ليس هناك ثراء وتنوع كمثل الثراء والتنوع اللذين يمكن أن تجدهما في القرية المصرية. تأخذك عيناك على مد البصر لمساحات لا تنتهي من الخضرة، ثم تصطدم بكتل من العلب الطينية الضخمة التي هي منازل أهلنا الطيبين. رائحة الجِلّة "روث الجاموس والبقر" والفِشل "روث الحمار" والبعر "روث الماعز والجمال" تختلط في أنفك برائحة الياسمين واللارنج وأوراق الغوافة وشجر السرو والجزورين، برد الشتاء القارس تتجاوزه مع عذوبة ملمس الندى. قسوة المعيشة وندرة التعليم تستعيض عنهما بدفء الأسرة وجلسات السمر.
هذا هو الريف المصري كما عايشناها في الثمانينيات. وهو نفسه الريف الذي رصده الشيخ موسى أحمد المنسي، مأذون قرية المقاطعة بمحافظة الدقهلية، في مذكراته التي كتبها منذ العقد الثالث حتى العقد السابع من القرن العشرين.
لا تكمن خصوصية الريف المصري في طبيعته الجيولوجية أو خصائصه الجغرافية، إنما في الخصيصة الأساسية التي تمنحه الشارة الذهبية في بطاقة الهوية وهي الناس.
لا تكمن خصوصية الريف المصري في طبيعته الجيولوجية أو خصائصه الجغرافية، إنما في الخصيصة الأساسية التي تمنحه الشارة الذهبية في بطاقة الهوية وهي الناس
الودعاء الطيبون
القيم والعادات والتقاليد والتصديق الكامل في كل شيء والدفاع عما يصدقونه حتى آخر نفس في حياتهم، كل ذلك يحدث دون ترتيب أو تفكير. إنها الحياة بوجهها التلقائي، بأظافرها المعبأة من طين الأرض وشعرها المجعد النافر.
نادرا، ما نجد وثيقة أهلية أو غير رسمية تعبر عن حياة الريف المصري في بدايات القرن العشرين ومنتصفه. الريف الحقيقي الذي هو من دم ولحم ومشاعر. الريف الذي يفيض بثلاثية الميلاد والزواج والموت. ويعيد دورة الحياة في رضا وصبر وتؤدة. لا يلوي ناسه على شيء سوى على السعي والاجتهاد في العمل والرضا بالقدر، والتوجه للسماء بالعبادة والدعاء.
"مصر الريفية" تفيض لنا بسرها من خلال حكايات الجد موسى أحمد منسي. هو جد الدكتور أحمد جمال الدين موسى وزير التربية والتعليم الأسبق الذي قرر نشر تلك المفكرات بكل ما فيها من حياة الريف وتفاصيله البسيطة وعاداته وتقاليده الراسخة وحوادثه الطريفة والخطيرة.
يمكننا بسهولة أن نشم رائحة الزروع وأن نرى انعكاسات ذاكرتنا في مياه الترع، وأن تزهو في أعيننا أشجار السرو والكافور وشعر الست والتوت والجميز، وأن نسير على الطرق الزراعية والمصارف ونتأمل أشجارها الوارفة نبتها الشيطاني بألوانه الخلابة.
يمكننا العودة بالزمن لبدايات القرن العشرين لنتلمس طريقة التفكير ونوع الإحساس وطبيعة المشاعر التي كانت تجتاح الناس البسطاء أو لنقل أبناء الطبقة المتوسطة في ذلك الوقت.
بجهد الباحث وشغف المُجد يذهب الجد إلي مضمار التجارة. نتعرف معه على أسعار البقالة والدخان وسائر السلع التي كانت رائجة وقتها
لوحة "الريف المصري" - الفنان مجدي رياض- زيت على خشب
بواكير التنوير
الجد موسى أحمد منسى كان متعدد الأنشطة. فهو مزارع مُجد. بل ويمكن القول إنه من أصحاب الأطيان، مهتم بالتفاصيل الدقيقة للتقاوي والكيماوي والمبيدات، هو مزارع مثقف يسافر من بلدتهم بمركز السنبلاوين في محافظة الدقهلية إلى القاهرة لرؤية المعرض الزراعي الملكي. كما أنه يتوجه لمشاهدة عرض مسرحي في محل الكسار "علي الكسار" ومرة أخرى يقطع هذا المشوار لمقابلة الأستاذ أحمد لطفي السيد أحد رواد التنوير في بدايات القرن العشرين، المقابلة لم تكن بغرض ثقافي وإنما لإنهاء معاملات مادية مرتبطة بشراء أرض زراعية. ورغم ذلك فالثقافة في الريف كانت حاضرة، يشير إليها الكاتب في ثالوث قروي بمركز السنبلاوين (برقين – المقاطعة – كفر الغنام) برقين التي هي مسقط رأس أحمد لطفي السيد، والمقاطعة هي بلد الشيخ موسى أحمد المنسي - الجد صاحب المذكرات – وكفر الغنام هي بلد الأديب الكبير محمد حسين هيكل. يصف المؤلف هذا الثالوث بأنه يمثل بواكير التنوير في ريف مصر.
بجهد الباحث وشغف المُجد يذهب الجد إلي مضمار التجارة. نتعرف معه على أسعار البقالة والدخان وسائر السلع التي كانت رائجة وقتها.
هو أيضاً إمام القرية وخطيب الجمعة في مسجدها الكبير ومأذونها. ومن عمله في المأذونية يرصد الكثير من العادات والتقاليد والظواهر المهمة في ريف الأربعينيات والخمسينيات، منها زواج القاصرات وشهادات التسنين التي تصدرها الدولة (بعد كشف طبي) لمن يستصدر شهادة ميلاد. ومنها أيضاً شائعة راجت عن اشتراط تأدية الخدمة العسكرية قبل الزواج. ما جعل معدلات الزواج ترتفع في تلك السنة أضعافاً مضاعفة. يشهد على ذلك اختفاء دفاتر الزواج من مركز السنبلاوين كله.
حياة الريف مليئة بالتفاصيل الغريبة. يمكن مثلاً أن تنشب معركة لأتفه الأسباب. ومن الممكن أن تتحول مشاجرة في لعبة الكرة إلى حرب أهلية بين قريتين. هذا ما حدث بين قرية المقاطعة وقرية أبو داود السباخ المجاورة لها. وصل الأمر لدرجة استخدام الأعيرة النارية وتربص أهالي كل قرية بأهالي القرية الأخرى.
من عمله في المأذونية يرصد صاحب المذكرات الكثير من العادات والتقاليد والظواهر المهمة في ريف الأربعينيات والخمسينيات، منها زواج القاصرات وشهادات التسنين. ومنها أيضاً شائعة راجت عن اشتراط تأدية الخدمة العسكرية قبل الزواج. ما جعل معدلات الزواج ترتفع في تلك السنة أضعافاً مضاعفة
كان الجد مهتماً بالتفاصيل الدقيقة لشراء احتياجات مشروعه التجاري. وكذلك لمراعاة أرضه، وفي الوقت نفسه يباشر عمله كمأذون للقرية، ويسرد تفاصيل الملاحظات التي جاءت على عمله كمأذون بخصوص اعتماد شهادات التسنين من مصلحة حكومية بشكل رسمي.
ولا ينسى الجد رصد إنهاء إجراءات الميراث لابنته والإشارة إلى بعض الموظفين "معدومي الضمير" الذين من المؤكد أنهم عطلوا الأوراق بحثاً عن إكراميات أو رُشى.
الكتاب يعتبر وثيقة إنسانية بامتياز. فهو يصف مشاعر الأب نحو فقد أبنائه. يصف المآتم والعادات والتقاليد السائدة فيها. وينتقد المبالغة في تقديم الطعام في المآتم وكيف يكون عبئاً على أهل المتوفى. ويؤكد أنه كان يكتفي بتقبل العزاء على المقابر.
من الحوادث الكثيرة المنتشرة في ريف مصر إبان تلك الفترة سرقة المواشي والحرائق. أحداث كثيرة وصفها الجد تفصيلياً ليضع أيدينا على روح العصر وطريقة الناس في التعامل مع هذه الحوادث. خاصة الحرائق التي يتسابق اهل البلدة إلى إطفائها.
الفترة التي كتب فيها الجد مذكراته وهي منذ عام 1926 حتى عام 1964 قبل وفاته بعدة أشهر تضمنت أحداثاً جساماً. فهناك أوبئة هاجمت المصريين مثل التيفوئيد والكوليرا. هذا الأخير خلدته الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة في قصيدتها الشهيرة الكوليرا. كان كابوساً محققاً يضرب القرى والأماكن النائية. وفي ذلك الوقت كانت الاحتياطات الصحية تلهث للحد من انتشاره بعزل المصابين وإغاثة المرضى. لكن رغم ذلك كان الموتى يتساقطون بأعداد كبيرة جداً في البلدة.
يمكننا أن نتتبع إيقاع التاريخ من الوثائق الرسمية، وأن نصوغ أفكارنا وتصوراتنا عن الريف المصري في منتصف القرن العشرين بطريقة آلية عبر ما وصلنا من تلك الوثائق. والوقوف على نبض الناس وتفاصيل حياتهم اليومية. على معاناتهم وأفراحهم وأحزانهم البسيطة. كل ذلك يتجلى في الهوامش التي يتركها لنا الناس البسطاء الطيبون الذين لا مصلحة لهم في تزييف التاريخ أو تغيير الوقائع. إنما يكتبون ما يحدث لهم وما يمليه عليه ضميرهم. وكأنهم بذلك يلوحون بيدهم عالياً طالبين مقعداً يليق بهم في ساحة الخلود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع