إلهي الرّحيم...
اليوم، وبعد سبعة أيام من الكارثة، تجرّأت على الاتصال وسماع صوت صديقة لي في مدينة أخرى. فقدَت صديقتي عائلتها فيما سُمّيَ زلزال.
لقد كنت ضعيفةً كدودة، ولم أستطع أن أواسيها. انهرتُ تماماً من البكاء، وإن قلت لكَ أنّها هي التي بدأت بمواساتي ستضحك، إذ كنت خجلة تماماً من أن أقول لها أياً من العبارات الشّائعة التي نُعزّي بها الآخرين عند الموت. خجلت أن أقول لها: "اللّه يرحم أهلك"، فعن أي رحمة مزيفة أتحدّث؟ وخجلت أن أقول لها: "اللّه يعوضك ويصبّر قلبك"، إذ عن أي تعويض أتحدّث وهي فقدت والدَيها وأخويها، وكانت النّاجية الوحيدة، فقط لأنّها تعمل في مدينة أخرى؟
ركضَت في الشّارع معتقدةً أنّها تستطيع خلال ساعة فقط قَطْع مسافة أكثر من مئة كيلو متر، فتصل بذلك إليهم وتنقذهم، ويكون بذلك قد تمّ تعويضها عن هلع أصابها، وعن مئات السّيناريوهات التي رسمتها في مخيلتها حتى طلع الصّبح واستطاعت السّفر إليهم، لتجد الأنقاض لازالت تجثم فوقهم، بينما يتحدّث بعجز جميع الواقفين أمام الأنقاض عن ضعف الإمدادات والآلات والمعدّات. إذ تحتاج المحافظات الأربعة المنكوبة بمدنها وبلداتها وضيَعها لإزالة أنقاضها، إلى آلاف المعدّات والآليات، تحتاج حقاً لمساعدات خارجية، مساعدات تنتظر ضوءاً أخضراً دولياً، للبدء في إنقاذ الأرواح البشرية!
إلهي الرّحيم... اسمعني جيداً. لقد جعلت منّا الحربُ فقراء، لكن البيوت الفقيرة جمعت ملابسَها ومؤونتَها وبطانياتها ومشاعرَها، ثمّ أرسلتها بعدما غلّفتها بالرّحمة والدّعاء إلى المناطق المنكوبة
الفقراء الأغنياء
في الأمس جلستُ مع صديقتي وهي متطوعة ضمن فريق شبابي لإيصال الدّعم لإحدى القرى المنكوبة، اقترب رجل فقير ليأخذ ما يُسّرَ له من طعام ولباس، قال آخر له: "لكن منزلكَ لم يتهدّم"، فقالت صديقتي بغصة: "لا بأس يا عم، فكلّ بيت سوري فقير، لكن كلّ بيت سوري غنيّ". إلهي الحكيم، هل ترى كم هذه المفارقة عظيمة؟
لقد جعلت منّا الحربُ فقراء، إذ قسّم تجار الحرب البلد لطبقتين، أقلية فاحشة الثراء، وأغلبية تتدرّج من خط الفقر إلى ما دونه. نعمل بأجور عبيد، نشرب ونأكل كفافنا من الماء والخبز، نشتري ملابسنا من محلات البالة، نجلس مساءً على ضوء لدات نستخدم لشحنها بطاريات تُصاب بالعطب بعد عام من استخدامها لأنّها مغشوشة، نشرب الزّوفا والنّعناع لعلاج نزلات البرد وآلام البطن والمعدة، وحتى آلام الدّيسك والرّوماتيزم، فالأدوية غالباً مقطوعة وغالية الثّمن.
لكن تلك البيوت الفقيرة، هي ذاتها التي جمعت ملابسَها ومؤونتَها وبطانياتها ومشاعرَها، ثمّ أرسلتها بعدما غلّفتها بالرّحمة والدّعاء إلى المناطق المنكوبة. لم يبقَ بيت على هذه الأرض المنكوبة المُسمّاة سوريا، إلّا وتبرّع لأخيه الإنسان المنكوب المفجوع الذي أخطأه الموت.
ليالي الشّمال الحزينة
إلهي الرّحيم...
نحن دود الأرض، فينا من الرّحمة ما يكفي لنخبرك أنّ كلّ ما يجري على هذه الأرض غير عادل وقاس، ففي الوقت الذي كان من الممكن إنقاذ مئات الأرواح البشرية في الشّمال السّوري الحزين، فُردَت أوراق السّياسية على الطّاولات، وبدأت المفاوضات، مستغلين الكارثة وغير آبهين بمن ركض إلى العراء لينجو، فمات من البرد والخيبة وهو يسمع أصوات أهله وجيرانه التي راحت تخبو يوماً بعد يوم، حتى سُمحَ في اليوم الرّابع من الكارثة بفتح المعابر وعبور قوافل الإغاثة والمساعدات.
ستضحك على كلمة إغاثة، أعلم.
إلهي الرّحيم سأخبرك أمراً قاسياً: بينما كان بازار السّياسة يعمل بأقصى طاقاته، هناك رجل فقد عائلته بأكملها، نعاها قائلاً: "لقد نجوا جميعاً، وأنا وحدي من مات"
إذ هناك طاغية يستعدُّ لخوض انتخابات قريبة ويريد أن يستثمر كلّ الفرص ليحظى بالفوز، فأهمل اللاجئين وأعلن حالة استنفار لإنقاذ شعبه. من السّخرية حتماً التّمييز بين إنسان وآخر في هذه الكارثة، تماماً كما أنّه من السّخرية الحديث الآن عن نظام ومعارضة وسط نزوح ولجوء وموت وقهر ودمار.
إلهي الرّحيم سأخبرك أمراً قاسياً: بينما كان بازار السّياسة يعمل بأقصى طاقاته، هناك رجل فقد عائلته بأكملها، نعاها قائلاً: "لقد نجوا جميعاً، وأنا وحدي من مات"، وبعد يومين لحق بهم من قسوة القهر. إلهي الرّحيم... نحن دود الأرض، يقتلنا هنا القهر يومياً حتى ما قبل الزّلزال!
اللّه وصديقي الشّاعر
إلهي الرّحيم...
في الأمس وبكلّ جدية كنتُ أحتاج أن أتكلّم معك، فهناك عدد من الأطفال، الذين فقدوا ذويهم في هذه الكارثة، لا يحتمله قلب.
كنت أريد أن أطلب منك أن تمنحني قوة خارقة، أستطيع بها أن أمدَّ يدي فأمسح على رؤوس هؤلاء الأطفال، وأطبطب عليهم، وأحتضنهم جميعاً. إضافة لمئة ألف قلب، لأوزّعها على جميع النّاس البريئة والطّيبة التي لا ناقةَ لها ولا طاقة ولا جمل، لاحتمال كلّ ما حصل منذ 15 آذار 2011، حتى 6 شباط 2023. فاتصلتُ بصديق لي، شاعر، وقلت بصوت حازم: "أعطني رقم هاتف الله، أريد أن أكلمه".
فضحكَ طويلاً وصمتَ. فأضفت، لقد كتبتَ في أحد نصوصك:
"نعم هذا رقم اللّه
كنت قد كتبته على ورقة كيس إسمنت
لقد أملاه عليّ عامل بناء سقط من الطّابق السّابع"
"أعطني الرّقم بسرعة لو سمحت": قلت. فضحك ساخراً وقال: "في الأمس، كان هناك طفلة تحت الأنقاض، ترجو رجال الإنقاذ أن يخرجوها مقابل أن تعمل خادمة لهم. بجوار هذه الطّفلة تماماً، كان صاحب الرّقم المكتوب على كيس الإسمنت ممدداً تحت الأنقاض، لقد سمعتُ هاتفه يرن آلاف المرات، لكن دون أي إجابة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...