تحولت تركيا إلى وطن بديل للسوريين على مدى الأعوام السابقة، وتحديداً في ذروة النزاع السوري الذي ساهم بشكل كبير في هجرة واستقرار أكثر من أربعة ملايين لاجئ، توزعوا في ولايات مختلفة على امتداد الجغرافيا التركية، وتحديداً في الولايات الجنوبية المتاخمة للحدود مع سوريا، ومع مضي سنوات الثورة السورية من دون أي بوادر حل للنزاع، فرضت عليهم ظروف الحياة التأقلم والتعايش ضمن المجتمع المُضيف، فراحوا يبنون أعمالهم الخاصة في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية وأعمال البناء وغيرها، وينخرطون في الجامعات التركية بمختلف اختصاصاتها.
بعد الزلزال المدمر الذي ضرب ولايات جنوبية عدة، في 6 شباط/ فبراير الجاري، وأدى إلى وفاة عشرات الآلاف، وتسجيل خسائر مادية فادحة في المجتمعين التركي والسوري، وجد السوريون أنفسهم أمام مفترق طرق في إيجاد حل لتجاوز الكارثة التي استهدفت أرزاقهم ونالت من بيوتهم ومحالهم في مشهد مكرر لما يطلق عليه السوريون التغريبة السورية، وما تتضمنه من فصل جديد سترسم ملامحه الأيام القادمة مع ما تحمله أيضاً من خيارات، باتت تضيق أكثر فأكثر.
بعد الزلزال المدمر الذي ضرب ولايات جنوبية عدة، وجد السوريون أنفسهم أمام مفترق طرق في إيجاد حل لتجاوز الكارثة
مستقبل مجهول
أبو حسان البيطار (33 عاماً)، واحد من السوريين الذين لم يعودوا يملكون خيارات كثيرةً للبقاء في مدينة غازي عينتاب التركية، بعد الزلزال الذي أدى إلى انهيار أعداد كبيرة من الأبنية والمحال التجارية ومن ضمنها المطعم الذي كان يعمل فيه.
بحسرة وألم يروي أبو حسان، لرصيف22، تفاصيل أيامه الأولى بعد الكارثة، ويقول: "منذ أول يوم في الزلزال وأنا مقيم مع أسرتي في المسجد، واليوم يمضي على الكارثة أكثر من أسبوعين من دون أن أتمكن من العودة والاستقرار في منزلي في الدور الرابع في منطقة ‘بينفلار’، فالأوضاع غير مستقرة في الأبنية العالية، والكثير منها يسقط على إثر الهزات الارتدادية، كما أن التدفئة غير متوفرة والجو بارد، لذا آثرت البقاء في المسجد حالياً".
دخل أبو حسان تركيا في العام 2018، مع أسرته المكونة من زوجته و3 أطفال، بغرض العلاج من آثار إصابتهم بغاز الكيماوي، الذي أطلقته قوات النظام في حملتها الأخيرة على دوما في ريف دمشق أوائل العام 2018، ليستقر مباشرةً في عينتاب متوجهاً إلى سوق العمل، حيث اشترى دراجةً ناريةً وبدأ بالعمل ضمن أحد المطاعم لتوصيل الطلبات، إلا أنه مع كارثة الزلزال الأخيرة يبدو أن احتمالات بقائه في المدينة باتت على المحك.
يتابع: "منذ قدومي قررت فتح صفحة جديدة للعيش باستقرار مع أسرتي بعد سنوات عصيبة مرت علينا في ريف دمشق، أيام حصارها من النظام، لقد حاولت العمل في مهن عدة، لكن وجدت هذه المهنة هي الأنسب لوضعي الصحي، أستطيع القول إني أعيش على الكفاف من دون الحاجة إلى أحد، لكن اليوم تشير إلي زوجتي وأولادي بالمضي نحو إسطنبول"، متسائلاً: "كيف لي الذهاب إلى إسطنبول؟ وإلى أين؟ فهذا القرار يحتاج إلى بنك من الأموال، من أجرة طريق وأجرة منزل ومصاريف أخرى، ومن هذه المصاريف لا أملك إلا ألف ليرة تركية".
وبدأ قطاع إيجار المنازل يشهد ارتفاعاً ملحوظاً، خاصةً باتجاه العمق التركي والولايات الوسطى والشمالية مقارنةً بالولايات الجنوبية، إذ يتراوح إيجار المنزل في مدينة كإسطنبول ما بين 400 إلى 600 دولار في المناطق البعيدة عن الوسط والمتطرفة، مع الأخذ بالحسبان أن الدفع يكون نصف سنوي أو سنوياً، بالإضافة إلى مصاريف أخرى كالتأمين والوساطة العقارية وهو ما يشكل هاجساً أمام المنكوبين السوريون الذين خرجوا بثيابهم.
أوروبا خيار لا مفر منه
يحيط مستقبلَ الأسر السورية غموضٌ أمام انتقال كثيرين منهم إلى ولايات أخرى نتيجة منع الحكومة التركية إصدار تصاريح الإقامة الجديدة، وعدم إتاحة المجال لنقل قيد السكن بين الولايات التركية، بالإضافة إلى حالة التخبط الذي تعيشه الحكومة التركية تجاه ملف السوريين وطريقة التعامل معهم بعد كارثة الزلزال.
لن أعود إلى تركيا مهما جرى، سأفعل أي شيء للبقاء مع أولادي في فرنسا، الوضع الأمني في الشمال السوري سيئ جداً، وتركيا إن لم تُعد السوريين اليوم إلى حضن النظام ستعيدهم غداً
توجه محمد العلي، برفقة أسرته من مكان إقامته في أنطاكيا إلى منزل عمته في مرسين، بعد أن تهدّم منزله في حي المزرلك وسط أنطاكيا، وبقي يومين في العراء بحثاً عن بعض الأموال التي كان يدّخرها ضمن ركام بيته. يقول لرصيف22: "لم يعد البقاء في تركيا مفيداً لنا، لقد عدت إلى الصفر للمرة الثالثة، الأولى عندما خسرت كل شيء إبان حكم تنظيم داعش لتدمر في محافظة حمص، والثانية في العام 2019 عندما ألزمت الحكومة التركية اللاجئين في إسطنبول بعودة كل من يحمل الحماية المؤقتة إلى مكان إصدار ولايته، وهذه الثالثة".
ويضيف: "حاولنا التأقلم مجدداً في أنطاكيا برغم وجودي خمس سنوات في إسطنبول، وكوّنت علاقات إيجابيةً مع المحيط الاجتماعي، وتعلّمت اللغة التركية، إلى جانب أولادي الجامعيين ونجحنا في التخلص من آثار الحرب السورية وعشنا حياةً مستقرةً".
اليوم، يرفض العلي التوجه نحو المخيمات التي تقيمها إدارة الكوارث والطوارئ (آفاد)، أو مراكز الإيواء، إذ لا فائدة من وجوده هناك، حسب تعبيره، وليست مصيبته متعلقةً ببطانية أو سلة غذائية أو خيمة يقيم فيها، لافتاً إلى أنه بات يفكر جدياً في التوجه إلى هولندا وحده كمرحلة أولى، ومن هناك يبدأ بمعاملة لمّ شمل أسرته، معللاً السبب بهول المأساة التي عاشها في أنطاكيا، وبأن الجو العام في تركيا لم يعد مساعداً لبقاء السوري ضمن الأراضي التركية، ولا المجازفة بحياة جديدة قد تنهيها القوانين التركية أو الحكومة الجديدة الراغبة في إنهاء ملف اللاجئين وإعادتهم إلى سوريا، فضلاً عن رغبته في تحصيل ابنه الشهادة الجامعية التركية وخصوصاً أنه على أبواب التخرج.
نقطة الصفر
بدأ قسم واسع من السوريين من حاملي بطاقة الحماية المؤقتة الصادرة من الولايات المنكوبة بالتوجه إلى الشمال السوري
بعد القرار الصادر من الحكومة التركية القاضي بمنح إجازات للسوريين المقيمين في جنوب تركيا لمدة تتراوح بين 3 و6 أشهر، بدأ قسم واسع من السوريين من حاملي بطاقة الحماية المؤقتة الصادرة من الولايات المنكوبة بالتوجه إلى الشمال السوري، وجاء ذلك بعد منع الحكومة التركية زيارات السوريين منذ أكثر من سنتين بسبب التجاذات السياسية حينها مع المعارضة، ما وجده السوريون فرصةً للاستراحة من هول الكارثة الأخيرة وزيارة أقاربهم.
ترفض أم عبد الرحمن صبرا (45 عاماً)، العودة إلى الشمال السوري والبدء من نقطة الصفر وهي التي تكلفت أكثر من 20 ألف دولار للخروج منه برفقة أولادها الأربع قبل سنتين تقريباً، بعد محاولات عديدة عبر الحدود، أملاً منها بحياة مستقرة وطمعاً في حصول أولادها على مقعد دراسي ضمن الجامعات التركية.
وتروي لرصيف22، أنه لم يعد بإمكان اثنين من أولادها العودة إلى أعمالهما في محل الحلويات الذي قرر صاحبه إغلاقه والتوجه نحو إسطنبول، مضيفةً: "لقد طلب صاحب المحل منهما التوجه معه إلى إسطنبول إن كانا يرغبان في الاستمرار في العمل وتعلّم المهنة، إلا أنني رفضت ذلك بسبب وضعهما غير القانوني من ناحية وثيقة الحماية المؤقتة، وبسبب عدم رغبتي أصلاً في ابتعادهما عني".
وتوضح أم عبد الرحمن أن مشروعها القادم هو الخروج من تركيا نهائياً، خاصةً أن ابنها الأكبر الذي يعيش في فرنسا قد بدأ بمعاملة إرساله دعوة لهم لزيارته هناك، بعد سماح الحكومة الفرنسية إلى جانب عدد من دول الاتحاد الأوروبي بزيارة السوريين المنكوبين أو الأتراك، بشرط وجود دعوة رسمية من أقارب موجودين ضمن أراضي الاتحاد الأوروبي، ولمدة 90 يوماً.
"لن أعود إلى تركيا مهما جرى، سأفعل أي شيء للبقاء مع أولادي في فرنسا، أولادي في سن الخدمة الإلزامية ولا يمكن العودة إلى دمشق، والوضع الأمني في الشمال السوري سيئ جداً، وتركيا إن لم تُعد السوريين اليوم إلى حضن النظام ستعيدهم غداً، سأستشير محامياً حال وصولي إلى هناك، ولن أعود مهما كلفني الأمر"، تختم أم عبد الرحمن حديثها.
مواجهة المصير
تغيب الجهات السورية المسؤولة والمنظمات الفاعلة عن مشهد السوريين المنكوبين في تركيا، أمام ما يحيط بهم من وضع معيشي واجتماعي متدهور يزداد سوءاً، ما يجعلهم هائمين على وجوههم ومذهولين، وسط انحسار السبل المتاحة لإعادة تنظيم حياتهم من جديد.
خيارات المجتمع السوري باتت محدودةً، فهناك سياق عام قبل الزلزال رافض لوجودهم متفق عليه ما بين السلطة الحاكمة والمعارضة، خاصةً أن هذه الكارثة ستحوّل وجودهم إلى محل استثمار سياسي مضاعف
ويرى الاستشاري القانوني والمهتم بشؤون اللاجئين في تركيا، غزوان قرنفل، في حديثه إلى رصيف22، أن "خيارات المجتمع السوري باتت محدودةً، فهناك سياق عام قبل الزلزال رافض لوجودهم متفق عليه ما بين السلطة الحاكمة والمعارضة، خاصةً أن هذه الكارثة ستحوّل وجودهم إلى محل استثمار سياسي مضاعف".
ويضيف: "السوريون اليوم يعيشون في حالة يُرثى لها، فمن لم ينجُ من تحت الركام، فقدَ عمله، ومن غادر ولايته خسر فرصة عمله وعليه البدء بحياة مجهولة المستقبل، كما أن الحدود نحو أوروبا مغلقة في وجههم، وسط غياب الجهات والمنظمات التي تدافع عنهم وعن وجودهم، وتتكفل بمعالجة قضاياهم".
"الأيام القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت وستكون هناك صعوبة في التأقلم ومواجهة قرارات جديدة للحكومة التي ستكون عكس ما يشتهي السوري، أضف إلى ذلك أن المزاج الشعبي التركي رافض لاهتمام السلطة بالسوريين على حساب الأتراك في هذه الكارثة"، يختم قرنفل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...