أزمة نقل الكتب بين المحافظات، فضيحة الخسارات الرياضية، قنابل في دمشق وطرطوس، "وين البيض وين؟"، "صح خسرنا المباراة بس ربحنا خط الغاز!"، "لا تنسوا الكهربا بـ 2022"، "يوماً ما سننتقل من زنزانتنا الكبرى الوطن إلى الزنزانة الصغرى السجن"، "الحكومة سمحت باستيراد الموز، ضربة مُوجعة للحمضيات الإمبريالية".
هذه عباراتٌ مختصرةٌ من منشورات سوريين على فيسبوك، قد يبدو المشهد مضحكاً داخل العالم الأزرق، لكنه في الحقيقة يشبه الكوميديا الهزلية، أبطالها سوريون يقاومون للاستمرار، فالحال من بعضه، والجار للجار، و"ع طريقك وصلني"، علّنا نُنهي هذا اليوم بسلام.
أثّرت الظروف المادية في روتين الأشياء، من قهوة الصباح حتى هدايا عيد الأم والميلاد، فكيف تسير الحياة المعتادة، في غياب متكرر وطويل للكهرباء، والمياه، وفي اختفاء ريح دخان الميكروباص، وتلاشي رائحة اللحوم رويداً رويداً من المطابخ؟
الحياة في طريق الموت
يشعر سعيد بجسده يتصبب عرقاً، أثناء جلوسه في السيارة، منتظراً خطيبته، لا يمكنه تشغيل جهاز التكييف، لأن ذلك سيكلّفه المزيد من البنزين، الذي انتظر نحو أسبوعين للحصول عليه، يبدأ بالاتصال، مكالمة بعد أخرى دون انقطاع، وبينما يرن هاتف لمى، تقف في غرفة نومها، وتقول لأختها مريم: "بتراقبيها وما بتتركيها تبقى لوحدها فهمتي!".
تخرج لمى مسرعة، عليها نزول تسعة طوابق، فالكهرباء مقطوعة، والمصعد لا يعمل، وبطارية هاتفها تكاد تنفذ، تعلم تماماً، ماذا يعني أن يبدأ سعيد بالإلحاح، عليها الوصول قبل أن يغادر وحيداً لشراء هدية لوالدته بمناسبة عيد ميلادها الخمسين.
احتساء القهوة والاستماع للسيدة فيروز يعتمد على نسبة الشحن في بطارية الهاتف، وتوافر القهوة في المنزل
أما مريم كمال، فتاة في العشرين من عمرها، طويلة القامة، نحيلة الجسد، لا تفارق هاتفها المحمول، فهي مُغرمة بشاب صادفته في النادي الرياضي، سلب عقلها، لكنها قررت أن تركز تفكيرها مع أم تحسين، السيدة التي تعمل في تنظيف منزلهم، فبدأت بملاحقتها من غرفة إلى أخرى، كي تمنعها من تخبئة أي شيء في حقيبتها السوداء المهترئة، التي تساءلت العائلة مراراً عن سبب حجمها الكبير.
تحاول أم تحسين التملّص من مريم، علّها تحظى بقطعة بطاطا لابنها تحسين، الذي ينتظرها في البيت، أو القليل من المعسّل، تشعل به رأس الشيشة، وتؤنس وحدتها مساءً، إلا أن مريم لم تعطها الفرصة، التصقت بها في المطبخ، ثم في غرفة النوم، وأخيراً على الشرفة.
تشعر أم تحسين بالضيق، وتصيح في وجهها: "اقعدي بقى والله هلكتيني".
تقول أم تحسين (44 عاماً) لرصيف22: "أعمل في التنظيف منذ الساعة التاسعة صباحاً وحتى الرابعة ظهراً، أتقاضى 20 دولاراً شهرياً، أدفع نصفهم مواصلات بين القرية ومدينة اللاذقية، كيف سأكمل حياتي على هذا النحو؟".
"عندما تسنح الفرصة أخبئ بعض الطعام لابني، أشعر أنهم يعلمون، لكنهم يتغاضون لمعرفتهم بحالي، أحياناً صاحبة المنزل تعطيني الطعام الزائد، فلا أمد يدي أبداً".
تشبك أم تحسين يديها ببعضهما، وتروي قصتها هي الأخرى: "أرتدي ملابس العمل، أضع القبعة أثناء الطهو، ملابسي بيضاء خلافاً ليومي الأسود، أصارع لتوفير لقمتي، أحياناً أشعر أنني منهكة القوى".
تضيف: "أسقطتُ دون قصدٍ الرماد في صحن الطعام، تذكرت كلمة قالها لي طباخ مخضرم في مطعم عملت به سابقاً، إن ذلك رمزٌ يوحي بأن الحياة تسير في طريق الموت".
أما لمى كمال (37 عاماً)، تقول لرصيف22: "تعمل أم تحسين في منزلنا منذ ثلاثة أعوام، لاحظت منذ عدة أشهر أنها بدأت بتخبئة الطعام أثناء غيابنا، ندرك حالها الصعب، غلاء الأسعار، صعوبة الحياة داخل سوريا، أحياناً تدعها أمي تأخذ ما تشتهي، ونراقبها أحياناً أخرى".
ترى لمى أن حال أم تحسين ليس أسوأ بكثير من حالهم، رغم أنها تعمل في مدرسة إعدادية، ولديها بعض الطلاب، تعطيهم دروساً خاصة، إلا أنه "مهما كان راتبك مرتفعاً، لن يزيد عن المائة ألف ليرة سورية شهرياً، مبلغ زهيد مقارنة بارتفاع الأسعار، لم تعد المشكلة في نقص الخدمات، بل في رهاننا على قوتنا، والحقيقة المتمثلة بعجزنا القريب عن الاستمرار".
تحكي لمى رحلتها في السوق مع خطيبها: "اتجهنا إلى سوق الأميركان، بعد جولة قصيرة في محلات الألبسة، اكتشفنا أن المبلغ المخصص للهدية غير كافٍ، قررنا التوجة إلى سوق هنانو، لكنه لم ينقذنا أيضاً، إلى أن وجدنا أنفسنا نقف أمام البسطات في سوق العنابة".
الطعام أفضل الهدايا
تأفف سعيد من غلاء الأسعار، قال لخطيبته: "دعينا نرفع المبلغ قليلاً، لكن مهما كانت الزيادة، لن تغطي الارتفاع".
أثناء جداله مع لمى تصله مكالمة هاتفية، يأتيه صوت والدته عبر الهاتف المحمول، تقول: "إذا كنت بالسوق عم تشتري لي هدية، فأحلى هدية رح تفرّحني هي الفروج"، أي الدجاج.
تقول لمى: "بعد جائحة كورونا، وما تلاها من ارتفاع غير مسبوق للأسعار، تغيّرت عادات الشراء والاحتفال، تبدل سلوكنا الاستهلاكي، أصبح الطعام يُصنف ضمن قائمة هدايا أعياد الميلاد والزواج وغيرها، خاصة للوالدين، يغمرهما الفرح عندما نهديهما لحوماً أو فواكه أو أرزاً، بدلاً من الألبسة والأحذية و التُحف المنزلية".
"يتملكني شعور ناعم عجيب، وهو الإحساس بكل هذه اللامبالاة المبهجة، أراقب الناس... وأترك كل تفصيلة تتغلغل في نفسي وتختفي"
تغيرت صباحات السوريين، أضحى عنوانها "التقنين"، أي تقليل كم المشتريات، حتى طقوس احتساء القهوة والاستماع للسيدة فيروز يعتمد على نسبة الشحن في بطارية الهاتف، وتوافر القهوة في المنزل، فسعر كيلو القهوة بلغ 12 دولاراً، أما فنجان القهوة السريعة في الشارع ارتفع إلى 1000ليرة سورية، أي أقل من دولار.
ماذا عن الأعراس؟ أصابها "التقنين" أيضاً، ولغيت معظمها، ضيوف الأعراس يتم اختيارهم من أصحاب الجيوب الوفيرة، الذين يقدمون هدية دسمة للعروسين. تغير فكرنا الاستهلاكي، عادات توارثناها عن آبائنا كدعوة الجار إلى فنجان قهوة، أو شراء هدية لشخص مريض، أو الاحتفال بمولود جديد، كلها تخضع للتقنين، في ظل فقدان الأولويات، لا مكان للكماليات في حياتنا اليومية.
"لا تنظري للخلف"
سوسن عبود، سيدة في الخمسين من عمرها، هجرها زوجها، تاركاً وراءه طفلتين، لا تهتم بماضيها، بقدر اهتمامها بالخروج عند الساعة الثامنة والنصف تماماً كل صباح، علّها تصادف جارتها هيلين، زوجة الدكتور نعيم، وتقلّها في سيارتها إلى العمل.
تسمع سوسن صوت الباب الخارجي، تسارع وتفتح باب منزلها، لكنها لا ترى أحداً، تركض مسرعة، تجتاز السلالم، تحوّل نظرها بين مدخل البناء والحديقة، تبحث عن سيارة هيلين، لكن ما من شيء، في الجهة الأخرى من الحديقة، تختبئ هيلين وراء الشجرة مع ابنتها، وتقول: "لا تنظري للخلف، لا تتحركي، لا يمكنني إيصالها اليوم".
تقول سوسن لرصيف22: "الحيلة هي الحل الوحيد للاستمرار في دمشق، وإلا سيكون الانتظار عنوان يومنا، انتظار الباص، الكهرباء، المياه، أو انتظار أحد الجيران ليمد يد المساعدة، ويوصلني إلى عملي، لكنهم يحاولون الهروب، لسوء حظي لم ألحق بهم اليوم".
أما هيلين فترى أنه من واجب الجار مساعدة جاره، خاصة مع تفاقم أزمة المواصلات في مدينة دمشق، إلا أن المشكلة غلاء البنزين، وصعوبة الحصول عليه عند نفاذه، خصصوا 25 لتر بنزين كل 10 أيام للسيارات الخاصة، يصل سعرها إلى 19 ألف ليرة سورية، لذلك أحرص على "تقنينه"، تقول: "مكان عمل سوسن بعيد عن مكان عملي، أيضاً أشعر أنه اختراق لخصوصيتي، لذلك أتهرّب منها أحياناً، وأقلّها أحياناً أخرى".
الجوع للحياة
يقول الفيلسوف الدينماركي كير كيغارد: "إذا بدأ أي شعب بصناعة وإنتاج النكتة، فاعلم أنه بدأ يشعر بالجوع والفقر"، هذا ما يظهر جليّاً في منشورات السوريين على الإنترنت، وفي حياتهم اليومية، فالجوع أضحى جوعاً للحياة الآدمية وليس للطعام وأساسيات الحياة فقط، جوع يُنبئ بغياب اليقين، وفقدان الاستقرار، وخسارة ما لا يمكن تعويضه، تلك الأجزاء النبيلة في أعماقنا، التي ما زالت ترفض الاعتياد على حالة الرعب اليومية في شوارع سوريا وداخل أسواقها الباهظة، وأمام مواقف الميكروباصات التي أضحت رفاهية.
"ليس في خاطري أبعد من رياضة صباحية في الهواء الطلق".
ترفض سوسن التفكير في الماضي، كما أن الحديث عن المستقبل يرهقها، لذا عثرت على طريقها الخاص في الهروب، تقول: "ليس في خاطري أبعد من رياضة صباحية في الهواء الطلق، يتملكني شعور ناعم عجيب، وهو الإحساس بكل هذه اللامبالاة المبهجة، أراقب الناس الذين أقابلهم وأمر بهم، اقرأ إعلانات الحيطان، أتلقى وقع نظرات ركاب الميكروباص، أثناء جلوسنا أربعة أشخاص في مقعدين، أترك كل تفصيلة صغيرة تتغلل في نفسي، ولو كانت من أصغر الأشياء التي تقع في طريقي وتختفي".
وكان المكتب المركزي للإحصاء في سوريا، أعلن في شهر شباط/ فبراير 2021، أن الرقم القياسي لأسعار المستهلك تجاوز 2000 في المئة، خلال الأزمة التي تعيشها البلاد منذ نحو عشر سنوات.
ونقلت صحيفة "الوطن" السورية عن مدير إحصاءات التجارة الخارجية والأسعار في المكتب، بشار القاسم، أن الرقم القياسي لأسعار المستهلك وصل إلى 2107.8 في المئة، حتى شهر آب/ أغسطس من العام 2020، مقارنة بالعام 2010 (ما قبل نشوب الحرب التي تشهدها البلاد).
وحذرت وكالات إغاثة التابعة للأمم المتحدة، العام الماضي، أن سوريا تواجه أزمة غذاء غير مسبوقة، حيث يفتقر أكثر من 9.3 مليون شخص إلى الغذاء الكافي، وقال برنامج الأغذية العالمي في إفادة في جنيف، إن عدد الأشخاص الذين يفتقرون إلى المواد الغذائية الأساسية ارتفع بواقع 1٫4 مليون في غضون الأشهر الستة المنصرمة.
ويبلغ مرتب الموظف في سوريا مابين 50 إلى 100 ألف ليرة سورية شهرياً، إلى جانب شريحة ثانية تعمل بأجر يومي ضئيل، وفي المقابل تطفو شريحة أثرياء سوريا، التي تنقل للفقراء يوميتها المُترفة عبر قصصها على فيسبوك وانستغرام.
وكانت منظمة مكافحة الفقر "أوكسفام" كشفت في تقرير بعنوان "فيروس الجوع يتكاثر"، نشرته في 9 تموز/ يوليو، أن 11 شخصاً يموتون من الجوع كل دقيقة، فيما تصدرت سوريا دول العالم التي يعاني سكانها الجوع بنسبة 60%.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...