شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كلما كوّن عائلةً خسرها… محمد قرقوز يختصر المأساة السورية

كلما كوّن عائلةً خسرها… محمد قرقوز يختصر المأساة السورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 16 فبراير 202304:47 م

يجلس القرفصاء، ويسند ظهره المبلل إلى حائط أحد المباني المهدمة في مدينة جنديرس في شمال حلب، يناظر فرق الإنقاذ وهي تحاول إخراج زوجته وأطفاله وجيرانه من تحت الأنقاض. بيده سيجارته الملفوفة بشكل عشوائي على غير العادة، والتي تنطفئ كل بضع ثوانٍ، وبين نفخة وأخرى، تخرج من فمه الذي وكأنه تجمّد إلى الأبد، بعض أبيات العتابا الحزينة التي تتحدث عن الفراق، بصوت شجي تخالطه الدموع وهو يرى ثمرة محاولته الثالثة لبناء أسرة تذهب أدراج الرياح.

ينحدر محمد قرقرز (39 عاماً)، من بلدة البويضة الشرقية، بالقرب من مدينة القصير غرب حمص. كان مقاتلاً سابقاً في الجيش الحر، خسر زوجته الأولى وطفلتيه رنيم 7 سنوات، وريهام 4 سنوات، في 22 أيار/ مايو 2013، في قصف للنظام السوري استهدف منزلهم في القرية إبان محاولة النظام وحزب الله اللبناني اقتحام منطقة القصير. ودّع عائلته، ودفنها وأكمل حاملاً بندقيّته بحثاً عن "الحريّة".

يقول محمد: "عندما خرجت في هذه الثورة للمطالبة بالحرية، وأُجبرت على حمل البندقية للدفاع عن أهلي، كنت أعلم أنني يمكن أن أُقتل، لكن لم يخطر ببالي أني يمكن أن أدفع فاتورة هذه الثورة وحدي. أنا راضٍ بقضاء الله، لكن الحمل بات ثقيلاً عليّ. خسارة أطفالك ثلاث مرات أمر مرهق جداً، للروح قبل الجسد".

يعود الرجل الثلاثيني الذي تبدو اليوم عليه ملامح السبعين، بالذاكرة إلى العام 2013، حين طلب من زوجته أن تبقى هي وأطفاله في منزل متطرف قليلاً عن بلدته البويضة، لاعتقاده بأنه آمن نسبياً. حمل بندقيته والتحق بباقي المقاتلين على الجبهة، في يوم كان عنيفاً كما يروي، إذ "كان القصف جنونياً على مناطق القصير والمعارك عنيفة جداً وبزحمة القتال وتفاصيله نسيت عائلتي وانشغلت بنفسي وبمن معي من رفاق السلاح، لكن نداءً عبر القبضة اللا سلكية التي تُستخدم للتواصل، من صديق يقول لي محمد يجب أن تعود فوراً إلى المنزل، أعلمني حينها أن أمراً ما جرى. ركبت دراجةً ناريةً من الجبهة وتوجهت إلى المنزل فوجدت بعض الناس يحاولون رفع الأنقاض، فساعدتهم وأخرجت زوجتي وأطفالي من تحت الأنقاض وقمت بدفنهم".

عندما خرجت في هذه الثورة للمطالبة بالحرية، وأُجبرت على حمل البندقية للدفاع عن أهلي، كنت أعلم أنني يمكن أن أُقتل، لكن لم يخطر ببالي أني يمكن أن أدفع الفاتورة 3 مرّات

قاوم إلى أن سقطت المنطقة. فمشى إلى يبرود ومنها إلى بلدة مهين، ليستقر به المقام في بلدة الغنطو في ريف حمص الشمالي المحاصر عام 2013. اعتقد أنه سيستقرّ. تزوّج بعد سنة أو أكثر ورُزق بطفل أسماه أيهم، على اسم شقيقه الذي قُتل في معارك القصير، لكن الفرحة لم تدم طويلاً. طائرة روسية تُحلّق في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 في سماء المنطقة، وتُلقي بقنبلة شديدة الانفجار على ملجأ كان يحتمي فيه الناس على أطراف البلدة، وفي الملجأ زوجة محمد وابنه أيهم. ماتا، كما مات الكثير من الأطفال والنساء الذين كانوا يحتمون فيه. تلك كانت مجزرةً لعلّ كثيرين لا يتذكرونها من كثرة المجازر التي صارت وثيقة الصلّة بنا نحن السوريين عليه.

يقول: "كنت مطمئناً إلى زوجتي وطفلي، ولم يخطر ببالي أنني سأشارك في إخراج جثثهم برفقة 40 جثةً قُتلوا في غارة واحدة استهدفت ذلك الملجأ بقنبلة شديدة الانفجار، ليُقتل الجميع على الفور. حزنت كثيراً وعشت أوقاتاً صعبةً، لكن وجود الأصدقاء ورفاق السلاح خفف عني كثيراً لكني لم أنسَ ولن أنسى أبداً".

يومها أنا، معد التقرير هذا، كنت حاضراً وشاهداً على تلك المجزرة. التقيت محمد في أثناء إعدادي تقريراً عن المجزرة لصالح قناة الجزيرة، بالرغم من فداحة خسارته، كان راضياً بقضاء الله، ويحاول المساعدة في إخراج الجثث من تحت الأنقاض.

بعدها، لم يقبل بالزواج مجدداً خوفاً من أن يخسر عائلته من جديد، وبقي مقتنعاً بهذه الفكرة حتى منتصف العام 2018، عندما أبرمت المعارضة اتفاق تسوية مع النظام برعاية روسية، يقضي بخروج من يريد من معارضي النظام إلى شمال سوريا، وبالفعل كونه مقاتلاً في الجيش الحر، خرج إلى ريف حلب واستقر به المقام في بلدة الأتارب.

ولأن المنطقة هناك محررة من النظام ومليشياته وبعيدة نسبياً عن القصف، حاول من جديد بناء أسرة، ليتزوج من جديد، لكن فرحته بزوجته الجديدة لم تدم طويلاً بسبب ملاحقة هيئة تحرير الشام له بغية اعتقاله بحجة أنه شارك مع فصائل الجيش الحر ذات مرة في قتال جبهة النصرة في ريف حمص، ليهرب مع زوجته إلى منطقة عفرين ويستقر في بلدة جنديرس ويعتزل القتال بناءً على رغبة زوجته، ويعمل بائعاً متجولاً للخضروات على سيارة صغيرة من نوع سوزوكي، ويُرزق بطفلين، أسامة 3 سنوات، وهديل سنة ونصف. كان إلى ما قبل أيام، يرى الشمس تشرق من عيونهما.

نسمع كُل يوم عن قصص السوريين ومأساتهم، في الحرب واليوم في الزلزال، لكن هل سمعنا يوماً عن محمد قرقوز؟ كلّا. محمّد كُل ما فكّر بتكوين عائلة، تموت. آخرها في جنديرس

اعتقد أنه استقرّ، برغم كُل تعب الحياة في مدينته الجديدة. شعر بأنه مُكتفٍ وبأن الكؤوس المرّة قد انكسرت إلى غير رجعة، لكنّه كان يحلم. أتى الزلزال، نزل البناء على من فيه. خرج محمد من بين الركام ليجلس، مع سيجارته، ينتظر متى تُنتشل جثث زوجته وطفليه، وكأنه كان يعلم أنهم لن يخرجوا أحياء. استسلم ساعةً ووجد نفسه أمام الركام. جلس يحزن وحيداً، بجسده المنهك والروح المرهقة التي نالت منها كثرة الخسارات.

يروي محمد أنه في يوم 6 شباط/ فبراير، الساعة الثانية عشرة ليلاً، خرج من منزله ليقود سيارته إلى سوق الهال في أعزاز من أجل شراء الخضروات اللازمة ليبيعها في اليوم التالي. وصل إلى هناك قرابة الساعة الثانية صباحاً وجلس في سيارته في انتظار وصول الخضروات من التجار، وفي تمام الرابعة وثلاثة عشر دقيقةً تماماً بدأ الزلزال.

يقول: "في البداية شعرت بهزة خفيفة، لكنها أصبحت أقوى وبدأت أسمع صوت انفجارات، ولا أعلم هل كان هذا صوت الأرض أم المباني التي كانت تنهار. خرج الناس إلى الشوارع في مشهد لم أرَ مثله في حياتي".

يضيف: "سريعاً ركبت سيارتي محاولاً الخروج من أعزاز، لآتي وأطمئن إلى عائلتي، لكني لم أستطع بسبب الازدحام الكبير والهلع بين الناس وتوالي الهزات، وبعد عناء شديد خرجت ووصلت إلى جنديرس في التاسعة صباحاً. كان المنظر مرعباً. غالبية الشوارع مغلقة بسبب الدمار، نزلت من سيارتي وركضت باتجاه منزلي وكانت الصدمة. فرق إنقاذ والمنزل على الأرض تماماً. علمت أنني خسرت عائلتي للمرة الثالثة. جلست وانهرتُ باكياً، وأنا أراقب كيف يخرجونهم من تحت الأنقاض".

هي قصة، رُبما تختصر الكثير، ليس فقط عمّا حلّ بالسوريين بعد الزلزال، بل عن سياق الآلام المتواصلة منذ أن قرروا "التعبير" عن رأيهم والمطالبة بأبسط حقوقهم. ومحمد وحده، يحمل جبلاً من العذاب. يجلس بجانب الركام الذي صار مرافقاً له، ويتذكر خسارته الأولى، والثانية، والثالثة، ينفح بسيجارته، ويحاول أن يُصدّق أن ما يحصل معه هو واقع، لكنّه غير قادر على فعل ذلك.

تنويه: لم يكن من السهل عليّ إقناع محمد، بإجراء مقابلة وهو في هذه الظروف، لكن الصداقة القديمة بيننا لعبت دوراً في ذلك، وبرغم علمي بتفاصيل قصته كاملةً كان لزاماً إجراء المقابلة معه ليتحدث بلسانه عما جرى له، وخريطة الحزن التي رافقت حياته منذ أن قرر أنه يتسحق الحياة، واعتقد أنه ثار من أجل ذلك وأن ثورته ستنتصر وسينال ما يحلم به، لنفسه ولوطنه سوريا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image