شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن حاجتنا إلى حضن يضمّنا... في انتظار أن يزهر حزننا الجماعي

عن حاجتنا إلى حضن يضمّنا... في انتظار أن يزهر حزننا الجماعي

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأحد 19 فبراير 202312:01 م

لم أكتب منذ فترة طويلة. برغم شغفي بالكتابة. توقفت عن التدوين والكتابة الصحافية لأسباب أنا نفسي لا أعرفها. لم يحصل منذ مدة أن نشرت، حتى "هزّني الزلزال". تعرضت كما غيري من "مسجوني هذه المنطقة الملعونة"، لـ"خضة"، لم أصحُ منها حتى الآن. أدور في فلك أزماتنا تائهةً في ظلمتها، وأسأل نفسي كل يوم عن الخلاص، فأجدني لا أفعل شيئاً سوى طرح الأسئلة. من مكاني هنا في بيروت، أعبر حدود جوازات السفر والجغرافيا، وأطرح أسئلةً قد تبدو وجوديةً، لكنها ملهمة، فأجد في عتمتي بعض النور.

أمّا عن الأسئلة التي استدرجتني للكتابة فهي كثيرة، أحاول في هذا النص قراءتها على الملأ علّني أجد الإجابات الشافية. ألسنا جميعاً نجذّف في القارب نفسه؟ إذاً، لعلّنا ننجو معاً.

بالعودة إلى الأسئلة التي تملأ رأسي، أكثر ما يشغلني منها هو سبب كثافة نشرنا ومشاركتنا، كأفراد، محتوى الأزمات على مواقع التواصل الاجتماعي. ننشر القصص والمنشورات والفيديوهات بوتيرة عالية جداً وملحوظة. هل هو "نهمٌ" أم "شراهة"؟ ما الذي يدفعنا إلى الانهماك في البحث عن كل ما يحزننا، ونشره؟ لماذا نملأ صفحاتنا بالقصص المؤلمة والصور القاسية، فنغرق في همّها ونعيشها بكل جوارحنا؟

تقول لي صديقة: "كفّي عن متابعة هذه الأخبار وامضي قدماً، لن يجلب لك الانغماس في مشاهدة الناس المنكوبة سوى النكبة". أجيبها قائلةً: "عم ببكي عليهم تا لاقي مين يبكي عليي لما يجي دوري". لا زلت أبكي شهداء فلسطين كل يوم، وضحايا الحروب العبثية في كل مكان. لا زلت أعتصر ألماً لما حل بنا في لبنان بعد انفجار المرفأ. أتعاطف مع الضحايا وعائلاتهم تعاطفاً لا ينطفئ. التعاون هو قانون الطبيعة، فلا بد للتعاطف أن يكون كذلك أيضاً، أليس كذلك؟

قرأت قبل فترة عن مفهوم "عقدة الناجي"، في كتب علم النفس، وحاولت إسقاطها على نفسي. هل أنشر كل هذه القصص من فرط إحساسي بالذنب؟ هل أشعر بذنب تجاه من ابتلعه سيل الأزمات بينما لا زلت حتى اليوم أنجو بنفسي، جسدياً على الأقل؟

قرأت قبل فترة عن مفهوم "عقدة الناجي"، في كتب علم النفس، وحاولت إسقاطها على نفسي. هل أنشر كل هذه القصص من فرط إحساسي بالذنب؟

وبينما أنا باحثة عن إيجابات، أغوص يومياً في دوامة النظريات، خطر لي خاطرٌ آخر مرتبط كذلك بعلم النفس. يقول المتخصصون إن تكرار الحديث عن أزمة معينة، أو حدث معين، يساعدك على التشافي منه/ ها. يقول غير العارفين للمتململين من صدماتهم: "ما بتزهق تعيد نفس الخبرية؟". لا يدري هؤلاء أن "التكرار يفيد الانكسار". نلجأ نحن المنكسرين إلى لملمة جراحنا على مراحل. نروي القصة مراراً علّنا نتقبلها، كمرحلة أولى تليها محاولة رؤيتها من زاوية مختلفة.

أنا الجريحة التي ضربها انفجار المرفأ في صميم سعادتها، لا زلت أخبر الناس كل يوم كيف تحول زفافي المقرر في اليوم الذي تلا الانفجار، إلى قصة حزينة لا أمل من تكرارها. أنا عروس بيروت التي لم تحلم إلا بزفاف صغير متواضع، مع من تحب، منهكة من ثقل ما حل بي. طار المرفأ، وطارت أحلامنا معه. فودّعناها "على السكت"، ولم نجرؤ على المجاهرة بألمنا لوضاعته أمام ألم خسارة الأرواح.

إذاً، ننشر على مواقع التواصل الاجتماعي ونستفيض في النشر كل لحظة، علّنا نتشافى مما جرى. نعيد سرد الأحداث بجزئيات مختلفة ومن زوايا مختلفة، محاولين تفريغ مشاعرنا والتعامل معها. يبدو ذلك تفسيراً معقولاً.

ولأن أبواب هذه الحياة مفتوحة لكل الفرضيات والاحتمالات، تصرخ أصوات من حولنا وتسأل: من سمح لكم بنشر صور الضحايا؟ وبالمناسبة، إنه سؤال مشروع. كل الأسئلة التي تحاكي تطورنا الفكري والعاطفي مشروعة.

سَلْ، ففي البحث نور.

طيب، لنعد إلى الأساسيات، ما هو الصح وما هو الخطأ؟ ما هي آداب التصرف خلال الأزمات؟ ما هو "إيتيكيت الحزن"؟ يبدو وصفاً سوريالياً أليس كذلك؟ الأوقات العصيبة تتطلب اتخاذ تدابير حاسمة، ومتعاطفة، وعفوية. نحن لا نتكلم عن كسر حرمة الموت والحدود الطبيعية لخصوصياتنا، ولكننا نسرد واقعاً مريراً فرض علينا واقعاً لا مفر منه.

ما هو الصح وما هو الخطأ؟ ما هي آداب التصرف خلال الأزمات؟ ما هو "إيتيكيت الحزن"؟ يبدو وصفاً سوريالياً أليس كذلك؟ الأوقات العصيبة تتطلب اتخاذ تدابير حاسمة، ومتعاطفة، وعفوية

أعود إلى الأسئلة مجدداً، كيف كان للعالم المتعامي أن يعرف عن المظلومية الفلسطينية وانتفاضة شعب بكامله على القتل العبثي، لولا صورة محمد الدرة؟ صورة واحدة انطبعت في أذهان الكوكب، اخترقت خصوصية محمد، لكنها أضاءت شعلةً في قلب القضية.

من منا لا يذكر الطفل السوري الغريق، آلان الكردي، الذي هزت قصته الدنيا؟ آلان وصل إلى شواطئ تركيا على متن الأمواج العاتية، لا حول له ولا قوة، مستسلماً للموت تاركاً لنا أمر المطالبة بحقه. موته نال منا جميعاً. طفل ساكن استطاع أن يحرك العالم ويعيد قضية الحرب في سوريا واللاجئين في البحر، إلى الواجهة.

كيف سنحرك الرأي العام العالمي لحثه على الالتفات إلى أوجاعنا؟ كيف لنا أن نوصل صوت الملايين من المنكوبين من دون "تعرية ما يحصل من قيود الخصوصية"؟ إنها معضلة كبيرة، ولن تُحسم، لكن مساعدة هؤلاء ورفع صوتهم يستحقان عناء هذا النقاش.

عصر السوشال ميديا عصر مربك. أننشر لمشاركة مشاعرنا؟ أم ننشر لاهثين خلف الأرقام؟ أعتقد أنه لمعظمنا، القصة أكبر من ذلك. نحن نحتاج إلى حضن كبير، يغمرنا جميعاً بالدفء، ويطمئننا. أما بالنسبة إلى هذه الصدمات الجماعية، فلا بد لها أن تفرَّغ في مكانٍ ما، ولا بد لهذا الوعي الجمعي أن يتحاور في مساحة ما ويسمو.

إن يد الله مع الجماعة، وحزننا الجماعي هذا سيزهر يوماً ما.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image