شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
سيُكتب على شواهد قبورنا:

سيُكتب على شواهد قبورنا: "وُلدوا هناك وماتوا هُنا"

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأحد 19 فبراير 202311:53 ص

سيُكتب على شواهد قبورنا: "وُلدوا هناك وماتوا هُنا"

استمع-ـي إلى المقال هنا

يبدو المشهد فائضاً بالأسئلة. نهار يوم الأحد، 5 شباط/ فبراير، كان نهاراً غريباً نوعاً ما، وشديد الحلكة وكانت فيه الغيوم أكثر سواداً فوق سماء مخيم نهر البارد للّاجئين الفلسطينيين، في شمال لبنان. منذ ساعات الصباح حتى ساعات المساء، مطر وبرد، وريح شديدة، يوم عاصف ومثلج، كأنّه يوم القيامة، تروي أمي أن خلف البيت كانت الكلاب تعوي كثيراً على غير عادتها، فلم يخطر ببالها أن تكون ساعة الهزة قد اقتربت... ساعة تنفّس الأرض قد حانت.

الساعة الثالثة والنصف فجراً، صحوت من النوم كي أتفقد النافذة التي كانت تصرخ مع صراخ الريح في الخارج. أقفلتها، فشعرت بهزةٍ أرضيةٍ قوية، اهتز البيت بكامله، الحائط يرقص والسرير والطاولات ترقص من شدة الزلزال، ركضتُ إلى الخارج وأنا مصابٌ بساعة الجنون والهلع الشديد، دقت ساعة الزلزال الجديد، الناس في مخيم نهر البارد خرجوا من بيوتهم خوفاً من أن تتحوّل إلى مدافن لهم.

فتحت الباب الخارجي، أطلّ شاب: مرحباً يا جار، هل شعرت بالهزة؟ نعم، شعرت بها ولا أعرف كيف سأكمل ليلتي حتى الصباح في انتظار أن يدفنني بيتي. استغرب من الكلام ودخل بيته بسرعة.

الساعة الرابعة والنصف فجراً، الترددات تأتي وتذهب، والمكان ليس على ما يرام، الليل ليس على ما يرام، ونحن لسنا على ما يرام، شيءٌ ما اهتز داخلنا، شيءٌ ما يتصاعد مثل دخان من الذراعين الى الصدر.

فتحت الباب الخارجي، أطلّ شاب: مرحباً يا جار، هل شعرت بالهزة؟ نعم، شعرت بها ولا أعرف كيف سأكمل ليلتي حتى الصباح في انتظار أن يدفنني بيتي

هل هذا الزلزال رسالة أم منبّه من السماء؟ الكلّ صمت وخشع في صلاته الروحية، وركع على الأرض كي يرجوها أن تهدأ. عدتُ إلى النافذة التي أغلقتها قبل الزلزال وسط صفير الريح العاصفة، لا أثر يدلّ إلى الهزة الصادمة، السرير لم يتأثر، لكنّ أضلاعي لا تزال تهتز وجسمي يرتجف.

في الصباح الباكر فتحت باب الشرفة فوجدت بيوت المخيم المتربعة فوق بعضها البعض كئيبةً، وكأنّها تعرضت لضربة فأس ولم تنكسر، قال لي صاحب المطعم: "هل تدري ما حصل معي ساعة الهزة؟ تشاجرت مع زوجتي، فقد سألتها: لماذا تهزين السرير بقوة؟ فأجابت: لا أهزّ شيئاً يا رجل، وحين اكتشفت أنّه زلزال عانقتها بقوة معتذراً منها، وأنت؟ قلتُ له مثلك لكنني تشاجرت مع النافذة والحائط الراقص والوجود الهش، هل تعلم: منذ حدث الزلزال اكتشفت هشاشتي أكثر؟ كم أنا هشّ.ء

بين المخيم الجديد والمخيم القديم في مخيم نهر البارد، فروق عدة. سمعتُ ابن الحي البحري يقول إنّ "الاتحاد الأوروبي والأونروا قاما بإعمار المخيم القديم مستخدمين الحديد المسلح والقوي للأساسات الأرضية للبيوت، لتفادي الدمار في أثناء الزلازل، فالبيوت في المخيم القديم لا تسقط في الزلزال، والذين يسكنون في تلك البيوت شعروا بالهزة الأرضية أقل من غيرهم، فهناك أسباب سياسية من البنيان القوي غير القابل للسقوط أو التأثر، والسبب الرئيسي هو: تمكين اللاجئين في بيوت لاجئة وراسخة في مكانها، لا تهتز فتهزُّ الضمير العالمي وتحثّهُ على إثارة قضية عودة اللاجئين إلى ديارهم بعد أن دُمّرت بيوتهم. ألا يحق لأهل الخيام الجديدة، خيام 2023، العودة إلى ديارهم؟ قوة البنيان تعني بقاء اللجوء غير قابل للاهتزاز أصلاً، سنحميكم من الموت دفناً تحت البيوت، لكننا سنترككم في بيوت مهجورة ومدفونة في صمتٍ بلا زلازل، لأن للزلزال حسنات بعيداً عن الكوارث، إنّه يضع العالم أمام سؤال الوجود: أين أرض الحلم؟".

نحسد الذين تدفنهم بيوتهم على أرض أحلامهم، إنّها كوارث طبيعية، لكن الكارثة غير الطبيعية هي أن تدفننا بيوتنا على أرض اللجوء المدفونة في الكوارث، ويُكتب على شواهد قبورنا: "وُلدوا هناك وماتوا هنا".

نحسد الذين تدفنهم بيوتهم على أرض أحلامهم، إنّها كوارث طبيعية، لكن الكارثة غير الطبيعية هي أن تدفننا بيوتنا على أرض اللجوء المدفونة في الكوارث، ويُكتب على شواهد قبورنا: "وُلدوا هناك وماتوا هنا"

وأنا جالسٌ على الكنبة أنظر إلى السقف، أتأمله وأتخيله سيسقط الآن، لأنّ الترددات تمرُّ، وخوف الجميع لا ينتهي وأسئلة الناس لا تكفُّ عن الدوران هنا وهناك. الشمس أشرقت خجولةً نهار الثلاثاء والجوّ غائم، وشاطئ البحر المخيمي لا يكفّ عن الهيجان، حتى البحر مصابٌ بهزات موجية كبيرة. مشينا على الشارع الساحلي أنا وصديقي، ونحن نتساءل عن سبل الهروب من الزلزال؛ لو كنّا في فصل الصيف ربما كانت الهزة أسهل؟ نعم ربما، هل تمزح معي؟ لا، فكيف أسهل؟ هل تظنُّ لأنك تسبح بالصيف لن تمرّ عليك الهزة الأرضية وجسدك في الماء؟ لا أقصد ذلك، بل أقصد كانت ستكون أقل برداً، لأنّ الذين ماتوا في سوريا وتركيا ماتوا دفناً وبرداً، والبرد ليس في الطقس، ربما أيضاً ينبع من نفوس الناس.

صديقي في يوم وليلة أصبح عالماً جيولوجياً كبيراً ومحللاً سياسياً خطيراً، يجتمع أمامه الفلاسفة من الأصدقاء ويبدأون بالتحليل في ما حدث ويحدث، لكنني بقيت مستسلماً لمقولة العالم الثاني، ابن الحي البحري في المخيم القديم. عدت إلى البيت وأنا أفكر في كلامه، وعن سبب بناء المخيم الذي لا يهتز ولا يتزحزح، ولا يسعني إلا أن أحمد الله على سلامة الأحلام التي تعشش في الروح، لأنّها ما زالت على قيد المنام، حتى وإن أرّقته هزة، لثوانٍ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image