونس مستعيداً جملته الأثيرة بأن حرية التعبير مضمونة ولا أحد لُوحق بسبب حرية التعبير. رغم أن هؤلاء لا يتمتعون بحرية الفكير، وكأنه يقرأ الغيب ويكشف ما في العقول.

ومع ذلك نسمع كل يوم عن أخبار اعتقالات لفنانين وإعلاميين أو معاقبتهم بطرق عدة، أهمها العقاب الوظيفي الشهير. آخر ضحايا حريّة التعبير في تونس الدكتورة الكاتبة رجاء بن سلامة مديرة دار الكتب الوطنية، التي أحدثت، منذ تسلمها إدارة الدار ثورة في أداء المكتبة الوطنية برقمنتها وإتاحة آلاف الكتب للعموم ونشر مخطوطات نادرة في مجالات ثقافية عدة واستضافة الكثير من المؤتمرات والمحاضرات الدولية وطرح مواضيع إشكالية.

الإقالة وأسبابها

تذكّر رجاء بن سلامة في تعليق على صفحتها إثر نشرها لخبر إقالتها أنها لم تتلق أي تفسير للقرار ولا ذكر لأسبابه، ولكن الأمر كان واضحاً. فقد جاءت الإقالة بعد أيام قليلة من كتابتها تدوينة على حسابها في فيسبوك تساند فيها المعتقلين وتحذّر من هذا السلوك الذي انتهجته السلطة:

تقول في التدوينة: "متعاطفة مع إذاعة موزاييك ومديرها ومع كل الموقوفين بتهم غامضة. ضد عودة تهمة التآمر ضد الدولة لقمع المعارضين وتركيع وسائل الإعلام"

وهي بذلك تعلن عن رفضها لمسار قيس سعيّد وتحذّر من العودة لنظام القمع البوليسي الذي قاومته أيام نظام بن علي من خلال إدارة موقع "أوان" وأنشطتها الحقوقية.  

آخر ضحايا حريّة التعبير في تونس  مديرة دار الكتب الوطنية رجاء بن سلامة بسبب تدوينة على فيسبوك ساندت فيها المعتقلين وحذّرت من السلوك القمعي الذي تنهجه السلطة في تونس

وتعتبر رجاء بن سلامة من الشخصيات الثقافية والأكاديمية الكبيرة التي تبنّت أحلام الثوّار من الشباب في 2011 وظلت متمسّكة بفكرة الديمقراطية رغم عودة السيستام قبل سنوات ومحاولة تصفية كل من انتمى للثورة. وكانت الكاتبة مستهدفة دائماً من الإسلاميين بسبب أفكارها التحرّرية والعلمانية ومن النظام القديم الذي يسعى لاستعادة نفسه ووجوهه إذ شُنّت عليها طوال العشرية السابقة الحملات التشويهية كل مرة، آخرها قبل شهرين عندما هاجمت مجموعة من القوميين مؤتمراً أعدته عن اللغات القديمة وتسليط الضوء على اللغة الأمازيغية والعبرية التونسية. 

الدولة العميقة وسلطة الانقلاب  

ظلت رجاء بن سلامة تتصدى لسلسلة المؤامرات التي يشنها عليها بعض الأقلام المأجورة من وزراء ثقافة سابقين أو من السلطة. لكن هذه المرة، وبعد أن استحوذ قيس سعيّد على كل السلطة، وصار يتابع كل شيء بنفسه وفقدت المؤسسات صلاحياتها، بما في ذلك وزراء "حكومة بودن" وصارت حكومة تنفيذ الأوامر، جاء قرار العزل والإبعاد مباشرة بأوامر من القصر. والمؤسف أن وزيرة الثقافة هي زميلتها الجامعية حياة قطاط القرمازي التي صارت تغازل سلطة الانقلاب بطريقة مثيرة للشفقة حتى أنها أقدمت في الأيام الماضية على تعيين نقيب أمني مديراً عاماً لمؤسسة التراث اللامادي. 

لم تكن التدوينة الأخيرة هي المرة الأولى التي تعلن فيها الدكتورة رجاء بن سلامة أنها ضد الانقلاب ولا تصطف وراء أي تيار سياسي أو حزبي. فهي لا تتردد في أن تعلن أنها ضد أشكال معينة من النشاط السياسي. إذ تعلن صراحة أنها ضد الإسلام السياسي ضد "عبير موسي" باعتبارها شخصية  سياسية تريد أن تستعيد نظام بن علي الذي كانت من كوادره دون أي اعتذار للشعب على ما ارتكبه. وهي أيضاً ضد الانقلاب الذي تسميه "البيان رقم واحد". 

وكانت سلطة الانقلاب قد وضعتها في اللائحة السوداء ضمن المعارضين وتنتظر الفرصة السانحة للتخلص منها وأطلقت عليها ما يسمى بالذباب الأزرق، أنصار الرئيس، لتشويهها.

لا تنطلق رجاء بن سلامة في تصريحاتها ومواقفها من التخندق مع المعارضة السياسية بل من قناعات شخصية لمفكرة حرة ومثقفة وباحثة مشهود لها. لذلك تشن عليها أحياناً وجوه من المعارضة السياسية لقيس سعيّد هجوماً بسبب آرائها الشخصية. فبعد أن صرحت في أحد البرامج بأنها تدافع عن الذين يوصون بحرق جثتهم بعد وفاتهم، هاجمها الأمين البوعزيزي أحد المتحدّثين باسم المعارضة ووصفها بأنها تمثل داعش اللائكية، فيتهمها في صفحته على فيسبوك بأنها من الحداثويين المتطرفين الذين زرعتهم دولة البوليس لإثارة الفتنة. والمراجع لتدوينات هذا الناشط القومي يلاحظ هجومه الدائم عليها من منطلقات أيديولوجية ويصر دائماً على اتهامها بالتطبيع وبعلاقتها باليهود. 


وسبق أن هوجمت رجاء بن سلامة بسبب موقفها الرافض للنقاب وبسبب البرامج التي تنظمها في دار الكتب الوطنية. ولعل واقعة معرض الهولوكوست 

والهجوم على الأستاذ حبيب الكوسدغلي واتهامها بالصهيونية أحد أهم تلك الهجومات. 

وتضطر أن ترد يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2017 للتوضيح "تناول معرض "الدّولة المخادعة" مسألة الدّعاية النّازيّة ويقارن بين خطابها وخطاب داعش، وقد تمّ تنظيمه بالتّعاون مع مخبر التّراث بجامعة منّوبة، وهو مبرمج منذ أكثر من شهرين.

تقول رجاء بن سلامة في آخر تدوينة أعلنت فيها عن إقالتها، إنها عائدة للجامعة والبحث العلمي، فهل يعني ذلك أنها ستنسحب من المواجهة الثقافية في مرحلة معقدة جدا في تونس تحتاج إلى صوت شجاع مثل صوتها؟ 

ما حصل يوم افتتاحه، أي يوم الجمعة 15 ديسمبر/كانون الأول 2017 هو محاولة منع هذا المعرض من قبل عناصر جاءت من خارج المكتبة وعناصر من أعوانها. كنت متغيّبة في مهمّة رسميّة ببلغراد. موقفي المبدئيّ باعتباري مواطنة ومعنيّة بالثقافة والفكر هو رفض كلّ مصادرة وكلّ عنف. وموقفي باعتباري مسؤولة عن المكتبة الوطنيّة هو رفض الاحتجاجات العشوائيّة التي لم تؤطّرها النّقابتان الأساسيّتان التّابعتان للاتحاد العامّ التونسيّ للشّغل وطبقاً لقواعد العمل النّقابيّ وقوانينه. ولهذا فإنّني سأحقّق في ما حدث يوم الاثنين وسأتّخذ القرارات الضروريّة لكي لا تتكرّر مظاهر الهيجان التي تسيء إلى سمعة المؤسسة وتعطّل سير عملها. 

محتوى المعرض مسألة أخرى، ولست نادمة على تنظيم معرض له علاقة بالنازية، أو بأيّ فترة من فترات التّاريخ البشريّ. وأرفض المصادرة تحت مسمّى "منع التّطبيع" لأنّ منع التطبيع هذا هو في أغلب مظاهره  قناع من أقنعة العنصريّة ضدّ اليهود، ويقوم على الخلط بين اليهود والممارسة الاستيطانيّة الإسرائيليّة والانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل في حقّ الشّعب الفلسطينيّ. لا يزايد أحد على مناصرتي للقضية الفلسطينيّة ولكّنني أرفض العنصريّة والمصادرة وأرفض العبث بالمؤسّسات." 

يهاجم أنصار قيس سعيّد رجاء بن سلامة ويدعون أنها كانت مسنودة من حزب النهضة الإسلامي بينما كل قواعد النهضة على الأقل يهاجمونها بسبب مواقفها العلمانية وأفكارها التحررية وتصريحاتها الرافضة الإسلام السياسي ومواقفها من النهضة نفسها. 

يبدو أن السلطة السياسية ومعارضتها فشلتا عبر تاريخ تونس في تدجين المفكّرة  ولم يفلح معها الإغراء ولا التهديد وحتى تكلفيها بإدارة المكتبة الوطنية لم يجعلها تتخلى عن شجاعتها الأكاديمية وانتصارها للمعرفة وللفكر الإنساني ونبشها في الذاكرة  للكشف على تعدد العناصر المكونة للثقافة التونسية، والتي تسعى الجهات القومية والعروبية إلى محوه سواء أكان العنصر اليهودي أو العنصر الأمازيغي. 

إن خسائر إقالة رجاء بن سلامة كثيرة لكن فضيلة هذه الإقالة أنها رفعت ورقة التوت عن عورة الانقلاب وصار وجهه القميء  الذي يستهدف حرية التعبير مفضوحاً. لقد سقط الانقلاب في أول اختبار حقيقي  وواضح لحرية التعبير. من يعارضنا لا مكان له حتى في مؤسسات الدولة الثقافية

كانت رجاء بن سلامة طوال السنوات العشر الماضية تمثل كابوساً للوزراء مع أي خبر عن تحوير وزاري مرتقب، لأن اسمها يتردد دوماً كمرشحة ويحرّك الوزراء كتبهم للهجوم عليها ونعتها بأبشع التهتم لاستبعادها من الترشيح. وإن لم تتسلم الوزارة  وظلت تشتغل مديرة مؤسسة راجعة بالنظر إلى وزارة الثقافة، فإنها لم تخضع يوماً لإرادة وزير بل يحسب لها أنها تصدت معي شخصياً يوماً بصفتي مديراً لبيت الرواية وقتها، لقرار وزير الثقافة بإلغاء محاضرة الكاتب الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل وفتحت باب دار الكتب الوطنية لإقامة ذلك اللقاء الذي تكفلت بإقامته مع عدد من الأصدقاء من الكتّاب والاعلاميين برغم من الهجمة الشرسة التي تعرّضنا لها ومحاولات  الوزير منع اللقاء بكل ما يملك من سلطة. 

تقول رجاء بن سلامة في آخر تدوينة أعلنت فيها عن إقالتها، إنها عائدة للجامعة والبحث العلمي وعلم النفس، فهل يعني ذلك أنها ستنسحب من المواجهة الثقافية في مرحلة معقدة جدا في تونس تحتاج إلى صوت شجاع مثل صوتها؟ 

لا نعتقد ذلك لأن رجاء بن سلامة وهي تمارس عملها الطبيعي كأستاذة جامعية،  كانت طوال تجربتها منخرطة في الشأن العام وتحاول كل مرة أن تحرك المياه الراكدة، متحدية التطرف الديني والقومي والشعبوي لتنتصر للمعرفة وللسؤال. والمعركة اليوم صارت معلنة بين أنصار حرية التعبير وسلطة انقلاب أعادت أمجاد نظام الرئيس بن علي في التصفيات عبر ضروب العقاب والزجر عبر الاعتقال أو التصفية الوظيفية  لتكميم الأفواه. إن خسائر إقالة رجاء بن سلامة كثيرة لكن فضيلة هذه الإقالة أنها رفعت ورقة التوت عن عورة الانقلاب وصار وجهه القميء  الذي يستهدف حرية التعبير مفضوحاً. لقد سقط الانقلاب في أول اختبار حقيقي  وواضح لحرية التعبير. من يعارضنا لا مكان له حتى في مؤسسات الدولة الثقافية. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض تحويلنا إلى كائنات خائفة يسهل حكمها. لذلك كنّا وسنبقى موقعاً يرفع الصوت ضد كل قمع لحرية التعبير ويحتضن كل الأفكار "الممنوعة" و"المحرّمة". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image