"بين أثداء النساء تكمن الحرارة المثالية للشرانق حتى تفقس". هكذا يبدأ فيلم "يرقة" للبنانيتين ميشال ونويل كسرواني الذي يتحدث عن الإرث الثقيل الذي تحمله النساء من الاستعمار، ومن الرأسمالية ومن الحروب والذكورية على مدار عقود من الزمن.
يربط الفيلم الذي عُرض في مهرجان برلين السينمائي الدولي ضمن دورته الثالثة والسبعين، في فئة الأفلام القصيرة، تاريخَ مدينة ليون الفرنسية ببلاد الشام عامةً٫ جبل لبنان خاصة٫ في صناعة الحرير، إذ لجأ تجار الحرير الفرنسيون إلى الاستثمار في بلاد الشام لصناعة الحرير بعد مرض أصاب زراعتهم، فأغروا المزارعين المحليين بزراعة أراضيهم بأشجار التوت التي تتغذى منها دودة القز، كما استغلوا فتيات قاصرات مقيمات في دور الأيتام للعمل في معامل الحرير، لأن أيديهن "أصغر وأمهر".
استغلال النساء
بنت ميشال كسرواني نصَها الذي كتبته بين فرنسا ولبنان على بحث عن العلاقة بين لبنان وفرنسا، وتحديداً في مجال صناعة الحرير، وكيف أن هذه الصناعة، كما غيرها من الصناعات، تستغل النساء ودفء أجسادهن وضآلتها في صناعة منتج فخم وفاخر لا يستطعن هن ارتداءه.
تم استلهام القصة من مقال للكاتب والباحث اللبناني فواز طرابلسي بعنوان "Un Amour de Soie" (حب الحرير. بيروت-إكسبريس-1996) يستكشف العلاقة بين النساء من جبل لبنان ومصانع الحرير الأجنبية في القرن التاسع عشر. بالإضافة لبحث في الأرشيفين الفرنسي واللبناني في الأمثال الشعبية التي جاءت مواكبة لهذه الحقبة، إذ خرجت النساء للمرأة الأولى للعمل مقابل راتب، وليس كما يفعلن دائماً في الحقل وفي المنزل.
من هذه الأمثال: "اللي بتطلع السمرا بيحطلها بودرة وحمرة"٫ في إشارة لامتلاك المرأة المال لتشتري لنفسها أدوات تجميل وماكياج، هذا بالإضافة للتاريخ الاقتصادي الذي يذكر أن المزارعين الذين أغراهم الأوروبيون بزراعة أراضيهم بشجر التوت، لم يجدوا ما يفعلونه بهذه المزارع التي بارت بعد أن غادر هؤلاء المستثمرون إلى بلدان أقل تكلفة، بل وأصبح ينافسها الحرير الصناعي فيه أيضاً.
"بين أثداء النساء تكمن الحرارة المثالية للشرانق حتى تفقس". هكذا يبدأ فيلم "يرقة" للبنانيتين ميشال ونويل كسرواني الذي يتحدث عن الإرث الثقيل الذي تحمله النساء من الاستعمار، ومن الرأسمالية والحروب والذكورية على مدار عقود من الزمن
في لبنان، اشتهر حرير طرابلس ببياضه الناصع٫ فكان يستخدم في التطريز المذهب والفضاض، واستخدم حرير الشوف في صناعة الأنسجة المخملية. بينما كان حرير بيروت يدخل في صناعة أقمشة التفتا وأغطية الفرش والستائر.
المشترك هو القهر
بالعودة للفيلم الذي تخرجه الشقيقتان، تمثل إحداهما (نويل) دور البطولة إلى جانب ماسا زاهر٫ قصة فتاتين هجرتا بلديهما بكل ما تحمله هذه الهجرة من تروما وصدمات نفسية إلى فرنسا حيث تعملان في نفس المقهى؛ إحداهما تداهمها نوبات الفزع، والأخرى تتخطى هذه النوبات بالرقص والصراخ في وجه الخوف. على أن المشترك بين حاضريهما وبين الماضي هو القهر والتسلّط، اللذان تعانيهما المرأة.
لكنّ الجمع بين الزمنين كان غير مباشر، ولكنه يتضح في الربط بين قصة الفراشة ودودة وبين الفتاتين اللتين تتفتحان من يرقتين لفراشتين، ومن ماض استغلالي من قبل المستعمر إلى حاضر يائس تنهار فيه دولة وتنهض أخرى عاشت من خيرات الأولى لعقود.
يُظهر الفيلم ما يجمع هاتين الفتاتين من ألم وثقل تاريخيين إلى وقت تصوير الفيلم، بالإضافة لكونهما تتلمسان تلك المواجهة التي تتطلب منهما كسيدتين في ظل ظروف صعبة اقتصادية وسياسية واجتماعية، خصوصاً في الغربة.
بعد ليلة تقضيانها معاً في المشي في شوارع مدينة ليون الفرنسية، وربما على طريق الحرير، منذ غروب الشمس حتى مطلعها في اليوم التالي، تقترب إحداهما من الأخرى، وتتشاركان الهموم والدمعات والضحكات وزجاجتي بيرة، وسندويشتي فلافل، لتؤسسا لعلاقة حقيقية، تشعر كل منهما أنها تعرف الأخرى منذ الطفولة.
ينتهي اليوم برقصة العنكبوت/الفراشة في أحد المتاحف أمام لوحات تاريخية ضخمة تعكس التاريخ الاستعماري لفرنسا، واستغلال النساء، وتشييئهن، وإظهار جمالهن أيضاً.
عندما تصاب "سارة" (نويل كسرواني) بنوبة الهلع، يعود بنا الفيلم إلى مشاهد من انفجار بيروت 2020، ومشاهد من حِراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في إشارة لكمية الخراب والتشويش والألم الذي تحمله في داخلها.
استُلهمت قصة فيلم "اليرقة" من مقال للكاتب فواز طرابلسي بعنوان "Un Amour de Soie" (حب الحرير) يستكشف العلاقة بين النساء من جبل لبنان ومصانع الحرير الأجنبية في القرن التاسع عشر
عن المشاركة في برليناله قالت كاتبة العمل ميشال كسرواني لرصيف22: "المهرجان هو فرصة لعرض الفيلم أمام عدد كبير من الأشخاص خارج دوائرنا التي أعتدنا عليها من الفنانين/ات، والتي نحس فيها بالأمان، خصوصاً أن الفيلم يعالج موضوع الهجرة والغربة. فمن المهم أن نتعرف على وجهة نظر ورأي الجمهور الذي لا تربطه علاقة بالهجرة، وكذلك الجمهور من بلدان أخرى وثقافات مختلفة، بالإضافة للجمهور الذي تربطه بالفيلم قصة الهجرة أو اللجوء".
وأضافت: "أنا ونويل متعودتان على التواصل مع الجمهور من خلال الأغاني السياسية التي ننتجها، والتي تعنى بالوضع في لبنان، ومحتواها سياسي بحت، فيما اليوم نحن نعرض فيلماً مقدماً بطريقة مختلفة، أطول مما تعودنا عليه، وعلى شاشة أكبر، وهذا ما يفتح لنا المجال لنعمل المزيد من الأفلام، لأن ما نريد أن نقوله أصبح أكثر وأكبر. وقد تكون الأفلام طريقتنا في توصيل هذه الأفكار وإن كنا سنستكمل العمل على الأغاني".
واستكملت كسرواني: "الأفلام تتطلب منا البحث أكثر فأكثر، وتطوير الأفكار، سنكمل في انتاج أفلام قصيرة، لأننا اكتشفنا أنه شكل حر لا يكلف الكثير من المال لإنتاجه وفي نفس الوقت بإمكاننا التعبير عن نفسينا، وهو بداية الطريق التي قد تقودنا للأفلام الطويلة".
الفيلم من إنتاج ديوبيريز فيلم وبينالي ليون، شاركت الشقيقتان كسرواني وماسا زاهر في كتابة الحوار، وأدارت مارين ڤيلانت الإنتاج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...