كان عمر طاهر يتجول في منطقة الحسين، عندما دخل إلى محل كريستال، ووجد على أحد الرفوف زجاجة قديمة من الخمسينيات لكولونيا ثلاث خمسات الشهيرة ماركة الشبراويشي، فأبدى إعجابه بها. سأله صاحب المحل: أتعرف ما هي قصة الثلاث خمسات؟ ثم سرد له فصلاً كاملاً من كتابه "صنايعية مصر".
سأله عمر عن مصدر الحكاية، فأجابه: "قصة معروفة... سمعتها قبل كده".
لم تكن قصة حمزة الشبراويشي، مؤسس الكولونيا الشهيرة، معروفة بشكل كامل قبل أن يكتب عنها عمر، ربما ليتحقق تعليق ضاحك قاله له أحد أصدقائه: "الكتاب أصبح فلكلور".
موقف بائع الكريستال يعبر عن نجاح "صنايعية مصر" الذي صدر في جزأين، أولهما عام 2016، والثاني في مطلع العام الماضي، وصدر كل منهما في عدة طبعات.
في مطلع العام الجاري، عُرضت الحلقات الأولى من البرنامج الذي يحمل الاسم نفسه "صنايعية مصر" من تقديم عمر طاهر وإخراج شريف الألفي وإنتاج ميديا هب، ويضم في موسمه الأول 12 حلقة.
بين نشر الجزء الأول وعرض البرنامج رحلة طويلة حاول فيها عمر تحويل كتابه إلى برنامج تلفزيوني عدة مرات، وتقدم بالفكرة إلى بضع جهات بعدد من المعالجات المختلفة، لكن لم يتحمس له أحد، حتى إنه قرر في لحظة يأس أن يصور الحلقات من غرفة بمنزله عبر كاميرا الهاتف، لكنه تراجع عن الفكرة وكذلك عن محاولة عرض معالجات جديدة للبرنامج، موقناً أنه "يوماً ما ستأتي تلك الجهة الإنتاجية التي تؤمن بالمشروع".
رحلة إعداد كتابيّ "صنايعية مصر"، تنبئنا أنه في غياب الأرشيف، تقود لحظات "التلطيش" اليائسة إلى فتوح معرفية جديدة
يحتفي الكتاب بروح الحرفة والإتقان من خلال من أسماهم طاهر "بناة مصر في العصر الحديث"، ويتحرى تلك الروح التي صرنا نشك بوجودها، منذ عقود، عبر قصص ملهمة. يقول طاهر لرصيف 22 إن الدافع وراء تلك الرحلة التي استغرقت ثماني سنوات، كان "الفضول الشخصي، وحب المغامرة".
ويضيف: "كنت شاباً في الثلاثين عندما فكرت أن هناك أسماء مهمة شكلت حياتي وثقافتي وعقلي، دون أن أعرف عنهم شيئاً. مثلاً هناك جملة راسخة في أذهاننا «طبعت الترجمة بمعامل أنيس عبيد»، قرأناها في نهاية أغلب الأفلام الأجنبية التي شاهدناها بالتليفزيون المصري، دون أن نسأل من هو أنيس عبيد وما قصته؟ افتح القوس، وضم أبلة نظيرة، صيدناوي، الشبراويشي، ما القصة وراء كوتشي باتا، شوكولاتة كورونا، مبردات كولدير؟ من الذي زرع في وجداننا محبة الأفلام الهندية؟ في كتب التاريخ وحتى فترة الجامعة، كنت أقرأ فقرة ثابتة عن الضابط الشاب الذي اقترح تحطيم خط بارليف عبر استخدام خراطيم المياه، هل سيبقى إلى الأبد الضابط الشاب دون أن نعرف اسمه؟"
عمر طاهر: هناك جملة راسخة في أذهاننا "طُبعت الترجمة بمعامل أنيس عبيد"، رأيناها وردَّدناها من دون أن نسأل من هو أنيس عبيد وما قصته؟ افتح القوس، وضم أبلة نظيرة، صيدناوي، الشبراويشي، شوكولاتة كورونا، مبردات كولدير؟
ذهبت المغامرة والفضول بصاحب كتاب "من علم عبد الناصر شرب السجائر" إلى ما هو أبعد، لم يكن يفكر في البداية في شكل كتاب، حتى اتسعت القائمة، التي شملت مع الوقت أسئلة عمن وراء مشروعات "نحيا في خير بعضها إلى الآن: التأمين الصحي، نظام المعاشات والتأمينات الاجتماعية، الجمعيات التعاونية وبطاقة التموين. مهندس برج القاهرة، السد العالي، مشروع تنظيم الأسرة، مترو الأنفاق".
"تلويش" وصدف ومكافآت
كانت رحلة صعبة في ظل غياب التوثيق. يقول طاهر إن عدداً كبيراً من الشخصيات التي بحث عن تاريخها، يكاد لا تهتم بها الأراشيف التقليدية، "أرشيف المؤسسات الصحافية قد يحوي ملفاً [عن الشخص] ليس به إلا أخبار من كلمات قليلة قد لا تتجاوز ثلاثة أسطر، غالباً خبر نعي أو فوز بجائزة... كان ذلك مستفزاً. بدأت رحلة التنقيب وجمع المعلومات، كنت أنشر ما أتوصل إليه في مقالات بالصحف، مع اتساع دائرة رد الفعل المشجعة وقائمة الأسماء بدأت في العمل عليه ككتاب".
وحده، ومن دون فريق بحثي؟ كان ذلك هو أكثر الأسئلة تكراراً من الجمهور منذ نشر الكتاب، كان الوصول إلى المعلومة ممتعاً إلى الحد الذي جعله يواصل ذلك الجهد وحده.
في الجزء الثاني من الكتاب، قرر عمر أن يعتمد "على مصادر شخصية من لحم ودم بشكل أكبر، عوضاً عن الاكتفاء بالتتبع – المرهق في الأساس – للأرشيف، ليكون صانعاً للأرشيف".
كان المرهق في ظل غياب التوثيق، هو الوصول لطرف الخيط، بعد ذلك يبدأ نوع آخر من المتاعب، لتتبع أثر "الصنايعي" الذي يكتب عنه، بحثاً عن شخص من دائرة ذلك الصنايعي ولو من بعيد. وهي طريقة عمل لا يعتبرها عمر علمية أو منهجية أو واضحة، سماها "التلويش"، أي الحركة عشوائياً، عله يعثر على شيء في صفحات نعي، زميل عمل، شخص ما من عائلة من يبحث عنه قد يكون قريباً من عمر نفسه، فيرشده إلى ابن أو زوج أو حفيد.
في أثناء بحثه عن مصنع كورونا، لم يكن يعرف أن تومي خريستو هو مؤسس أول شركة لإنتاج الحلويات والشوكولاتة بالسوق المصري عام 1919، إلا في نقطة متأخرة، هاتف المصنع الحالي الذي لم يكن له علاقة بالشركة الأصلية بعد أن أممت مرة، وخصخصت وبيعت أكثر من مرة.
لم يفهم العاملون بالشركة ماذا يريد، فأحالوه إلى مدير التسويق الذي صودف أنه يوم عمله الأول، رغم ذلك قرر مساعدة عمر لإيمانه بأهمية ما يفعله، ولأن وضع الأصل التاريخي للشركة في العروض الترويجية سيجعلها أكثر قوة. بالفعل فتح مدير التسويق مخازن الشركة، ووجد أوراقاً قديمة وتاريخية عن تاريخ التأسيس وأسامي المؤسسين.
هكذا انفتح لعمر تاريخ صناعة الشيكولاتة من "لحظة تلويش يائسة"
الحكاية أولاً
تتكرر تيمة بعينها في قصص الكتاب، خاصة في المشاريع القومية التي راودت خيال الدولة، التي تلجأ في البداية إلى أهل الثقة، فتفشل، فتضطر إلى اللجوء إلى الرجل الكفء، فينجح بشكل إعجازي، فتنسب الدولة الإنجاز لنفسها، وتعمل على محو سيرة من نجح، فيعود المشروع إلى سيرته الأولى من الفشل.
أيضاً، يحتفي الكتاب بدور القطاع الخاص والمبادرات الفردية الناجحة في إدخال عدد كبير من الصناعات في مصر للمرة الأولى، وتظهر في الكتاب سردية إجهاض ذلك النجاح عبر التأميم.
لذا كان من المنطقي أن يتأجل تنفيذ البرنامج عدة مرات، في وقت كان الصوت الأعلى لصالح مشاريع قومية عملاقة تتبناها الدولة، ويهمَّش فيه دور القطاع الخاص، إلا أن عمر طاهر نفسه غير منشغل بالتحليل، ويظل انشغاله موجهاً للَّعب والحكي لا السياسة.
"لن أحكم على أي فترة تاريخية، لا فترة عبد الناصر ولا فترة السادات"، اتخذ عمر ذلك القرار في أثناء عمله على الكتاب: "إخلاصي الأول لسرد الحكاية بأفضل شكل ممكن، وأن أوثق ما أقوله".
كان الانطباع المتكرر من أحفاد وأبناء بعض الشخصيات التي حاول طاهر الوصول إليها هو الاندهاش والتعجب من اهتمامه: "لقد اعتادوا التجاهل حتى صار هو الأصل"
ابتعاد عمر عن التأطير السياسي هو قرار مفهوم، فالسياسة لا تجلب إلا الحيرة؛ عبد الناصر مثلاً أقدم على شيئين متضادين بمنتهى النجاح: أنهى تجارب ناجحة؛ وفي الوقت نفسه، هناك عدد كبير من التجارب العظيمة لم تكن لتنجح لولا وجوده واختياراته التي أثبتت حدساً سليماً في استكشاف مهارات أشخاص وتحميلهم عبء مشاريع مهمة حققوا فيها نجاحاً مدوياً. مثلاً نبوي المهندس مؤسس نظام التأمين الصحي، حكمت أبو زيد رائدة تجربة الشؤون الاجتماعية، صدقي سليمان مهندس السد العالي، رمزي استينو رائد تجربة بطاقات التموين والجمعيات التعاونية، نعوم شبيب مصمم برج القاهرة وغيرهم، كل هؤلاء كانوا من اختيار عبد الناصر.
لذا يجمع الكتاب بين حكايات نجاح صنعها التأميم، وتجارب قضى عليها التأميم، لذا "كان من الجنون أن أضع بين دفتي الكتاب إجابة نهائية، مفضلاً أن أترك الحكم للقارئ".
وعن غياب التوثيق لا يتهم طاهر أحد بسوء النية، لكن هناك أسئلة عن "تكريس نماذج بعينها في أي مجال وإهمال الآخرين، مثلا في الموسيقى هناك احتفال سنوي بمحمد عبد الوهاب عشرات الأفلام الوثائقية والكتب والمقالات؛ في مقابل إهمال لملحنين كمحمد الموجي ومنير ومراد ومحمود الشريف، رغم أنهم جزء أصيل من تاريخ الموسيقى في مصر"، يستنتج: "ربما هناك نوع من الكسل والاستسهال".
لقد مس "صنايعية مصر" جيلاً جديداً، وأنا الذي كنت أظنه كتاب مسنين
كان الانطباع المتكرر من أحفاد وأبناء بعض الشخصيات التي حاول طاهر الوصول إليها هو الاندهاش والتعجب من اهتمامه: "لقد اعتادوا التجاهل حتى صار هو الأصل".
عن الاتهام بتكريس النوستالجيا، يقول: "أنا مدين للنوستالجيا بأنها حركت فضولي، وهي بحر واسع يمكن أن يخرج منه المرء بفكرة قيمة تفهم بها ذاتك، وتعطيك شيئاً من الثقة في جذورك، تحرك بها مياهاً راكدة، ويمكن أن تكون مجرد ألعاب بيلياتشو وتسلية، مجرد تعبئة للهواء. الاتهام ليس في النوستالجيا، بل في كيفية استخدامها، عندما أكتب عن الماضي أفعل ذلك بعين الحاضر، وأقيمها بأدوات وتجربة عصري".
السحر في الناس
غيرت التجربة نفسها من عمر طاهر، تعيد إليه الثقة في شيء غائم، "نداء في رأسي خطفني منذ ذلك اليوم، يهمس لي أن مصر بلد عظيمة تخفي أضعاف أضعاف ما نعرفه عنها، هناك تاريخ آخر غير ما نعرفه لم يظهر بعد، قصص نجاح وأساطير ومعجزات، أناس فعلوا أشياء بالغة الأهمية لم توثق لأسباب ما، لم يتوقف أحد عندها رغم أثرها العظيم، السحر ليس في الأشياء التي أنجزت، بل في الناس الذين كانوا وراء تلك الإنجازات".
ترك فيه الكتاب شغفاً لاكتشاف المزيد، يتمنى لو كان عنده الشجاعة الكافية لتكريس حياته لاكتشاف الجزء المخفي من تاريخ صنايعية مصر بدلاً من أن يكتب عن سواهم إلى أن يتوقف عن الكتابة.
يؤكد طاهر أنه رغم مشاريعه الفنية المتعددة ككاتب للسينما وللأدب وللصحافة، إلا أن صنايعية مصر حقق له رضا حقيقياً عن الذات.
نال عمر عن كتابه مكافآت معنوية لم يتوقعها، من بينها الأثر الذي تركه، فرغم أن مصنع ياسين للزجاج لم يعد له علاقة بالمصنع الأول، إلا أن ذويه قرروا بعد قراءة الكتاب تكريم اسم المؤسس الأصلي في احتفالية دعي إليها حفيده، عمر طاهر لتكريمه، لولا أنه لم يتمكن الحضور بسبب وعكة صحية.
وكذلك ابن النبوي المهندس الذي يعيش في أمريكا من 30 سنة، كان سعيداً وممتناً لأن لا أحد يذكر أباه أو دوره، رغم أن عشرات المدارس في مصر تحمل اسمه، دون أن يسأل أحد، أو يهتم بشرح إنجازه.
كما صار ضيفاً ثابتاً على المدارس الخاصة للمرحلة الإعدادية والثانوية في ندوات، إذ بات الكتاب جزءاً من مشاريع الطلبة. يقول: "أشعر بسعادة حقيقية، عندما يناقشني مراهقون في الرابعة عشرة من عمرهم، مناقشة حقيقية أتت من قراءة شغوفة للكتاب. لقد مس «صنايعية مصر» جيلاً جديداً، وأنا الذي كنت أظنه كتاب مسنين، كذلك في حفل تخرج طلاب في الابتدائية دعيت إليه، ارتدى أحدهم رداء الخواجة خريستو مؤسس مصنع الشيكولاتة، وطفل آخر ارتدى زي الضابط باقي زكي يوسف، الذي اقترح استخدام مضخات مياه لتحطيم خط بارليف".
"كان ذلك مؤثراً" يقول عمر، لكن "أتمنى لو أن الكتاب كان في المدارس الحكومية أيضاً، هي أولى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com