شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"الأراجوز"... الفن الشعبي الذي خسر لسانه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 13 ديسمبر 202211:09 ص

ما معنى أن يتعرض فن ما للاندثار أو يوصف بأنه فن منقرض؟ المعنى الأول، والصريح المباشر، هو ألا يصبح لهذا الفن أي حضور أو وجود على الأرض في هذه اللحظة، ولا يمارسه أي إنسان بأية صيغة من الصيغ. أما المعنى الثاني، الضمني المجازي، فهو أن يفقد هذا الفن أبرز خصائصه وسماته المميزة له، التي تُكسبه ماهيته وحيويته، فلا يتبقى منه سوى هيكل خارجيّ هشّ، لا يحمل روحاً ولا نبضاً، ولا يرتقي إلى أن يكون جسداً كامل الأوصال والأوصاف.

لكم هو أمرٌ طيّب ومحمود حقّاً، أن تُسفر جهود المبدعين والفنانين والمختصين المعنيين بالتراث، خلال الفترة القريبة الماضية، عن اعتماد "الأراجوز المصري" ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي لمنظمة اليونسكو الدولية، كما جرى وضعه على قائمة الصون العاجل، كأحد الفنون الأصيلة العريقة، التي تجب حمايتها من التلاشي والتآكل.

فن الأراجوز

هكذا، وفق المعنى الأول للاندثار، فقد تم إنقاذ فن الأراجوز (الدمية المصنوعة من الجلد)، فهو لا يزال موجوداً وقائماً، بأيدٍ محلية، ورعاية دولية. بل إنه، وهذا أمر طيّب ومحمود أيضاً، أن تقام له بين الحين والآخر عروض رسمية وأهلية، بمعرفة وزارة الثقافة المصرية، ومؤسسات أخرى وجهات وهيئات مستقلة.

لم يسلم الأراجوز الجديد مما نال البشر من صمت وجمود، فصار مسخاً مشوّهاً، وخسر لسانه الاستثنائي في معركة الفن والحياة معاً. وبالتالي، فهو بوجهه المصنوع، أقرب إلى صفة الانقراض


كما تقام له مهرجانات متخصصة، كان آخرها "مهرجان الأراجوز المصري الثالث" في "بيت السناري" بالقاهرة، في أغسطس/آب 2022. وهو المهرجان الذي نظّمته فرقة "ومضة " لعروض الأراجوز وخيال الظل، بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية، تحت شعار دعم جهود حفظ فن الأراجوز كعنصر ثقافي مهم، واستمرار الإجراءات المعززة له، بوصفه كنزاً فنيّاً إبداعيّاً راسخاً.

لكنْ، هل تكفي هذه الأمور، وحدها، للقول باستعادة الأراجوز؟ وهل تعني هذه المناسبات الكرنفالية، التي يظهر فيها الأراجوز بثوبه العصري الجديد، الإقرار بأنه فن اللحظة الراهنة، المتوهج، المؤثر، الفاعل، مثلما كان في عصور سابقة؟ والسؤال هنا بالتأكيد يخص المعنى الثاني للاندثار، وهو المعنى الضمني المجازي، الذي يجعل حضور الفن مرادفاً لاحتفاظه بخصائصه وسماته ومميزاته، دون انتقاص أو تقييد أو توجيه أو بتر لأحد العناصر الأساسية لهذا الفن. فماذا عن أراجوز اليوم الحالي؟ وهل يحمل من الفن جوهره الداخلي المتّقد، أم تراه يتمسح ظاهريّاً بالشكل؟!

الأراجوز هو رمز الرفض والمشاكسة والانفلات والاقتحام ومواجهة القسوة والقهر والقيود، وهو كائن حاد الطباع، صريح إلى أبعد حدّ، لا يقبل الحلول الوسط، لأنه نموذج يحاكي شخصية "ابن البلد" في مصر

مما لا شك فيه، أن لسان الأراجوز، الحر، الجريء، الانتقادي، الساخر، المتهكم، البذيء أحياناً، هو أحد أبرز مفرداته، إن لم يكن العلامة الأبرز على الإطلاق لهذا الفن. فبهذا اللسان، الذي ينطق الكلمات بطريقة خاصة جدّاً، ينحاز الأراجوز للعاديين والبسطاء من أفراد الشعب، ويتبنى قضاياهم، ويعبّر عن همومهم وأزماتهم، ويوجّه سهامه اللاذعة، وربما شتائمه الطريفة، دون أي محاذير أو أسقف أو خطوط حمراء، إلى القوى التسلطية ومراكز النفوذ والطغيان والفساد المتنوعة، ليحصد في ختام العرض المسرحي الشعبي ضحكات المتفرجين عن استحقاق، وكذلك يجني تصفيقهم النابع من القلوب، فمصداقية التفاعل والمحبة من جانب الناس هي انعكاس لمصداقية الأراجوز نفسه، في القول والأداء.

العروض الحديثة

عروض الأراجوز الحديثة تكاد تلتزم بما هو آمن وغير صدامي من موضوعات، فلا يهمها إثارة الجدل والغوص تحت الجلد وتبنّي قضايا مصيرية وجوهرية وشائكة، وإنما تدور هذه العروض غالباً، حول مواقف اجتماعية وأسرية وشخصية طريفة، لتفجير الضحك من أجل الضحك، والوقوف عند النكات والقفشات و"الإيفيهات"، على غرار المسرح التجاري.

كما تناقش الندوات والحلقات التنظيرية المتعلقة بالأراجوز، في المهرجانات وغيرها، محاور آمنة وغير صدامية بدورها، كتكنيك الراوي، وبناء اللغة المسرحية، وأثر الأراجوز في الفنون التشكيلة والبصرية، كما حدث في "مهرجان الأراجوز المصري" الأخير، على سبيل المثال. وهذا المهرجان نفسه، قد دارت عروضه حول مواقف ومشاهد اجتماعية عامة، وحكايات خيالية وأسطورية، كقصة الصياد والتمساح حول قيمة التعاون بين البشر "كلنا يد واحدة"، وما إلى ذلك من مدارات.

تدور عروض الأراجوز غالباً، حول مواقف اجتماعية وأسرية وشخصية طريفة، لتفجير الضحك من أجل الضحك

إن الأراجوز التراثي، صاحب الطرطور الأحمر والجلباب الطويل والصوت العجائبي، هو تاريخ كامل للنضال والمقاومة والرغبة في التغيير، على كل الأصعدة. وإن صوته الغريب، الذي يصدر بواسطة قطعة نحاسية يضعها لاعب الأراجوز في فمه وهو يتكلم، هو تعبير عن مخالفة الأصوات السائدة، وتحطيم الثوابت، وكسر المحظورات؛ في الرؤية والتفكير والمنطق.

أما الدراما الانتقادية، الفكاهية والغنائية، التي يطرحها الأراجوز، فهي مزيج من النصوص الشفاهية المحفوظة والمؤلفة وكذلك المرتجلة لحظة العرض، والتي تأتي عادة مشحونة بالصراعات، ومهتمّة بأكثر القضايا سخونة وإلحاحاً لدى الرأي العام، وذلك بهدف مناصرة الضعفاء والفقراء والمقهورين، والاستهزاء بالطغاة، وكسر شوكة الظالمين والمتجبرين. وإن الأراجوز، في مصر على وجه الخصوص، ليس مجرد دمية مسرحية، ولكنه رمز فني عريق، وعنوان عريض لهذه الشخصية الاستثنائية الشعبية، التي استخدمها المصريون على مدار أكثر من سبعة قرون في الاحتجاج وإعلان التمرد ونقد أحوال المجتمع وصور السلطة المتعددة.


فالأراجوز، هو رمز الرفض والمشاكسة والانفلات والاقتحام ومواجهة القسوة والقهر والقيود، وهو كائن حاد الطباع، صريح إلى أبعد حدّ، لا يقبل الحلول الوسط، لأنه نموذج يحاكي شخصية "ابن البلد" في مصر، الذي لا يخشى في الحق لومة لائم. وإن هذه الفلسفة أبعد ما يكون بالتأكيد عن الصورة السطحية الجديدة للأراجوز، كراوي قصص وعظية، أو حاكي نكات وقفشات، أو ناسج "إيفيهات" و"اسكتشات" حول أضرار السوشال ميديا وسوءات الحياة العصرية وسلبيات الإقامة في المدينة، وما إلى ذلك من المجالات الضيّقة المسموح له بالتطرق إليها في المهرجانات الهزلية الفارغة، بعدما تآكل هامش الحرية تماماً، وانزاحت بعيداً فكرة التعددية، وانعدمت فرص الخوض في انتقادات جادة لأوضاع البلاد والعباد.

بكل أسف، لم يسلم الأراجوز الجديد مما نال البشر من صمت وجمود، فصار مسخاً مشوّهاً، وخسر لسانه الاستثنائي في معركة الفن والحياة معاً. وبالتالي، فهو بوجهه المصنوع، أقرب إلى صفة الانقراض، وذلك رغم محاولات الفنانين الجدد ابتعاثه، ورغم حصوله على حق الحماية والرعاية من اليونسكو.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image