هناك أصوات قليلة تدخل الوجدان مباشرةً. تستمع إليها للمرة الأولى، فتشعر بالألفة معها، وكأنك سمعتها مراراً عدة من قبل. تنقل ألفتها تلك إلى ما تغنّيه فيُخلق لديك شعور بأصالة ما تسمعه واتصاله بتراث قديم لديه رسوخ في وجدانك وذائقتك الموسيقية، ومن تلك الأصوات، صوت اللبنانية عبير نعمة.
كانت بداية ظهور عبير نعمة، في أحد برامج مسابقات المواهب الغنائية في العام 2004. وبالرغم من انسحابها من المسابقة لظروف صحية ألمّت بوالدها في ذاك الوقت، إلا أن صوتها واسمها بقيا حيَّين في أذهان من تابعوا البرنامج حينها، ما مثّل شهادةً بنجاح قريب.
تمكنت عبير نعمة من أداء أغنيات فيروز وأسمهان من دون أن تفقد لمستها الخاصة التي أنبأت بمطربة مهمة قادمة، ربما لن تضيع قدراتها الصوتية في الظل العارم لمن تؤدي أغنياتهم، كما سقطت مجايلاتها اللائي لم يتمكنّ من صناعة شخصية فنية مستقلة
غنّت نعمة وقتها لفيروز وأسمهان، العلامتان الكبيرتان في الغناء العربي على اختلاف لونيهما، ومساحات صوتيهما، إلا أنها تمكنت من أداء أغنيات النجمتين الكبيرتين بتمكّن لافت، من دون أن تفقد لمستها الخاصة التي أنبأت بمطربة مهمة قادمة، ربما لن تضيع قدراتها الصوتية في الظل العارم لمن تؤدي أغنياتهم، كما سقطت مجايلاتها المصريات ممن صرن مجرد مقلّدات لأم كلثوم، ولم يتمكنّ من صناعة شخصية فنية مستقلة، كآمال ماهر مثلاً.
مرت نعمة بالعديد من التجارب وقدّمت أغنياتها الخاصة "سينغل" (Single)، على استحياء، وسعت إلى التعاون مع كبار الموسيقيين اللبنانيين، فقدّمت مع الموسيقار شربل روحانا أغنيةً "القهوة" عام 2007، ثم أغنيات أخريات، إلى أن قامت بتقديم ألبوم يمزج بين الغناء الصوفي الإسلامي والمسيحي (الترانيم)، أسمته "صلاتي" صدر في العام 2009.
بعدها عملت المطربة الشابة على برنامج وثائقي عن موسيقى الشعوب اسمه "إثنوفوليا"، فيه تذهب نعمة إلى البلدان المختلفة لتتعرف على المدن والقرى والسكان ودور الموسيقى في حياتهم، واهتمامهم بها. تسمعهم وتتعلم عن تفاصيل حياتهم من أكل وملبس ومناسبات وتشاركهم إياها، وتتعرف على الآلات الموسيقية الخاصة بهم وعلى تاريخهم الموسيقي، كما تستمع إلى المقطوعات التي تحمل هويتهم فتغنّي معهم وتتعلم منهم.
لن تستغرب ذلك الشغف منها، عندما تعرف أنها باحثة في مجال الموسيقى، ولها أوراق علمية عدة في هذا الشأن. كان البرنامج والتجربة مهمين، وينبئان بأعمال لها قد تكون نتاجاً لهذه الثقافات المختلفة التي احتكّت بها، أو هذا ما كانت تنتظره.
كما قامت أيضاً ببطولة بعض الأعمال المسرحية لإلياس الرحباني، منها "الأندلس جوهرة العالم"، وحصلت على العديد من الجوائز الموسيقية منها "موريكس دور".
التخلّي عن التميز دائماً ما يكون لافتاً لجمهور الغناء البديل بالذات، والذين اختاروا مفارقة السائد في ذوقهم الموسيقي، لذا يشعر هؤلاء ببعض الضيق من مفارقة الأصوات التي تعد في بداياتها بوجود مشروع موسيقي، ثم تتّجه صوب بحر الغناء والجمهور الواسع للـ"ماين ستريم"
ترى نعمة في المتنبي مثالاً لأهم شعراء العربية ونموذجاً للسفر والترحال، لذا تتخذ من قصائده مشروعاً في أغنيات عدة أبرزها كانت أغنيتها "المتنبي مسافراً أبداً"، والتي غنّتها بالعربية والفرنسية والألمانية والإنكليزية.
ثقافتها الموسيقية كذلك حددت توجهها في اختيار الكلمات، فإلى جانب المتنبي، تغنّي نعمة من كلمات وديع سعادة ومحمود درويش، من دون أن تهمل الغناء بالدارجة اللبنانية متعاونةً مع شعراء لبنانيين معاصرين في هذا الصدد.
خياراتها كانت لافتةً للموسيقار مارسيل خليفة، الذي تعاون معها ليقدما ألبوم "غنِّ قليلاً" في عام 2018، حيث منح صوتها خليفة مساحةً واسعةً لتقديم ألوان مختلفة من الفلكلور الشرقي إلى الغناء الكلاسيكي (الأوبرالي)، ليحتوى الألبوم على أغنيات "الحنة" و"يا محلا نورها"، ومن كلمات محمود درويش غنّت "فكر بغيرك"، ومن كلمات قاسم حداد غنّت "الموسيقى".
"حكاية" و"بيبقى ناس"
في عام 2019، وبعدما حقق صوت عبير نعمة شهرةً معقولةً في دوائر "نخبوية" إلى حد ما في بلدها لبنان، نتيجة تقديمها الأغنيات التي تُحسب ضمن قائمة "الغناء البديل"، قدّمت عبير ألبوماً حاولت فيه التواصل مع فئات أوسع من الجمهور، من خلال تقديم أغنيات قريبة من أغنيات البوب الرائجة الـ"ماين ستريم"، وهو ألبوم "حكاية" الذي غنّت فيه أغنيات مخلصة لتيار الأغنية البديلة، وأخرى رائجة. وغنّت بلهجتها اللبنانية متعاونةً مع الملحنين مروان خوري وتانيا صالح (وهي نفسها من أعمدة الغناء البديل)، وشربل روحانا وغيرهم، كما كتب لها جرمانوس جرمانوس أربع أغنيات، أي نصف الألبوم، فكان "حكاية" بمثابة أول انطلاقة تجارية خاصة بها.
في العام الماضي 2021، صدر ألبوم "بيبقى ناس"، وجاءت أغنيته الرئيسية التي يحمل الألبوم اسمها من كلمات ولحن وتوزيع ريان الهبر. واستمرت في هذا الألبوم في التعاون مع مروان خوري وأسامة الرحباني، لكن الألبوم كان تجارياً أكثر في موسيقاه وموضوعاته عن الحب والفراق والحيرة وغيرها من المشاعر المختلطة، كما غنّت فيه أغنيةً لوطنها لبنان.
"بصراحة" إلى البوب التجاري
أصدرت نعمة ألبوم "بصراحة"، مؤخراً، بعد عام فقط من الألبوم السابق، مستكملةً مسيرتها مع غناء البوب التجاري، وهذه المرة متخلصةً من كل أثر كلاسيكي، ما يدعونا للتساؤل إن كانت قد انقلبت على بداياتها التي كانت تعد بفنانة مستقلة تبحث عن هوية وفن متميز عن السائد؟ ولكنها أكملت في الألبوم التعاون مع غسان مطر وجرمانوس جرمانوس، بينما لم يظهر أي اختلاف في الثقافات أو اللهجات الأخرى غير المصرية التي غنّت بها أغنيةً واحدةً.
من أنجح أغنيات الألبوم أغنية "بلا ما نحس"، التي صدرت على اليوتيوب وحققت نجاحاً كبيراً، بينما أغنية "اعمل ناسيني" التي تعاونت فيها مع الشاعر الغنائي المصري أمير طعيمة والملحن إيهاب عبد الواحد، لم تقدّم أي تجربة مميزة، ولا يمكن النظر إليها على أنها تجربة جديدة في ذاتها، ربما هو تجديد بالنسبة لعبير نعمة أن تغنّي بالدراجة المصرية للمرة الأولى، أغنيةً مكتوبةً لها لا أغنية من التراث.
برغم هوية نعمة الخاصة وبداياتها المغايرة، إلا أنها باتت في ما تقدّمه حالياً تبحث عن القرب من المعاصرة والرواج الجماهيري، لكن من دون ابتذال. إلا أن التخلّي عن التميز دائماً ما يكون لافتاً لجمهور الغناء البديل بالذات، والذين اختاروا مفارقة السائد في ذوقهم الموسيقي، لذا يشعر هؤلاء -وأنا منهم- ببعض الضيق من مفارقة الأصوات ذات الثقافة والجمال، والتي تعد في بداياتها بوجود مشروع موسيقي، ثم تتّجه صوب بحر الغناء والجمهور الواسع للـ"ماين ستريم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...