أبرزَ الزلزال الأخير الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، بشكل قاطع، بُطلان الخرافة القائلة بأنّ الكوارث الطبيعيّة تضرب الجميع بلا استثناء، وعلى قدم المساواة. هذا هراء مُطلق.
عدم المساواة في الزلزال الأخير صارخ وحادّ وموجع للغاية. كيف يمكن القول إنّ الزلزال يضرب الجميع من دون تمييز، في حين أنّ من حالفه الحظ وسكن في عمارة متينة لم يمت ولم يصبح لاجئاً في بلدته، كأولئك الذين كانوا يسكنون عمارةً ضعيفةً أو أنّها لم تُشيَّد وفق معايير البناء الصحيحة؟ هذا تمييز حاصل سلفاً في سبل البناء ونظافة ضمائر المقاولين أو المسؤولين الحكوميّين، والزلزال فضحه.
وكيف يمكن المقارنة مثلاً بين دولة تركيا القويّة نسبيّاً في المنطقة، وبين شمال سوريا الذي يتبع للمعارضة في معظمه، ويفتقر إلى حماية الدولة ومساعدتها (نظام بشار الأسد)؟ هل يُمكن مقارنة طواقم الإنقاذ والعمل التي يمكن لدولة مثل تركيا توفيرها، بطواقم "الخوذ البيضاء" الرائعة، وإن بموارد ضعيفة وشحيحة قياساً إلى أجهزة الدولة ومنظوماتها؟ زدْ على ذلك أنّ تقارير ترد في الأيام الأخيرة تشير إلى أنّ نظام الأسد يستولي على نحو 90% من المساعدات التي ترسلها الأمم المتحدة، بدلاً من إرسالها إلى المناطق المنكوبة التابعة للمعارضة.
كيف يمكن الحديث عن "عدالة" الكوارث الكبيرة، إذا ما تمعّنا للحظة بآلاف العائلات السّورية التي هربت من ويلات الحرب الأهليّة إلى جنوب تركيا، وها هي الآن تُقتل وتُشرّد ثانيةً؟
وكيف يمكن الحديث عن "عدالة" الكوارث الكبيرة، إذا ما تمعّنا للحظة بآلاف العائلات السّورية التي هربت من ويلات الحرب الأهليّة إلى جنوب تركيا، وها هي الآن تُقتل وتُشرّد ثانيةً؟ أيّ عدلٍ هذا؟ ولماذا نبحث دائماً عن مثل هذه المقولات الجوفاء وقت الكوارث، كتلك التي تردّدت ومفادها أنّ الزلزال عقاب من الله، أو أنّ الطبيعة تعاقب البشر على سوء معاملتهم لها؟ هل هناك من يؤمن حقاً بأنّ الله يمكن أن يقتل خمسين طفلاً في عمارة من أجل معاقبة رجل زنديق؟ وماذا تقول مثل هذه الجمل عن المجتمع الذي نعيش فيه؟
نحن نميل عادةً إلى التأويلات غير المنطقيّة أو العقلانيّة في وجه الكوارث الكبرى. نحن نرفض التفسيرات العلميّة الواضحة: موقع الزلزال كان قريباً من سطح الكرة الأرضيّة ومركزه في منطقة مكتظة سكنيّاً، وحدوث الزلزال فجراً عندما كان معظم الناس نائمين في بيوتهم، جعلهم أسرى انعدام ردّة الفعل والأعداد الكبيرة في البيوت. كما تزامن الزلزال مع عاصفة ثلجيّة صعّبت جدّاً القدرة على البقاء على قيد الحياة تحت الأنقاض، بالإضافة إلى سوء التنظيم والبناء في تلك المنطقة إثر البناء السريع في خمسينيات القرن الماضي في تركيا، وانعدام التخطيط والرقابة في المناطق السورية المنكوبة. نحن لا نحبّ هذه التفسيرات لأنّها "باردة ووصفيّة"، ولا يمكن دحشها بين طرفَي المعتقدات الألوهيّة عند الكوارث: من "وينك يا الله؟"... وحتى "هذا عقاب من الله".
في اعتقادي أنّ ادّعاء "المساواة" بين الناس في الكوارث ينضوي هو أيضاً تحت ادعاءات التدخل الإلهي، لأنّ كليْهما ينفيان الفروق الهائلة بين البشر في مثل هذه المواقف، هرباً من مواجهة التفاصيل "الباردة" والمنطقيّة.
في مثل هذا الواقع الظالم والمجحف تبرز بطولات من تحمّلوا ونجوا، ومن يتحدّون الخوف والموت ويحفرون الأنقاض بأيديهم حرفيّاً. مؤسسة "الخوذ البيضاء" أعطت مثالاً على قدرة البشر على تخطّي البؤس والعجز
مثال آخر شهدناه في السنوات الأخيرة هو وباء الكورونا، وانفضاح منطق "المساواة" الغبيّ حين رأينا كيف يتمتع البشر المحظوظون بفرص النجاة والاستمرار في حيواتهم في الدولة الغنيّة، وكيف ينوء سائر البشر تحت عناء انعدام الموارد والطب المتقدم والأبحاث الرائدة في الدولة الضعيفة والفقيرة؟ لا توجد أيّ مساواة في الكارثة لأنّ البشر ببساطة غير متساوين في نقطة الانطلاق، وعليه فإنّهم غير متساوين في قدرتهم على تحمّل نتائج الأحداث.
في مثل هذا الواقع الظالم والمجحف تبرز البطولات اليوميّة. بطولات من تحمّلوا ونجوا، وبطولات من يتحدّون الخوف والموت ويحفرون الأنقاض بأيديهم حرفيّاً. مؤسسة "الخوذ البيضاء" أعطت مثالاً في شمال سوريا على قدرة البشر على تخطّي البؤس والعجز والضعف، والخروج من دائرة انتظار العون (البشريّ والإلهيّ)، إلى دائرة الفعل والمبادرة. قد لا تبدو هذه الأمور بطولةً كبيرةً كما قد يدّعي البعض، لكن في الأماكن التي تخلّى عنها البشر ونسوها وظلّت وحيدةً مَعوزةً، يصبح ارتداء خوذة بيضاء والعمل على إنقاذ الناس من دون انتظار أحدٍ، بطولةً أساسها حبّ الحياة والتشبث بها، وهذه بطولة مضاعفة في مكانٍ لم يذُق إلا الموت والدمار في السنوات الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.