منذ لحظة تجاوز الحدود السورية إلى مطار بيروت، وفي قلبي دعوة واحدة هي ألا يصيب مكروه أحداً من عائلتي. لكن الواقع الذي حصل أن الموت قد حام لمدة أربعين ثانيةً فوق رؤوس من أعرفهم قاطبةً، وراحت الأرض تهتز من تحتهم والأبنية تسقط أمام أعينهم، فكيف نسيت أن أدعو بألا يحدث هذا السيناريو؟
حقيقةً، لم تصل مخيلتي إلى هذا الحد. بالله عليكم من يستطيع تخيّل زلزال بقوّة 7.8 درجات على مقياس ريختر، يضرب بلاداً تعيش حرباً منذ اثني عشر عاماً، ويقع أكثر من 90% من شعبها تحت خط الفقر، عند الساعة الرابعة وسبعة عشر فجراً خلال شتاء قارس، وسط انعدام الوقود والكهرباء؟
اعتادت والدتي إرسال "صباح الخير" عبر تطبيق واتس آب يومياً، منذ سفري إلى الهند قبل نحو أربع سنوات. تصلُ الرسالة في تمام الساعة التاسعة صباحاً بتوقيت الهند، أي الساعة السادسة والنصف صباحاً بتوقيت سوريا، حتى أنها في حالات انقطاع الكهرباء وفراغ البطاريات من الشحن كانت ترسلها، بحيث تصل عند المساء أو عند عودة التيار الكهربائي أو تحسّن شبكة الإنترنت، المهم بالنسبة لها أن ترسلها عند استيقاظها. إلا في تاريخ السادس من شباط/ فبراير، لم تصل الرسالة! رنّ الموبايل قبل موعد الرسالة اليومية، بدأ قلبي يخفق بسرعة، أجبت على المكالمة: "صار زلزال وطالعين من البيت، ما معنا شحن وما في كهربا"، وانقطع الاتصال.
صفيرٌ يكاد لا ينقطع، أسمعه في رأسي حتى اللحظة. مرّت دقيقتان حتى تأكدتُ أني لست في كابوس، ثم صرخت "يا الله" خرج صوتي من كل مسامات جسدي. كان يشبه محاولة التنهّد من تحت الركام الذي شاهدته مباشرةً حين دخلت إلى فيسبوك وقرأت فيه خبر وفاة صديقي محتضناً زوجته وطفلته. تتالت المناجاة والصور والفيديوهات والأخبار. أردت الاطمئنان على الجميع دفعةً واحدةً، لكنّي لم أستطع التواصل مع أحد، بدأ الوخز يسري في كلتا يديّ مستقراً في قلبي. تكرر الشعور ألف مرة في الثانية.
حدثتني صديقتي عن البوذية وكيف تميل إلى أن تكون صامتةً تجاه حقيقة وجود إله. صمتت قليلاً وأردفت: "لكن في حال افترضنا وجوده هل يُعقل أن يكون قاسياً إلى هذا الحد تجاه سوريا؟"
مرّت صور الجميع في مخيلتي، كل الذين أٌحبّهم، حتى الذين انقطع التواصل بيني وبينهم، ماذا حلّ بالفتاة التي أحببتها قبل عشر سنوات وكانت تسكن في الطابق الأخير من البناء؟ كانت تشبه القمر، فهل سقط القمر؟ هل اختفى صوت العجوز التي تصلّي لجميع شبّان وشابات الحي عند ذهابهم إلى الجامعة في الصباح؟ على مَن يستند أبي في هذه اللحظات؟ صرت أعيش أيامي منذ لحظة وقوع الكارثة بين واقعين: الأول أقضيه في الجامعة والحياة الطبيعية، وآخر افتراضي أبكي فيه صورة الضحايا والمنكوبين، أتأمل الناجين وأستمع إلى أصواتهم، أقرأ نعوات الضحايا بسرعة خوفاً من مصادفة اسم أعرفه.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، انتشرت شائعة بأن زلزالاً سيضرب سوريا وتركيا. حملني أبي متوجهاً إلى باحة المدرسة المجاورة ومعنا كل سكّان الحي، بقينا حتى الصباح ولم يحدث شيء. اليوم تحقق الكابوس، ضرب الزلزال حقاً، تصدّعت باحة المدرسة ومعها قلبي، هذه المرة حملت صورة أبي وركضت في غرفة السكن الجامعي التي تبعد آلاف الكيلومترات عن اللاذقية، حتى استلقيت على الأرض منهكاً كما استلقيت في تلك الباحة، كان السقف يقترب مع كل إشعار يرد، أخشى فيه ورود خبر وفاة جديدة فيهبط البناء على رأسي.
لم تسمع صديقتي وهي من مملكة بوذية تطل على جبال الهيمالايا باسم سوريا من قبل، ولا تعرف ماذا يحصل في كل عالمنا. بعد وقوع الزلزال بحثَت وقرأَت مطولاً، كان ردّها بحديث عن البوذية وكيف تميل إلى أن تكون صامتةً تجاه حقيقة وجود إله. صمتت قليلاً وأردفت: "لكن في حال افترضنا وجوده هل يُعقل أن يكون قاسياً إلى هذا الحد تجاه سوريا؟".
لطالما خضتُ في فكرة الانتماء مع أصدقائي، وفي كل مرة كنا نتفق على أنه شعور لا يُقدّر بثمن، إلا أننا لا نريده لبلاد قضمت أهم عشر سنوات من عمرنا. كانت الخطة أن نبحث عن أرضٍ تحملنا برفقٍ. الآن تعرّينا الطبيعة وتكشف كذبتنا السخيفة، نحن جميعاً نحبُّ أرضنا وننتمي إليها. أقسَمت صديقة على نذر صحتها كرمى لتبنّي طفل ناجٍ، أحدهم أفرغ محله من الملابس وأرسلها للعائلات التي تشعر بالبرد، رجل ستيني قاد دراجته النارية من قريته البعيدة في طرطوس إلى مدينة جبلة ليساعد في رفع الأنقاض، شبان من درعا ينهون تعبئة قافلة مساعدات ويغنون لها: "يا رايحين ع حلب حبّي معكم راح"، عسكري على حاجز تبرّع بكيلو أرز لا يملك غيره لسيارة تنقل مساعدات إنسانيةً، وأخصائية نفسية وضعت منشوراً كتبت فيه: "إذا محتاج تحكي أنا هون".
طلبت مني مرشدتي النفسية التنفس بعمق والمشي نصف ساعة يومياً من دون قراءة أخبار عن الزلزال. عدت إلى عيادتها بعد ساعتين، وتحدثتُ إليها عشرين دقيقةً. ردَّت بِعناقٍ ودمعة
مَنْ زرع كل هذا الانتماء في ذواتكم. من غرس فيكم هذه البذور الطيبة؟ من جبَلكم على كل هذه الشهامة؟ هي نفسها فرضية صديقتي البوذية عن حقيقة وجود إله، لكنني أظنها تسبِّحه الآن على هذا القدر من الرحمة".
قد يُحسب لهذه الفاجعة أنها وحّدت كلمة السوريين على استحالة الأمر منذ أكثر من عشرة أعوام، هذه المرة لم يقتصر الدعاء لإدلب أو اللاذقية، حلب أو حماه، بل تجاوز الحدود إلى تركيا، كلُّ منا يريد سوريته كاملةً والسوريين كلهم سالمين. يريد البشرية بخير، حتى الذين لجأوا أو هاجروا، بقوا أو يفكرون في الرحيل، كانوا يريدون الاطمئنان والسَكينة لبعضهم، ويُحسب لهذا الزلزال أن ما قبله ليس كما بعده: "كان البقاء مشروطاً بزوال الآخر، أما الآن فهو مشروطٌ بوجودنا معاً".
لطالما شعرت بالابتذال في كل مرة اضطر فيها إلى قراءة اسم طائر الفينيق. لم أصدّق يوماً هذه الأسطورة ولم أعلّق عليها الآمال، لكن الطفلة التي تضم أخاها وتحمي رأسه من الحائط المهدم وهي لا تزال عالقةً تحت الأنقاض، أكدت لي أن الأسطورة لا تنتظر منا أن نؤمن بها أصلاً، بل هي حقيقة تجلّت في نجاة تلك الطفلة وأخيها.
كتبت الكثير عن الألم الذي نتجرعه خلال هذه السنين العجاف، عن الحصار والموت، الخطف والجوع، الكهرباء والبرد، والفقر والحاجة، إلا أن كلمة "منكوبة" بعد أسماء اللاذقية، حلب، إدلب وحماه استنفدت آخر طاقاتي. بالله عليكم أخبروني كيف تُحتَضن الأوطان؟ كيف يُقبَّل جبين المدن المنكوبة؟ كيف تُطيَّب جراح البلدان؟ أي جبر لخواطرنا نحتاجه وأي معاجم تستطيع احتواء كلمات تصف ما يحصل؟ كم من دهر يلزمنا لاستيعاب هذا القهر كله؟
يقول صديقي: "سنحيا بعد كربتنا". أنا أصدّقه وأقولها معه لكني أشعر بالألم الشديد الآن. طلبت مني مرشدتي النفسية التنفس بعمق والمشي نصف ساعة يومياً من دون قراءة أخبار عن الزلزال. عدت إلى عيادتها بعد ساعتين، وتحدثتُ إليها عشرين دقيقةً. ردَّت بِعناقٍ ودمعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...