يظهر لنا البناء، فتبهرنا زخرفته وفسيفساؤه، في حين لا نكترث لِلَبَناتٍ أساسية حملت كل هذا الجمال، ولولا متانتها لانهار.
وكما قفل القنطرة، حجرٌ أخير يوضع ضمنها، وحين يُراد هدمها يُسحب فتتهاوى بسهولة، كان جوزيف صقر الذي قال عنه زياد الرحباني حين رحل:"عطبنا".
مدرّس اللّغة الفرنسية، الذي آثر الموهبة على مهنة الأنبياء، ولبّى نداء الفن من دون أي التفاته إلى الوراء، ترك الكرّاسات والسبورة... وغنّى لبنت المعاون، الأغنية التي أضفت جرعة فرح إضافيةً في أثناء كتابة المادة .
من صفوف الكورال إلى "نخلة التنين"
عمل جوزيف صقر في المسرح والسينما مع الأخوين الرحباني في أدوار ثانوية، كما شارك في الكورال.
حرص الرحابنة على تقديم المسرح بالرغم من ظروف لبنان السياسية الصعبة، فأمست تلك العروض نجماً لامعاً في عتمة الحرب ونوائبها، تناضل بالكلمة واللحن.
جلب زياد آلته الموسيقية، وأسرع إلى الصقر ومن هنا بدأ مشوار.
هي الصدفة البحتة التي قادت زياد إلى اكتشاف شريكه الفني المستقبلي، أواخر الصيف في أيلول/ سبتمبر، "آن الكرم يُعتصر"، كما كان يحلو لفيروز تسمية موعدها مع أهل الشام الذي حرصت مع الرحابنة على ألا تتأخر عنه على مسرح معرض دمشق الدولي. إذ جمعت في غرفة في أحد الفنادق جوزيف مع زياد، وكان الأخير مرافقاً للفرقة كعازف للأكورديون، فأنبأته أذنه بقطعة ماسية ستلمع إن سنحت لها فرصة. جلب زياد آلته الموسيقية، وأسرع إلى الصقر ومن هنا بدأ مشوار.
كانت مسرحيتهما الأولى "سهرية" (عام 1973)، ووصفت بأنها غنائية أكثر منها درامية ذات حبكة، فالأحداث كانت تتسارع بعشوائية لتُمرر الأغاني، وكانت للمعلم نخلة التنين صاحب القهوة حصّة الأسد من تلك الأغاني ليغنّي صقر: "يا بنت المعاون"، و"أنا اللي عليكي مشتاق"، بالإضافة إلى أغنية "الحالة تعبانة يا ليلى"، والتي روى عنها زياد موقفاً طريفاً، إذ تربعت على عرش المركز الأول لأكثر من مرة في برنامج للمنوعات بُثَّ خلال السبعينيات عبر الإذاعة الإسرئيلية، وقد دعت الإذاعة القائمين على الأغنية إلى استلام الجائزة، وهنا تظهر خفّة ظلّ جوزيف المستمع صدفةً إلى تلك الدعوة، فأخبر زياد بقلقه: "هي إسرائيل، لما تقلك تعال خود الجائزة لازم نروح بلا ما تجي هيي تسلّمنا إياها ببيتنا".
وشاءت الصدفة في اليوم التالي، أن وقعت حادثة بوسطة عين الرمانة التي كانت الشرارة المباشرة للحرب الأهلية اللبنانية.
كيمياء شخصية وثنائية فنية
لم يكن زياد وجوزيف مجرد شريكين في عمل فني، بل تعدّت العلاقة بينهما أسوار المهنة، ليتكلم أحدهما عما يجول قي بال الآخر. الصقر الخجول والمقلّ إعلامياً، أجاب ذات لقاء: "زياد بيحكي عنك وعني، كل جلسة أو مسرحية بيحكي وجعك وشوفي ببالك"، ليعلن بذلك تسليم الثقة المطلقة إلى ذاك الشريك .
فيما يقول زياد واصفاً تلك العلاقة: "وراء العمل كانت تصير قعدات في الكواليس، في البيت، قعدات طويلة نتناقش فيها شو ممكن الأغنية تحمل إضافة بعد التسجيل، قعدات تنتهي بعشا وسؤال شو في بالبراد؟".
ثم توالت الأعمال المسرحية التي بحسب النقّاد أصبحت أكثر عمقاً؛ مسرحية "نزل السرور" في الـ74، التي تناولت هموم وطن يئنّ اقتصادياً وسياسياً، ثم مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" (عام 78)، التي أعيد إحياؤها كفيلم سينمائي بعد أكثر من 38 عاماً من خلال تجميع المشاهد المصوَّرة بكاميرا شقيقة زياد، ليال، وقد عولجت الصورة والصوت لأن التصوير لم يكن احترافياً، وكان صقر قد رحل ليؤكد الجميع تضامنهم مع تلك القامة المظلومة التي لم يوثَّق أداؤها اللافت. تابع الثنائي في مسرحية "فيلم أميركي طويل"، ثم "شي فاشل"، ثم "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، لتكون هذه العمل الأخير الذي يجمعهما، وذلك عام 93. تلك الأعمال متّع فيها صقر الحضور آنذاك بأغانٍ ما برحت إلى يومنا هذا تتسلل في الصباحات من المذياع إلى شرفات المنازل وزحمة النقل الداخلي. يدفئ جوزيف من خلالها بصوته الحنون برد الشتاء، في حين تتولى الانسيابية حرّ الصيف ليتبدّد في نقاء سلسبيله.
مدرّس اللّغة الفرنسية، الذي آثر الموهبة على مهنة الأنبياء، ولبّى نداء الفن من دون أي التفاته إلى الوراء، ترك الكرّاسات والسبورة، وغنّى لبنت المعاون... جوزيف صقر
"الجو" كما كان يحلو لزياد أن يناديه، رحل في يوم مولد زياد، في مطلع السنة عام 1974، تاركاً فراغاً اكتأب الرحباني الصغير على إثره، فهجر المسرح بعد مشوار امتدّ لربع قرن. كان صقر خلال تلك السنوات يعتلي خشبة المسرح ويغنّي كأنه يحكي، ويمثّل دونما جهد أو حتى دون أن يعطي الشخصية مبالاةً: "كان يتفرّج علينا طول الوقت وكأنو قاطع تذكرة وجايي يحضر، وبس يصير دوره وينسى كلمة يحط بدالها فوراً ويضحك عالإفّيه، يمكن كرمال هيك حبّتو الناس، كان طبيعي وقريب"، بحسب زياد.
عصفور بصوت صقر
يتحدث زملاء جوزيف والإعلاميون والأدباء والساسة عنه، لنلمس الغصّة جليّةً وهي تملأ حناجرهم. يرثون رحيله المبكر: "كل مرّة بحكي عن جوزيف، ببكي مرتين: مرة لأنو رحل، ومرة لأن ما عطيناه حقه اللي بيستاهله"؛ هكذا عبّرت الإعلامية والأديبة مريم شقير عن أسفها على رحيل صقر، ذاك العصفور بصوت الصقر الذي يخيم على المسرح، المتواضع والمحب للجميع الذي بادله الجميع المحبةَ لأنه غنّى لهم وبلغتهم
وعن صوته المطواع، يقول الفنان أحمد قعبور إنه شعر بالفزع حين أدى صقر أغنيات زياد بالجاز الشرقي، إذ كيف لهذا الصوت الجبلي الذي يؤدي العتاب بقوة، أن يلين ويصبح مطواعاً للجاز من دون تكلّف.
يروي الشاعر اللبناني طلال حيدر، تفاصيلَ جمعته بصقر، ويؤكد على أنه كان يرى الصوت ولا يسمعه، ويحرص على الاستماع إلى القرآن الكريم، ويتغزّل بصوت المقرئ: "يناديني فيقول تعال اسمع جمال الواو، تعال شوف هالنون اللي فتحت إيديها متل الحضن".
كما كان يشخّص المشهد من خلال صوته، فها أنا أرى سلة التين في البوسطة، والمدام البشعة... لا أحد يستطيع أن يكرر ما فعله جوزيف حتى فيروز! فهو من خلق البوسطة بصوته وأوجدها، فتفوّق بأدائه من دون أن يعرّب ومن دون أن يطرّب، على فيروز التي غنّتها من بعده في حفلاتها، والجدير بالذكر هنا أن أغنية "عهدير البوسطة"، كُتبت ولُحّنت لصقر فقدّمها في إحدى أعماله المسرحية مع زياد، ليؤكد الشاعر بقوله ما يردده زياد على الدوام: "لا حدا يفكر ياخد محل جوزيف ."
النفس المسرحي القريب من نفس سيد درويش، والذي قدّمه زياد وجوزيف، لامست حواراته الواقعية، ووارت الآراء السياسية بين الأسطر، حتى أنها ضمّنت الأغاني الدرامية فيه هموماً اقتصاديةً واجتماعيةً عانت منها الطبقة المسحوقة كما في أغنية "اسمع يا رضا".
كما ناقشت تلك الأعمال ويلات الحرب الأهلية في لبنان التي دهست برحاها التعايش السلمي.
لم يكن زياد وجوزيف مجرد شريكين في عمل فني، بل تعدّت العلاقة بينهما أسوار المهنة، لم يكترث صقر للنقاد الذين رأوا احتكاراً واضحاً لموهبته من قبل زياد، ولربما لو فعل لأغنى الموسيقى العربية أكثر، مثل ملحم بركات، وكارول سماحة
أغنية "يا زمان الطائفية"، والتي اعتُقل صقر على خلفيتها، إذ أوقفه المجلس الحربي في القوات اللبنانية في أثناء عودته إلى منزله في قرطبا مسقط رأسه.
وعلى خلاف عمه وأبيه، اللذين شذّبا الكلمات سواء في الحوار أو في الأغنية، آثر زياد اللهجة الشعبية فقدّمها وصقر بنكاتها الفجّة، وبعفوية مباشرة، متعمّداً بذلك تسليط الضوء على هموم طبقة المكسورين والمهمشين التي اتّسعت إبان الهزائم التي نالت من المنطقة، بدءاً من النكسة، مروراً بكامب ديفيد، انتهاءً بأحداث لبنان.
هل حَبَس زياد الصقر؟
ترك جوزيف المسرح مبكراً بعد أن امتطى سراج الموت المفاجئ، وكما اللحن الهادئ يريح الأعصاب ويمضي، رحل هو من دون أن ندري به كثيراً، ومن دون أن نعرف عنه التفاصيل، أو حتى نكلّف فضولنا عناء البحث وراءه، ونكتفي بالأغنية البسيطة التي تلامس واقعنا، وتحكي عن همومنا بتهكم وعبثية مضحكة أحياناً، ومبكية أحياناً أخرى، وهو التوصيف الذي أنكره زياد، معلناً أن البكاء لا يساعد القضايا المستعصية على الحلّ.
حين نستمع إلى جوزيف صقر الذي يرافق صوته على الدوام صخب زياد وضحكاته الهستيرية والكثير من الأحاديث الجانبية التي تفيد الهزل، نميّز أصوات الرصاص والمارش العسكري، لنتأكد أن ما أراده الثنائي اختلف عن السائد، وخرج عن إطار المألوف.
لم يكترث صقر للنقاد الذين رأوا احتكاراً واضحاً لموهبته من قبل زياد، ولربما لو فعل لأغنى المكتبة العربية الموسيقية أكثر، وللمع اسمه في ذاكرة الأجيال كما أسماء كبار فطموا أنفسهم عن الرحابنة، ليشقّوا طريقهم بأنفسهم كملحم بركات، وكارول سماحة، وغيرهما.
يقول المذيع: "الذي يعمل مع زياد لا يعمل مع سواه"، ليردّ صقر: "هناك دائماً الصحّ وهناك الأصحّ، وحين أستمع وزياد إلى هكذا قول، نضحك، فبيني وبينه اتفاق". ويؤكّد بذلك سعادته بتلك الشراكة التي راعت مزاجيته، وأطلقت العنان لشغفه، وكلّلتها بالحرية، وهي مقصد الثنائي ورجاؤهما الذي لم ينقطع.
ويبقى السؤال بلا إجابة شافية: هل تجود الثنائية الفنية على أصحابها، أم لا بدّ من قدرٍ يسيرٍ من الأنانية لتضمن الثنائية الفنية تفرّداً مستقلاً عن التماهي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...