بخطوات مسرعة تقدمت إلى الأمام، وحين جاءت بشعرها إلى الأمام كي تبرزه للجمهور، نطقت خلف المايكروفون: "مرحباً. أنا زينب كاظم بور، لن أقبل شرعية الجمعية التي لم تصادق على أهلية مرشحة لا ترتدي غطاء الرأس"، فينتشر في الصالة التصفيق، وتترجل المهندسة غاضبة من المنصة وهي ترمی وشاحها.
شاهد ذلك الإيرانيون عبر فيديو انتشر على منصات التواصل، فلم تمر إلا ساعات على تداول المقطع الذي سُجل بشكل عفوي من أحد الحاضرين، حتى جاء إعلان السلطة القضائية عن تشكيل ملف قضائي لهذه المهندسة وبدء التحقيق معها بعد أن اتُّهمت بانتهاك قانون الحجاب أثناء انتخابات جمعية المهندسين.
في زاوية أخرى، تشارك العداءة سارا رنجبر في ماراثون رأس الخيمة في الإمارات العربية. وهي مشاركة شخصية غير حكومية، إذ حضرتها دون أن تلتزم بالحجاب المفروض على الإيرانيات في السباقات المحلية والدولية رسمية كانت أو غير رسمية. وغردت بعد حصولها على الميدالية: "الإنسان أكبر من قیوده".
"أنا أقدم لك الخدمة يا بائسة"
فيديو آخر منتشر في منصات التواصل، تظهر فيه سيدة برداء أبيض ويقع وشاحها الأحمر على كتفيها وهي تصرخ غاضبة أمام الكاميرا: "أنا أقدم لك الخدمة يا بائسة. إنك لا تستحقين ذلك."
في اليوم التالي يتم إغلاق الصيدلية في وسط العاصمة، بسبب عدم الالتزام بالحجاب الشرعي من قبل الصيدلانية، إذ قامت سيدة محجبة بتسجيل الفيديو كي ترفعه للجهات المعنية لمعاقبتها، وهذا ما جرى بسرعة.
كما طُبّق ذلك في حق صيدلانية أخرى في محافظة مازندران شمال البلاد.
في مازندران أيضاً، نشرت معلمة في مدرسة أهلية مقطع فيديو مع تلامذتها وهم يرددون أغنية باللهجة المحلية على نمط آر أند بي وقد انتشرت بكثافة، بيد أن الوزارة طردت المعلمة من المدرسة بدعوى أنها قامت بعمل غير أخلاقي في الترويج لموسيقى مبتذلة.
لم تمضِ أيام قليلة حتى أعلن نادي نساجي الرياضي المحلي عن عرض مقترح لتوظيف المعلمة الشابة، في تحد مباشر وصريح للنظام.
من جانب آخر، أكدت خمس سجينات تم الإفراج عنهن مؤخراً في بيان موحد "استمرارهن في دعم الحراك الشعبي وجهود المجتمع الدولي" سعياً إلى إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين في السجون.
تحديات جريئة
يزداد المجتمع الإيراني جرأة في تحدي النظام بنيل حقوقه الفردية وكسر حاجز الخوف، فهذه مشاهد تتكرر يومياً في شتى مدن البلاد منذ حوادث صيف 2022، التي أدت إلى وفاة الشابة مهسا أميني واندلاع أكبر احتجاجات ضد المضايقات والقيود التي يفرضها النظام على المواطنين.
جيل جديد يبحث عن حياة بعيدة عن تلك التي أرادها النظام له، فهو راسخ في معتقداته وجاهز لدفع الثمن من غرامة مالية أوعقوبة حكومية أو حرمان من الخدمات العامة، وهو لا يخشى الاعتقال.
تحظى الحروب اليومية التي يعيشها الشباب والفتيات بدعم واسع من المجتمع، أبطالها كل من سخر من قوانين النظام التي تتدخل في شؤون الحياة الشخصية. فيشهر المجتمع سيفه ضد سيف الحكومة المسلول، إنه نضال علني بين جهة تريد ملكية الجسد ومواطن يدافع عن نفسه بلا خوف.
شبّه بعض المراقبين ظاهرة وقوف المجتمع خلف حراك شبابه بتلك الظاهرة التي وقعت في السنوات الأخيرة من عمر النظام الملكي قبل سقوطه عام 1979، إذ تكاتف أبناء المجتمع بمختلف مشاربهم ضد الشاه وأعوانه، حتى من أراد أن يصبح أيقونة المجتمع لا بد أن يقف في الجهة المخالفة من النظام، آنذاك.
يزداد المجتمع الإيراني جرأة في تحدي النظام بنيل حقوقه الفردية وكسر حاجز الخوف. هو جيل جديد يبحث عن حياة بعيدة عن تلك التي أرادها النظام له، فهو راسخ في معتقداته وجاهز لدفع الثمن من غرامة مالية أوعقوبة حكومية أو حرمان من الخدمات العامة، وهو لا يخشى الاعتقال
هي مؤشرات تدل القارئ للمشهد الإيراني على استيلاد تلاحم أكبر بين أوساط شرائح المجتمع على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، بعيداً عن قرارات النظام. فسرعان ما تعاطف رواد المنصات مع المهندسة التي رمت وشاحها، وشجع الكثيرون منهم قرار الرياضية التي لم تلتزم بالحجاب القسري. وبينما احتج معظمهم على طرد المعلمة، اقترح نادي رياضي فرصة توظيف لها في تحد قل نظيره.
أما السجينات التي أطلق سراحهن بكفالة مالية أو عفو قيادي، فلم يصمتن عن المطالبة بحقوق نظيراتهن داخل السجون ودعم الاحتجاجات، فجدار الخوف إنهار أمام قوّتهن.
انخفاض حاد في قدرة النظام على التحكم
يصف أستاذ الاقتصاد المعروف محسن رناني الأوضاع والتغييرات التي طرأت على الشارع الإيراني منذ وفاة مهسا أميني، في ورقة تحليلية سرية نشرها بعدما عجز زميله الوزير السابق جواد ظريف عن تسليمها للمرشد الأعلى علي خامنئي بغية أن يعرف الأخير ما يجري على أرض الواقع.
من بين 15 مكتسباً وإنجازاً تاريخياً حصلها المجتمع جراء اندلاع حركة مهسا أميني، يأتي تنفيذ مرحلة إسقاط رمزية النظام، أهم المكتساب من حيث الشمولية والإلحاح
وكتب الأكاديمي: "من بين 15 مكتسباً وإنجازاً تاريخياً حصلها المجتمع جراء اندلاع حركة مهسا أميني، يأتي تنفيذ مرحلة إسقاط رمزية النظام، أهم المكتساب من حيث الشمولية والإلحاح. فقد سخرت فئات المجتمع المختلفة كالجامعيين والرياضيين والفنايين والنشطاء المدنيين من رموز النظام. وألحقتهم الحشود في عدم الإظهار بالولاء للقيادة".
وأشار رناني حول علامات تحقيق مرحلة إسقاط رمزية النظام، إلى: "إضرام النار بلافتات وتماثيل قادة النظام، وتحدي الحجاب القسري من قبل مجموعة كبيرة من النساء، ونشر صور دون غطاء الرأس لنساء مؤثرات وشهيرات، واحتفال المواطنين بخسارة المنتخب الوطني في كأس العالم، والاستنكاف من ترديد النشيد الوطني، وظاهرة تطيير عمائم رجال الدين، ومقاطعة المهرجانات الحكومية، والحضور المتواضع في المسيرات الداعمة للنظام، وتشويه أو إزالة الصور الرسمية (صور المرشد الأعلى خامنئي وسلفه الخميني والجنرال قاسم سليماني)، من جدران الكثير من الأماكن العامة والمحلات، وتمزيقها من على الكتب الدراسية من قبل تلامذة المدارس ونشر مقاطع فيديو، وتبرئة بعض عوائل الشهداء والمحاربين القدماء في الحرب الإيرانية العراقية من سلوك النظام، واعتذار نجوم الفن بعد أي مشاركة في المهرجانات الحكومية، واجتناب الفنانين الحضور في أي نشاط يرمز إلى النظام، وفقدان هيئة الإذاعة والتلفزيون نفوذها ومصداقيتها لدى جزء كبير من المجتمع، وتحويل شعار (الموت للدكتاتور) إلى شعار رئيسي في الاحتجاجات، وكتابة الشعارات المناوئة ليلاً ومحوها صباحاً من قبل البلدية، ورفع شعارات ضد الجمهورية الإسلامية في الذكرى السنوية لانتصار ثورة 1979".
وفقاً لتقارير مركز أبحاث البرلمان، فإن نسبة النساء اللواتي لا يراعين الحجاب على غرار معايير النظام وصلت إلى 70%
وأردف أن النظام قد خسر رمزيته أمام مواطنيه، وتابع: "السلطات ليست قادرة على فرض الحجاب، وإن تحدي النساء لهذا المرسوم الحكومي بات أكثر شمولية في الأسواق والشوارع والمترو. فوفقاً لتقارير مركز أبحاث البرلمان، فإن نسبة النساء اللواتي لا يراعين الحجاب على غرار معايير النظام وصلت إلى 70%. وهذا يدل على الانخفاض الحاد في القدرة على التحكم".
سلوك كاريكاتوري
وأشار الخبير إلى ضغوط النظام ضد المواطنات غير المتلزمات بالحجاب الشرعي وتهديدهن في إغلاق حساباتهن البنكية، أو البطاقات الوطنية، كذلك إغلاق المحلات والمجمعات التجارية التي يزرنها، وفصل مديري الدوائر والمصارف الذين يمنحونهن الخدمات، إذ يدل ذلك على "انخفاض المرونة لدى النظام".
كما اعتبر محسن رناني إنشاء (لجنة الحياة العفيفة)، بعد هزيمة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تطبيق قيودها، بمثابة سلوك كاريكاتوري يتكرر دائماً.
تناول الخبراء والمحللون هذه الورقة خلال الأيام المنصرمة، وكالعادة وقف المنتمون للتيار المحافظ الذي يستولي على مراكز القرار، ضد ذلك ووصفوا الورقة بأنها خالية من الواقعية، أما التيار الإصلاحي فرحب بها وأسف على عدم إمكانية وصول الأكاديمين والباحثين للمرشد الأعلى.
رغم تلك التطورات والتحولات الحاصلة في المجتمع، يصر قادة البلاد على عدم حدوث أمر يستحق العناء، وعلى أنها فتنة أجنبية تم ردعها بدراية وحكمة قيادية وانتهى كل شيء. بيد أن الواقع قد فرض حقيقته في الشارع، فإيران اليوم ليست إيران ما قبل وفاة مهسا أميني، كما كرر مراراً المراقبون للشأن الإيراني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 22 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت