كان امتحان البكالوريا في سوريا، ولا يزال، كابوساً لكل من عاش تجربته أو رسب بسببه. المتعارف بين الشباب السوري، أنه من مخلفات عهد الانتداب، ولطالما علت أصوات مطالبة بتعديله وعصرنته، نظراً إلى الضغط النفسي الذي يفرضه على الطالب. هذا الطرح ليس جديداً، فقد جرت محاولة لتغيير هذا النظام التعليمي سنة 1943، في عهد رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس حكومته سعد الله الجابري.
تعاقد الجابري يومها مع المفكر السوري ساطع الحصري، المُقيم في العراق منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، لإصلاح المناهج التربوية في سوريا. كان الحصري مؤسس وزارة المعارف السورية، وأول وزير عليها في زمن الملك فيصل، وقد سافر معه إلى بغداد بعد فرض الانتداب الفرنسي على سوريا، لوضع المناهج الابتدائية في العراق. بعد استقالة حكومة الجابري، وتسلم فارس الخوري رئاسة الوزراء، جاء وزير المعارف الجديد أحمد الشرباتي، ليجدد عقد الحصري، ويتعاقد مع فريق استشاري من جامعة بيروت الأمريكية، ومع عميد كلية الحقوق في جامعة الملك فؤاد في مصر، عبد الرزاق السنهوري، لدعم الإصلاح التربوي في سوريا وإعادة النظر في البكالوريا السورية.
في منتصف الأربعنيات، لم ينجح سوى 557 من أصل 976 طالباً سورياً جلسوا أمام امتحان البكالوريا، أي أنه لم يكن فيها مكان للواسطة أو التجاوزات
كان أحمد الشرباتي، سباقاً في هذا المجال ومجدداً، وهو خريج أشهر جامعات أمريكا وأعرقها، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، ومعظم كتب التاريخ تذكره خلال تسلمه وزارة الدفاع سنة 1948، وكثر من المؤرخين يحملونه ظلماً وزر كامل هزيمة الجيش السوري في حرب فلسطين الأولى. ولكنه ما كان ليصل إلى هذا المنصب الرفيع لولا نجاحه وإنجازاته المتعددة في وزارة المعارف، ومنها محاولاته نسف البكالوريا الفرنسية. اجتمع مع الفريق الاستشاري وقال إنه يرغب في التخلص من الإرث الفرنسي في المناهج السورية، والمتمثل في امتحان البروفيه أولاً في الصف التاسع، وفحص البكالوريا الفرنسية، بشقيها العلمي والأدبي. رأى الشرباتي أن هذه الامتحانات كانت مضنية للغاية وقاتلة للابتكار، تُعلّم الطالب الحفظ من دون أي استيعاب حقيقي للمواد العلمية.
كانت فرنسا شديدة الحرص على إرثها التربوي في المشرق، وعلى تمكين الثقافة الفرنكوفونية. طوال سنوات الانتداب، كانت هناك ثلاثة أنواع من المدارس في سوريا؛ الحكومية والخاصة والأجنبية، وجميعها تخضع لامتحان البكالوريا الصادر عن باريس، وأشهرها كانت التجهيز الأولى (حكومية)، ومدرسة اللاييك للذكور (فرنسية)، ومدرسة الفرنسيسكان للإناث (فرنسية)، ومدرسة دوحة الأدب للإناث (خاصة)، ومدرسة تجهيز البنات (حكومية)، ومكتب عنبر (حكومية)، والكليّة العلمية الوطنية (خاصة)، مع مدرسة القديس فنسنت (فرنسية، وهي مدرستا المنصور والفجر اليوم)، ومدرسة القديس يوسف في باب توما (فرنسية، مدرسة المحبة اليوم). ومن المدارس الفرنسية الشهيرة أيضاً كانت مدرسة Collège des freres Maristes، التي صار اسمها "مدرسة الأخوة"، بعد مصادرتها في مطلع الستينيات في عهد الرئيس أمين الحافظ.
في مطلع القرن العشرين، كانت هناك ثماني مدارس بابوية في سوريا، تابعة للفاتيكان، مع 12 مدرسة بريطانية، وسبع مدارس دنماركية، وأربعون مدرسةً روسيةً وعشرون مؤسسةً تعليميةً أمريكيةً. الكثير من تلك المدارس أغلق بسبب الحربين العالميتين، الأولى والثانية. عند وصول الحصري والسنهوري إلى سوريا، في منتصف الأربعينيات، كان عدد المدارس الفرنسية قد وصل إلى 110، فيها ما لا يقل عن 754 أستاذاً، و18،345 طالباً وطالبة.
كانت هناك ثلاثة أنواع من المدارس في سوريا؛ الحكومية والخاصة والأجنبية، وجميعها تخضع لامتحان البكالوريا الصادر عن باريس
كانت المدارس الحكومية صارمة، لا تقل انضباطاً وحزماً عن المدارس الفرنسية، فمن أصل 976 طالباً سورياً جلسوا أمام امتحان البكالوريا في ذلك العام، لم ينجح سوى 557 منهم، أي أنه لم يكن فيها مكان للواسطة أو التجاوزات. كما كانت نسب التسجيل في المدارس الحكومية أعلى من المدارس الخاصة، وتشير الأرقام الرسمية في تقرير ساطع الحصري، إلى أن 47% من الطلاب المسجلين في سوريا، كانوا في المدارس الحكومية.
مع ذلك، ظلت نسب القراءة والكتابة متدنية في سوريا: 28% في المدن الكبرى، و6% في المناطق النائية. وتشير تقارير الحصري إلى أن 9% فقط من سكان سوريا أكملوا دراستهم حتى شهادة البكالوريا خلال السنوات 1930-1940. وكان عدد الطالبات في المدارس لا يروق إلى طموحات أحمد الشرباتي وساطع الحصري، ففي درعا مثلاً جنوب البلاد، وفي الحسكة وإدلب، لم تكن هناك أي طالبة مسجلة في المدارس الحكومية. النسب كانت أعلى طبعاً في حلب (454 طالبة)، وحماه (188 طالبة)، وحمص (93 طالبة)، واللاذقية (127 طالبة). أما في دمشق، فقد وصل عدد الطالبات إلى 570 طالبة.
الانتقام من فرنسا
وضع ساطع الحصري وعبد الرزاق السنهوري هذه الأرقام على طاولة الوزير الشرباتي. الحصري كان يعرف معظم هذه المدارس جيداً، منذ أن كان وزيراً للمعارف قبل عقدين ونيف. أشرف الحصري يومها على تعريب المناهج السورية، ونفض الإرث العثماني عنها، وقد جعل اللغة الإنكليزية، عوضاً عن التركية، لغة ثانية في كل مدارس سوريا، ثم جاءت سلطة الانتداب لتلغي هذا القرار وتستبدل الإنكليزية بالفرنسية، بعد نفي الحصري. لهذه الأسباب كان الحصري ناقماً على الفرنسيين، وقد راق له كثيراً طلب الشرباتي التخلص من نفوذهم في المدارس السورية، وعده انتقاماً طال انتظاره.
وقد جاء في توصياته:
1- إلغاء اللغة الفرنسية من المرحلة الابتدائية، وجعلها إلزامية من الصف السادس فقط.
2- زيادة حصص اللغة العربية، وجعل الحصة خمساً وأربعين دقيقة (الثابتة حتى اليوم)، مع التركيز على الثقافة العربية والتاريخ العربي.
3- طيّ كل المنح الحكومية المخصصة للجامعات والمعاهد الفرنسية، وإيفاد الطلاب إلى بلاد أكثر حياداً من فرنسا، ليس لها تاريخ استعماري في الشرق الأوسط، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
استجاب الشرباتي لهذا الطلب، وألغى كل عقود المدرّسين الفرنسيين في سوريا، مع تحويل مخصصاتها لإعادة تأهيل مدارس الأرياف. ثم قام بإرسال 46 طالباً متفوقاً إلى بلجيكا لإكمال دراستهم على نفقة وزارة المعارف، مع 29 طالباً إلى سويسرا و36 إلى مصر. وفي تموز 1946، أرسل 13 أستاذاً من جامعة دمشق في جولة على الجامعات الأمريكية، للاطلاع على مناهجها وحضور احتفالات الذكرى 171 لاستقلال أمريكا. جالوا على جامعات هارفارد ويال وبرنستون، وحلّوا ضيوفاً على جامعته، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
وبعدها كانت المواجهة الكبرى مع الفرنسيين عندما أمر الشرباتي بإلغاء نظام البكالوريا الفرنسية في سوريا، مستنداً إلى مشورة الحصري والسنهوري. أوجد نظاماً تربوياً جديداً، ينتهي التدريس فيه في الصف الحادي عشر، يدخل بعدها الطالب إلى الجامعة بناءً على مجموع علامات سنوات دراسته الثانوية منذ الصف التاسع. وقد طبق هذا القرار في الأشهر الأخيرة من حكم الانتداب سنة 1946، بعد استقالة حكومة فارس الخوري وعودة سعد الله الجابري إلى السراي، وبعد أن بدأ الجيش الفرنسي انسحابه عن الأراضي سورية. لم يكن في وسع الفرنسيين إلا الاحتجاج ومخاطبة الحكومة السورية برسائل فيها الكثير من اللوم والغضب.
تشير تقارير الحصري إلى أن 9% فقط من سكان سوريا أكملوا دراستهم حتى شهادة البكالوريا خلال السنوات 1930-1940
ولكن انقلاب الشرباتي والحصري كان صادماً إلى درجة أن الطلاب وجدوا صعوبةً في التأقلم معه، واعترض عليه الكثير من الأهالي المتأثرين بالثقافة الفرنسية، فما كان أمام الحكومة إلا العدول عن هذا القرار سنة 1952، في عهد الرئيس فوزي سلو. وقد كتب خالد العظم في مذكراته عن هذه التجربة، التي هدفت إلى التحديث والتطوير ولكن نتائجها كانت عكسيةً، قائلاً: "كان برنامج الحصري كارثة على شبابنا، إذ أصبحت معرفتهم باللغة الأجنبية ضعيفة، أو بالأحرى معدومةً بتاتاً. وكان كل من ذهب إلى فرنسا لاستكمال علمه يشعر بهذا النقص ويستحيل عليه فهم ما يلقيه الأستاذ من دروس، مما كان يجبره على البقاء سنة إضافية لتعلم اللغة والتمرن عليها قبل أن يلتحق بإحدى الجامعات. وقِس على ذلك ما يعانيه طلاب الجامعة السورية من جهلهم إحدى اللغات الأجنبية، فيضطرون للاكتفاء بالكتب العربية القليلة، دون التمكن من مراجعة الكتب الفرنسية والإنكليزية لزيادة اطلاعهم في سائر العلوم".
وختم العظم حديثه بالقول: "إننا نسعى للتخلص من النفوذ الفرنسي في بلادنا، ولكننا نخطئ إذا أقصينا لغة فرنسا عن برنامج تعليمنا وأضعفناها، لأننا بذلك لا نحارب الفرنسيين بل نحارب شبابنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع