يعيش الرئيس التونسي المنتهية صلاحيته والموسعة صلاحياته حالياً، حالة عجيبة تتمثل في عشقه اللامحدود لمحو الأشياء وتكسيرها وشطبها وقطعها. وتقترن هذه الحالة بحالة أخرى، تتمظهر في الرغبة الدائمة في قول لا ومعارضة حتى نفسه.
فقيس سعيد يتلذّذ بقول لا، ولو كان فيها نجاته، لأنه تبنى ثقافة التخوين والتآمر، وهي المصطلحات الأكثر شيوعاً في خطاباته منذ 25 تموز 2021 وانقلابه الرمادي الذي تحول تدريجياً إلى ديستوبيا تونسية فريدة في العالم، لأنها تصنع ديكتاتوراً بلا ملامح، فقد محا ملامحه في غمرة نشوته وهو يمحو تونس وتاريخها.
المحكمة الدستورية
بدأ الشغف بالمحو قبل تاريخ الانقلاب، فقد خرج قيس سعيد يوماً وأعلن أنه لن يمضي على قرار تنصيب المحكمة الدستورية، لأن آجال تنصيبها تأخر. ويأتي هذا القرار من خوفه من أن تتسبب هذه المحكمة في شطبه، فسارع وشطبها وقضى على وجودها بالقوة، قبل أن تظهر وتتشكل بالفعل. كما استند في ذلك إلى الدستور الذي لم يعترف به يوماً وكان أول ضحاياه بعد تاريخ الانقلاب.
وفي الأثناء، تسلى الطفل الرئيس بلعبة محو الحكومات التي يشكلها بنفسه ويعين رؤساءها بنفسه.
يعيش الرئيس التونسي المنتهية صلاحيته والموسعة حالياً، حالة عشق لامحدود لمحو الأشياء وتكسيرها وشطبها وقطعها
محو الدستور
الدستور الذي وصفه قبل حتى ترشحه للرئاسة بأن الحمار أكله، كان هو من أكله بعد 25 تموز، حتى أعلن في النهاية أن هذا الدستور لم يعد صالحاً بالكامل، ووجب تغييره، فمحاه محواً وقتله كما يقول التوانسة "عرقاً بعد عرق"، وفي ذلك عملية تشفٍ كبيرة، ما يجعل من قراءة شخصيته وفق ما فعله بالدستور صورة مفزعة. فهناك في صيرورة فعله كراهية كبيرة لواضعي الدستور، وكأنه بتقتيله يقتلهم جميعاً واحداً واحداً، ويمحوهم فرداً بعد آخر.
محو المؤسسات
طال محو قيس سعيد المؤسسات الكبرى والصغرى، فعلّق مجلس النواب ومارس عليه إلى الآن سياسته السادية بعدم إغلاقه بل تعليقه، وما تعنيه هذه الكلمة في السجل الأمني وتاريخ التعذيب في تونس وخارجها.
وكذلك فعل مع "هيئة مكافحة الفساد" التي أغلقها وقتياً وحاصر رئيسها الأستاذ شوقي الطبيب، وضرب حوله حصاراً ووضعه تحت الإقامة الجبرية، شوّه سمعته وعائلته في خطابات خاصة حول فساده واستثرائه غير المشروع هو وزوجته، ليثبت بعد ذلك أن الرجل بريء، ورفعت عنه الإقامة الجبرية دون أن يكلف نفسه بكلمة اعتذار.
وتواصلت استراتيجية المحو بمحو الحكومة، فخرج علينا يوماً وهو يتندر على فكرة ضرورة الحكومة وضرورة وجود وزراء، واستشهد بسنوات بداية الاستقلال وأنه في البداية لم يكن هناك وزراء. وكان يبدو أنه يسير بخططه نحو إلغاء مؤسسة الحكومة برمتها، وتحت الضغط الدولي ومؤسسات الدعم والبنوك الدولية والهيئات السياسية والاقتصادية.
أوهم الجميع أنه شكّل حكومة، والحقّ أنها حكومة بلا لسان ولا يد ولا رأس أصلاً، لأنها ممنوعة من الكلام، ما جعل الإعلام التونسي يتخبط في تحليل ما يقع دون أن يجد إجابة واحدة من مسؤول، وشمل التبكيت رئيسة الحكومة التي عينها، والتي ظلت لأشهر لا تتكلم، ولا نراها إلا في مشاهد استقبالها وتوديعها من جلالته ووراءها خلفية موسيقية ركيكة.
قيس سعيد يتلذّذ بقول لا، ولو كان فيها نجاته، لأنه نشأ على ثقافة التخوين والتآمر، وهي المصطلحات الأكثر شيوعاً في خطاباته منذ 25 تموز 2021 وانقلابه الرمادي الذي تحول تدريجياً إلى ديستوبيا تونسية فريدة في العالم
سياسة الاتصال لرئاسة الجمهورية
شهد قصر قرطاج استقالات بالجملة من قسم الاتصال، بسبب تدخّلات الرئيس فيه بشكل سافر وغير مهني، ومنها انطلقت صورة عجيبة غريبة لشكل اتصالي لنظام سياسي، فأصبح الشعب والعالم كله يتابع ما يجري في تونس عبر قناة واحدة وهي الرئيس نفسه، الذي لا يكف عن التفوّه يومياً بكلام ثلاثة أرباعه شتائم وتهديد لشعبه بكل طوائفه، من الإعلاميين إلى السياسيين إلى الحقوقيين إلى رجال الاقتصاد، وكلام آخر على صفحة رئاسة الجمهورية بصياغات ركيكة غير مهنية واستعارات ممجوجة.
والحق أن ذلك بدأ قبل 25 تموز بكثير، عندما خرج علينا يكتب المكاتيب بالخط المغربي والريشة والقرطاس، ويقف أمام مدير مكتبه ويطلب منه توصيل خطابه إلى رئيس الحكومة وإلى رئيس البرلمان، في مشهد كرنفالي ظل في ذاكرة كل من رآه، ونتيجة لليلة الكوميديا السوداء تلك في ذاكرة التونسيين، قام الرئيس وأمر بمحو الفيديو من صفحة رئاسة الجمهورية.
لكن هذا المشهد الذي شبهه الناس بمشهد "رسالة إلى الوالي" لعادل إمام، وآخرون بمشهد من فيلم "الرسالة" للعقاد، كان قد تناقلته الصفحات وصار أمراً مقضياً.
الدستور الذي وصفه قيس سعيد قبل حتى ترشحه للرئاسة بأن الحمار أكله، كان هو من أكله بعد 25 تموز
محو القضاء
يسعى الرئيس إلى محو وشطب المجلس الأعلى للقضاء، والذي بقي العقبة الوحيدة أمامه لتنفيذ مخططه في الزجّ بكل خصومه في السجن وإقامة دولة الاستبداد الكاملة، وبعد كل الخطابات التي ينادي فيها بتطهير القضاء والتصدي له، مرّ إلى التنفيذ باعتقال نور الدين البحيري، الذي يتهمه بالتحكم في القضاء، وواصل المطالبة بحل المجلس الأعلى للقضاء، الذي ظل إلى اليوم يصدر البيانات المنددة بالانقلاب، ويطالب رئيس الجمهورية بترك القضاء يعمل بعيداً عن الضغوطات والحسابات السياسية.
الرئيس يمحو نفسه
في مشهد غريب يظهر الرئيس بعد أن أصدرت المحكمة حكماً بالسجن على الرئيس السابق منصف المرزوقي، يكذّب الرئيس على الملأ نفسه، ويدعي أنه لم يتدخل في قضيته ولم يأمر أحداً بالعمل عليها، وكان قبل مدة قليلة يهدد بسحب جواز سفره الدبلوماسي، ويدعو وزيرة العدل لفتح تحقيق في تحركات المرزوقي.
فنزل فيديو عجيب يظهر فيه الرئيس يكذب نفسه، ما يجعله وثيقة خطيرة قد تسحب ضده لإعفائه من أي جهة نافذة اليوم، ومنها الجيش، بأنه غير قادر صحياً على الحكم، كما فعل زين العابدين لبورقيبة سنة 1987، وإن لم نر دليلاً فعلياً على حالة بورقيبة.
وقد سبق لقيس سعيد أن أنكر أنه ينوي القيام بانقلاب عندما وقع تسريب خطته للإعلام، واجتمع برئيس حكومته المشيشي مكذباً ذلك.
طال محو قيس سعيد المؤسسات الكبرى والصغرى، فعلّق مجلس النواب ومارس عليه إلى الآن سياسته السادية بعدم إغلاقه بل تعليقه، وما تعنيه هذه الكلمة في السجل الأمني وتاريخ التعذيب في تونس وخارجها
إن هذا المشاغب الذي بدأ يفقد عقله ويدمن لعبة المحو، أصبح خطراً على البلاد بشكل لا يبدو للناس واضحاً، بحكم انغماسهم في معاناتهم اليومية ووجودهم في قلب المعمعة.
ويبدو أن استمراره في الحكم سيدخل تونس تاريخ أقبح الديكتاتوريات في العالم، لأنها ستكون في قبضة كائن فضائي لم نتبين كيف يفكر إلى الآن، وما هذا الرصد إلا محاولة لفهم هذا الرئيس، ألم يسبق ووصف نفسه قيس سعيد بأنه آت من كوكب آخر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت