كانت الكتلة الوطنية أشهر الأحزاب السياسية في سورية في مرحلة الانتداب الفرنسي، فقد ولدت من رحم الثورة السورية الكبرى، وهدفت لتحرير البلاد عبر صناديق الاقتراع والنضال السياسي، بدلاً من العسكري. وقد حققت الكتلة عدداً من الإنجازات، ومنها الإضراب الستيني الذي أغلق المدن السورية طيلة ستين يوماً، وأدى إلى اعتراف فرنسي بها وبزعمائها، ممثلين شرعيين عن الشعب السوري.
كما استطاعت الكتلة الوصول إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية مرتين، كانت الأولى سنة 1936، عند انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، والثانية عام 1943، عند انتخاب الرئيس شكري القوتلي. ولكنها واجهت معارضة منظمة من الداخل السوري، حيث قال البعض إن تركيز الكتلة على القضية السورية جعلها معزولة عن محيط سورية العربي، والتحق الكثير من الشباب يومها، إما بالحزب الشيوعي السوري أو بالحزب السوري القومي الاجتماعي.
كلا الحزبين كان له نفوذ جيّد بين الشباب، وتحديداً عند الجامعيين والنساء المتعلمات. ولكن هذه الأحزاب العقائدية لم تنجح في اختراق كل فئات مجتمع الشباب، كالمتدينين مثلاً والمحافظين أو المعارضين للشيوعية والاشتراكية الماركسية.
وفي سنة 1933، ظهر تنظيم جديد أُطلق عليه اسم "عصبة العمل القومي،" رفع شعار "العروبة أولاً"، وخلق منصة شبابية لنفسه، أملاً أن تكون بديلاً عن الكتلة الوطنية. وقف خلف هذا المشروع المحامي الشاب عبد الرزاق الدندشي (28 عاماً حينها)، خريج جامعة بروكسل، والمهندس الشاب أحمد الشرباتي (25 عاماً حينها)، خريج معهد ماساتشوستس الأمريكي (جامعة MIT)، والوجيه الدمشقي عرفان الجلّاد والمحامي اللبناني شفيق سليمان.
الولاء للعشيرة ممنوع وكذلك الولاء للطائفة أو الأسرة والعروبة أولاً... تنظيم "عصبة العمل القومي"، حزب سوري لبناني منسي في تاريخ المشرق
أهداف ومبادئ
على مدى ستة أيام ما بين 24-29 آب 1933، عقد هؤلاء مؤتمرهم التأسيسي بفندق سعد زغلول، في قرية قرنايل بجبل لبنان. اختاروا قرنايل بدلاً من دمشق أو بيروت لتجنب ملاحقة المباحث الفرنسية النشطة في المدن الكبرى، لا في القرى والأرياف. قالوا إنهم مجتمعون ليس لمناقشة مستقبل سورية فحسب، بل جميع البلدان العربية، رافضين التجزئة التي فرضت من قبل الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى. وجاء في بيان التأسيس مطالبة عصبة العمل القومي بسيادة العرب في دولهم واستقلالهم التام وغير المشروط، مع السعي لتحقيق وحدة اقتصادية شاملة.
وقد أقر المؤسسون شعاراً لحزبهم الجديد: "لا نقول إلّا الصدق ولا نعمل إلا للحق ولا نخاف إلّا الله". تصدر هذا الشعار ترويسة أوراق عصبة العمل القومي، مع علمها المكون من أربعة ألوان (الأبيض والأسود والأخضر والأحمر)، يتوسطهم نسر حامل على جناحيه خريطة الوطن العربي.
أعضاء العصبة لم يكونوا من الملاكين القدامى أو من التجار والصناعيين، بل من المحامين والمُدرسين والمهندسين والصحفيين الشباب من أبناء الطبقة الوسطى. من قرنايل انطلقت خلايا العصبة السريّة، إلى سورية والعراق وفلسطين. من نابلس استقبلوا المفكر الفلسطيني واصف كمال والسياسي الشاب أكرم زعيتر (23 سنة)، ومن بغداد جاؤوا بمحمود الهندي (وهو دمشقي الأصل) الذي كان قد ساهم في إنشاء الجيش العراقي. ومن دمشق التحق بهم البروفيسور الشاب قسطنطين زريق (24 عاماً)، أستاذ التاريخ في جامعة بيروت الأميركية، وجبران شامية، ابن الوجيه الدمشقي المسيحي توفيق شامية، وهو أيضاً من خريجي الجامعة الأميركية. ومن بيروت انضم إليهم كل من كاظم الصلح (29 سنة) وشقيقه تقي الدين الصلح (25 عاماً)، الذي أصبح رئيساً لوزراء لبنان في مطلع السبعينيات.
منعت "عصبة العمل القومي" أعضاءها من تسلّم أي منصب حكومي في ظلّ الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان أو البريطاني في فلسطين، معتبرة أن أي حكومة في عهد الاستعمار تكون أكثر خطورة من الاستعمار نفسه
وقد جاء في برنامج العصبة إن الولاء للعشيرة ممنوع، وكذلك الولاء للطائفة أو الأسرة أو حتى إلى بلد معين دوناً عن غيره من البلدان العربية. أصروا على رفضهم الاعتراف بحدود سايكس بيكو، وطالبوا برفع الحدود الجمركية بين البلدان العربية، وبمقاطعة البضائع الأجنبية. كما نادوا بإلغاء امتيازات كل الشركات الغربية في الوطن العربي، ومنعوا تعامل الأعضاء مع أي مصرف غير عربي. وأخيراً منعت العصبة أعضاءها من تسلّم أي منصب حكومي في ظلّ الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان أو البريطاني في فلسطين، معتبرة أن أي حكومة في عهد الاستعمار تكون أكثر خطورة من الاستعمار نفسه.
وقد استلهم قادة العصبة من الكتلة الوطنية تجربة الأذرع الشبابية الشبه عسكرية، فأوجدوا تنظيم "أشبال العروبة". وفي شباط 1935 حاول قادة العصبة منافسة الكتلة إعلامياً وأطلقوا جريدة الشرق، ولكنها فشلت في الحصول على الدعم المالي المطلوب وتوقفت بعد صدور ثلاثة أعداد. تلتها مطبوعة جديدة سمّيت "العمل القومي"، ولكنها ولم تحقق أي نجاح يُذكر بسبب تفوق جريدة "الأيام" عليها، وهي الصحيفة اليومية التابعة للكتلة الوطنية.
ما بين الكتلة والعصبة
قادة الصف الأول في الكتلة كانوا من الملاكين القدامى، يعيشون من عائدات أراضيهم الخصبة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم. أما شباب العصبة فمعظمهم كانوا موظفين في القطاع الخاص، يتقاضون رواتب شهرية من عملهم. توزعت اختصاصات مؤسسي عصبة على الشكل التالي: %19 محامون، %19 صحفيون، %5 مهندسون، وطبيبان اثنان، هما عبد الكريم العائدي ورشدي الجابي. ومن جملة المحامين كان صبري العسلي (28 عاماً) ومحسن البرازي (29 عاماً)، الذين تناوبا على رئاسة الحكومة السورية في مرحلة الاستقلال. الأول كان خريج جامعة دمشق والثاني كان يحمل شهادة دكتوراة من جامعة ليون الفرنسية.
زعماء الكتلة كانوا يرفضون الاجتماع في المقاهي ويفضلون الفنادق أو المنازل، ولكن شباب العصبة كان لديهم مقر يومي في مقهى غازي بساحة المرجة، يجلسون فيه لعقد ندوات فكرية وفلسفة، يتحدثون فيها عن السياسة والتاريخ والدين.
حققت العصبة شعبية لافتة في مدينة حمص، معقل الكتلة الوطنية ومسقط رأس رئيسها هاشم الأتاسي. ابنه عدنان كان أحد مؤسسي العصبة، كما كان يعمل في نفس مكتب المحاماة مع عبد الرزاق الدندشي. انضم إليه أبناء أعمامه، مكرم وحلمي الأتاسي، وعملا مع محسن البرازي على توسيع قاعدة العصبة بين شباب حمص وحماة. وحدها حلب بين كافة المدن السورية ظلّت عصيّة على العصبة، بحيث لم تنجح في فتح مكتب لها أو في استقطاب أحد من شبابها اللامعين، نظراً لمعارضة زعيم حلب إبراهيم هنانو.
الموت المبكر
تعرضت عصبة العمل القومي إلى عدة هزات عنيفة قصّرت من عمرها وقضت على مستقبلها الواعد. كانت الضربة الأولى يوم وفاة ملك العراق فيصل الأول في 8 أيلول 1933، الذي كان أعضاء العصبة يعولون عليه كثيراً في دعمهم.
تعرضت عصبة العمل القومي إلى عدة هزات عنيفة قصّرت من عمرها وقضت على مستقبلها الواعد. كانت الضربة الأولى يوم وفاة ملك العراق فيصل الأول في 8 أيلول 1933، الذي كان أعضاء العصبة يعولون عليه كثيراً في دعمهم
غياب فيصل يتّم العصبة سياسياً، ولم يجد الدندشي مُعيلاً في نجله الملك غازي، الذي فضّل الابتعاد عن أي نشاط إقليمي والتركيز على ترتيب البيت الداخلي في بغداد. حاولوا التواصل مع عمّه الأمير عبد الله في الأردن، ولكنه ردهم خائبين، بسبب موقف الدندشي وزملائه من بريطانيا.
ثم جاءت وفاة عبد الرزاق الدندشي في 1 آب 1935، بعد اصطدام رأسه بعمود الكهرباء عند مروره أمام نادي الضباط في ترامواي الصالحية. وفاته كانت صدمة كبيرة لشباب العصبة، فهو لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره، وقد حرمهم موته المبكر من شخصيته القيادية التي جمعتهم وكان لها اليد العليا في انطلاقتهم. وكان الدندشي وجماعته لم ينجحوا في نسج علاقات مع قادة الدول العربية، باستثناء الملك فيصل، ما جعلهم بحاجة مزمنة وماسة لغطاء سياسي ودعم مالي.
في مقابل هذا الإخفاق، كان أقرانهم في الكتلة الوطنية يتنقلون من عاصمة عربية إلى أخرى، حاملين معهم برنامج الكتلة الوطنية وأهدافها، مروجين لأنفسهم على أنهم الممثل الوحيد للشارع السوري. ففي آذار 1934 حلّ زعيم الكتلة جميل مردم بك ضيفاً على الملك عبد العزيز في الرياض، وفي شهر تموز، استقبل مصطفى النحاس باشا، رئيس حزب الوفد، هاشم الأتاسي في الإسكندرية. وفي آذار 1935، سافر نائب دمشق عن الكتلة، فخري البارودي، إلى بغداد للقاء نوري السعيد، وكان لهذه الاجتماعات دوراً هاماً في إضفاء شرعية عربية على نشاط الكتلة، لم تحظ بها عصبة العمل القومي خلال حياتها القصيرة.
كما أنهم فشلوا في اختراق المجتمع التجاري في دمشق، وخلق أي تواجد لهم في سوق الحميدية، تماماً كما أخفقوا في خلق بيئة حاضنة لهم في حلب، بسبب ضعف مواردهم المادية، ولم يتمكنوا من نقل برنامجهم السياسي من النظري إلى العملي، وفتحوا جبهات كانوا بغنى عنها مع كل الأحزاب القائمة، مثل الحزب الشيوعي والقومي الاجتماعي والكتلة الوطنية.
رصيد جميع تلك هذه الأحزاب كان أكبر من رصيدهم بكثير، فالحزب الشيوعي مثلاً اتهمهم بالسكوت عن جرائم موسوليني في ليبيا، وجيّش مناصريه ضدهم في داخل جامعة دمشق وفي الأرياف، والحزب السوري القومي الاجتماعي شن هجوماً لاذعاً عليهم لعدم مشاركتهم في ذكرى شهداء ساحة المرجة يوم 6 أيار 1934.
وعند وصول الكتلة الوطنية إلى الحكم في نهاية العام 1936، بدأت نهاية عصبة العمل القومي، عند انشقاق عدد كبير من شبابها والتحاقهم بالعهد الجديد. أول المنشقين كان صبري العسلي، الذي رشّح نفسه للنيابة عن دمشق وفاز بمقعد على قوائم الكتلة الوطنية، متحدياً قرار العصبة بمقاطعة تلك الانتخابات. ثم جاء خروج عدنان الأتاسي عن صفوف العصبة، الذي عُيّن وزيراً مفوضاً في تركيا، وتكرر المشهد مع فريد زين الدين، الذي قبل منصب أمين عام وزارة الخارجية، ومع زميله الدكتور رشدي الجابي، الذي عُيّن رئيساً لمديرية صحة دمشق في حكومة جميل مردم بك الأولى.
وفي حماة انهار مكتب العصبة بعد استقالة غالب العظم لتأسيس تنظيم جديد أسماه "الشباب الحموي"، وفي دير الزور انشق جلال السيّد عن العصبة للانضمام إلى حركة البعث التي أصبحت بعد سنوات تُعرف باسم حزب البعث العربي. أمّا أحمد الشرباتي، فقد تم فصله عن العصبة بسبب تأييده لمعاهدة عام 1936، التي أوصلت الكتلة الوطنية إلى الحكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع