أسباب كثيرة أدت إلى بعثة النبي محمد، قبل ما يزيد 1443 سنةً، علَّ أبرزها التصدي لسلوكيات حقبة الجاهلية المعادية في كثير من تمظهراتها للإنسانية ذاتها، وتبرز في هذا السياق ظواهر تمجيد الحروب، والرق، ووأد البنات خشية جلب العار للقبيلة.
في السودان اليوم، والذي يُعدّ الإسلام دينه الرسمي، تستمر بعض مظاهر الجاهلية في عددٍ من مناطقه، كسلوك مستمر إلى يومنا هذا، فصوت الانتماء إلى القبيلة أعلى من صوت الانتماء إلى الكيانات الحديثة كالأحزاب، والاقتتال القبلي الذي يقضي على إثره الآلاف. وما أن تطوى صفحاته في منطقة حتى ينفتح كتاب الدم في أخرى، ثم تأتي حوادث قتل الفتيات في جرائم الشرف.
آخر سجلات قتل البنات، شملت خمس فتيات دفعةً واحدةً، قضين على يد أقارب لهن، وذلك احتجاجاً على ما أسموه تواصلهن مع شباب بدعوى الحب.
وإن كانت المسافة بين هذه الأحداث، قروناً عدة، فالرابط بينهما غير خافٍ، ومتمثل في عودة الجاهلية، ما يستدعي حاجةً ماسةً إلى وجود منقذ، خشية عودة وشيكة لوأد البنات كآلية للدفاع عن شرف القبيلة.
تفاصيل ما حدث
أورد موقع "دارفور 24"، أحد أكثر المواقع الإخبارية موثوقيةً، خبراً مفاده مقتل خمس فتيات من قرى "حرك" في إقليم دارفور، بعدما عثر على هاتف في حوزة إحدى القتيلات بعد تعرضها للاستجواب من قبل شقيق والدها، لتعترف بتواصلها مع أحد شباب المنطقة، وأقرت بمشاركة أربع أخريات لها في استخدام الهاتف للتواصل.
النتيجة كانت أن تم اقتياد الفتيات الخمس إلى الخلاء، وربطهن إلى جذوع شجر، والقيام بجلدهن بالسياط منذ الصباح وحتى حلول العصر، ليلقين حتفهن واحدةً تلو الأخرى.
وبشأن آخر تطورات القضية، أفاد عيسى أبكر، وهو إعلامي من إقليم دارفور، لرصيف22، بتوقيف عدد من المتهمين، لكنه كشف في الوقت ذاته عن اتصالات جارية حالياً بين ذوي الجناة والضحايا، لغلق ملف القضية بصورة ودية بمنأى عن ردهات المحاكم، عبر دفع ديات مالية لأهل الفتيات.
ولا تعد الحادثة الأولى من نوعها، إذ طفت فوق سطح الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حوادث قتل عدة لفتيات، جراء استخدامهن الهواتف النقالة، إذ تم قتل خمس فتيات أخريات في حوادث شبيهة ومنفصلة، في الآونة الأخيرة.
لا دولة ولا قانون
بقليل من الكلمات، تعكس حالة الغضب التي تمور في صدرها، اكتفت الناشطة النسوية والقيادية في "مبادرة لا لقهر النساء"، تهاني عباس، بتوصيف الحادثة بأنها تنم عن عدم دولة، وعدم قانون، وعدم أخلاق.
وبدأت المبادرة، في تحركاتٍ على مستويات عدة تشمل تنظيم وقفات احتجاجية، ومخاطبة كيانات حقوقية دولية، وإرسال فريق إلى المنطقة تمهيداً لرفع دعوى قضائية ضد الجناة.
وفي السياق، أكدت الناشطة النسوية، راضية تميم الدار، عن تراجع مريع وانتهاكات مروعة بحق النساء في الآونة الأخيرة.
وقالت لرصيف22، إن الجرائم ضد النساء تتزايد باضطراد، ويشمل ذلك القتل، والاغتصاب، والتحرش، والضرب والإيذاء، واتخاذ قرارات مصيرية نيابةً عنهن، بالإضافة إلى حصر وجود الفاعلات في أدوار هامشية بعيداً عن كابينة القيادة، مؤكدةً أنّ الأنكى في حوادث القتل، أن كثيراً منها لا يصل إلى ردهات المحاكم، ويجري وأدها بتسويات تساهم في زيادة الجرائم مقابل زيادة الصمت في تلك المجتمعات.
ولفتت إلى أنهن في السودان، قد كُتب عليهن خوض المعارك على كل الجبهات، بدايةً من معركتهن الخاصة بالتمثيل السياسي ومحو القوانين التمييزية، وحتى القضايا ذات الطابع الجنائي المتحرك فاعلها من منصات أفكار مجتمعية بالية، لردع المجرمين، وإنهاء حالات انتهاك الخصوصية تحت مختلف المسميات.
القبيلة والتعالي على النساء
السؤال المهم، لماذا تبرز هذه الجرائم في السياق الدارفوري، أكثر من بقية الأقاليم السودانية.
رداً على ذلك، تقول الناشطة في أبحاث السلام، حنان هارون، إن الانتهاكات ضد النساء في السودان هي فعل عام، نتاج عقود من الثقافة المجتمعية التي ترتكز على القبيلة لتمجيد الرجال والتقليل من شأن النساء.
بيد أنها عادت وقالت لرصيف22، إن الحروب في دارفور أدت إلى ظهور هذه الجرائم، جراء قوة آصرة الانتماء إلى القبيلة لدى الرجال، وتالياً زيادة مشاعر السمو والتعالي عندهم.
وأشارت إلى أنه بالرغم من أن النسوة هن من يدفعن ثمن فاتورة الحروب، إلا أن الثقافة هناك ما تزال تمجد الموت والرجولة بأكثر مما تفعل مع الحياة والنسوة، وما أدّل على ذلك من ذيوع صيت الحكّامات (وهن شاعرات يحثّنّ الرجال على القتال) في مقابل النسوة العاديات اللواتي يقمن بالأعمال والمهام الشاقة التي تتضمن تربية الأبناء.
وتصف حنان ذلك الوضع الذي يتضمن عدم خروج النساء من سياقات تصورات الشرف المتوارثة جيلاً بعد جيل، وأداء الوظائف الشاقة لأجل إراحة الرجال وإعدادهم للمهام القتالية بما في ذلك الإغارة على القبائل المجاورة، بأنه "الجاهلية بأم عينها".
وتابعت: الشباب بالرغم من تعليم بعضهم، لا يناهضون القوانين القبلية طالما تكرس مصالحهم، وتسمح لهم بالزواج ممن يردن حتى من دون مباركتهن، بل فقط بالتوافق مع ذويهن.
وفي الصدد قالت إنها لا تستبعد أن تكون الجريمة الأخيرة قد جرى تلفقيها للشابة الأولى لقطع الطريق على زواجها من شخص ترغب في الارتباط به.
السياسة حضوراً
يقول القيادي الشاب في حزب المؤتمر السوداني، سموأل جابر، إن أزمة السودان سياسية بامتياز. ويضيف لرصيف22، إن إقليم دارفور وزيادةً على دخوله في حروب مدمرة منذ العام 2003، فإن سكانه يرزحون تحت وطأة الجهل، وغياب المظلة التعليمية، زد على ذلك أن الدولة كثيراً ما تلجأ إلى عقد اتفاقات سلام فوقية مع فصائل مسلحة، غير معنية بأصحاب المصلحة الحقيقيين.
"الجرائم ضد النساء تتزايد باضطراد، ويشمل ذلك القتل، والاغتصاب، والتحرش، والضرب والإيذاء، واتخاذ قرارات مصيرية نيابةً عنهن، بالإضافة إلى حصر وجود الفاعلات في أدوار هامشية بعيداً عن كابينة القيادة"
ويشدد على أن الدولة تساهم في أن تكون شريحة النساء في دارفور هي الأكثر ضعفاً، والأقل تعليماً، وهو وضع يسمح بإخضاعهن للسيطرة الذكورية.
وواصل: في ظل تحكم عقليات رجال الإدارة الأهلية الذين يعدّون القانون هناك، فإن الصمت على جرائم قتل النسوة في جرائم الشرف أمر طبيعي، وفي أحسن الفروض سيتم عقد مجالس تسويات (جودية) تؤدي إلى إفلات المجرم مقابل حفنة من المال أو بعض الإبل والماشية.
"إقليم دارفور وزيادةً على دخوله في حروب مدمرة منذ العام 2003، فإن سكانه يرزحون تحت وطأة الجهل، وغياب المظلة التعليمية"
حوادث عادية
رفض القيادي في الحركة الإسلامية في إقليم دارفور، سامي بخيت، الحديث عن وجود نسق ممنهج يستهدف النساء في السودان أو في إقليم دارفور.
ظوقال لرصيف22، إن الجرائم التي تنطلق من منصات غيرة على الدين والنساء، تحدث في العالم برمته، وهذا لا يمنع بحال اتخاذ إجراءات قانونية بحق المتجاوزين.
وتابع: علينا الابتعاد عن إطلاق توصيفات تعميمية عن "جاهلية المجتمع"، خاصةً أن التوصيف هذا نفسه حين أطلقه إسلاميون في وقتٍ سابق، لم يكن محل ترحاب من طبقة الساسة السودانيين كونه مدخلاً لتقويم المجتمع بكافة الوسائل بما في ذلك استخدام السلطة والقوة.
وختم بالقول: القتل يظل جريمةً مستنكرةً، ولكن ذلك لا ينبغي استخدامه كقميص عثمان لحرمان الأسرة والدولة على السواء من ممارسة الولاية والحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لنتجنب الوأد
كيف يمكن أن تنتهي جرائم قتل الفتيات لمجرد حملهن هواتف نقالةً، أو تواصلهن مع حبيب، وربما زوج مرتقب؟
يرى سامي بخيت، أن ذلك رهن بإشاعة التربية الدينية في أوساط المجتمع، في وقت تطالب فيه راضية تميم الدار، بضمان عدم إفلات الجناة من العقاب. وفي السياق ذاته، يقول سامي بخيت بأهمية فرض القانون بالتوازي مع تجريم نظام التسويات في جرائم القتل، أما حنان هارون، فتصر على أن الحل الوحيد متمثل في تفكيك دولة القبائل ومجتمعها، لصالح دولة المؤسسات الحديثة ومجتمعها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...