بلغ ابني عامه الثالث عشر، وتورّط في حب كرة القدم مثلما تورطت حين كنت في عمره، وعلى الرغم من ميْلنا المشترك، فإن مصادر ثقافتنا وخياراتنا حول اللعبة ليست واحدة. كنت أحسب أن الفجوة بين الأجيال تتسع في كل الأمور إلا في كرة القدم، فهي جامعة مانعة، لكن ما عشته دفعني للتفكير بطريقة مختلفة.
لا يتابع ابني مباريات الفرق المحلية إلا لو كانت في النهائيات، لا يصرخ في وجوه اللاعبين أمام الشاشات، وبالكاد يحفظ أسماء خمسة منهم يلعبون في المنتخب الوطني.
كنت أحسب أن الفجوة بين الأجيال تتسع في كل الأمور إلا في كرة القدم.
يتفرج بثبات انفعالي يخالف قواعد المشاهدة الأربعين، التي تبدأ بالهتاف وتنتهي باللعنات، وتشمل باقة من الصرخات والشتائم وكل أنواع السباب، كما لا يهتم إطلاقاً بفوز الأهلي أو هزيمة الزمالك، لكنه على أتم الاستعداد لمقاطعتي عدة أيام، لو تجاهلت نتائج مباريات ليفربول أو مانشستر يونايتد، ويرتب مواعيد دروسه كيلا تضيع عليه فرصة مشاهدة مباريات فريق باريس سان جيرمان، بمزاج من يجلس يومياً على مقاهي الرصيف في الـ "سان ميشيل".
قبل أن يذهب حسن إلى النوم، يطمئن من تحت "اللحاف" على أخبار من يحبهم من اللاعبين، وينادي معهم على أولادهم من صفحات تيك توك، التي يتابع منها أرصدتهم في البنوك وآخر صفقات الانتقال، وماركات السيارات التي يشترونها وأسماء المطاعم التي يتناولون فيها وجبات العشاء.
تبدو لي معلوماته أحياناً أفضل كثيراً من أي معلّق رياضي على شاشة الجزيرة الرياضية، ومثل كل الآباء؛ كنت أظنه عبقرياً وباحثاً متميزاً في شؤون كرة القدم العالمية، لولا أنني وجدت رفاقه يعيشون ما يعيش.
في بلد مثل مصر، يئنّ من الفقر، نجح محمد صلاح في تغيير أولويات الأسر، وصارت كل عائلة تسعى لإنتاج نسخة جديدة من "أبو مكة".
تقف الأمهات بالساعات في مدرجات الأندية الصغيرة، ريثما ينتهي الأبناء من التدريب، وكل واحدة منهن تأمل في فرصة للابن، تساعد في انتقاله إلى مصاف "النجوم"، وقبل موسم الصيف يبحث الآباء عن "وساطات" لكي يتمكن أولادهم من خوض اختبارات تؤهلهم للعب في الأندية الشهيرة، ويدفعون الكثير من الرشاوى لأجل بلوغ هذا الأمل.
لم تعد كرة القدم كما كانت على أيامنا، طريقاً للفشل والضياع، إنما أصبحت تماثل ما قصده الفيلسوف هانز غادامير في كتابه عن "الحقيقة والمنهج" حين وصفها بـ"الجدية اللاهية".
غيرت "العولمة" الكثير من المعاني وساعدت في تبدّل الهويّات، واليوم غادر العرب "هامش" اللعبة، وأصبحوا هم ملوكها الجدد، وبفضل فوائض من رأس المال الخليجي، باتوا يتحكمون بـ "المركز" تماماً، ويملكون أكبر نوادي العالم، ويديرون بورصات انتقال اللاعبين بمهارة فائقة، ويأخذون اللعبة كلها إلى حيز الترفيه.
غيّرت "العولمة" الكثير من المعاني وساعدت في تبدّل الهويّات، واليوم غادر العرب "هامش" اللعبة، وأصبحوا هم ملوكها الجدد
قبل أعوام قليلة، كان مجرد التفكير في انتقال كريستيانو رونالدو لنادٍ سعودي ضرباً من الجنون، والحاصل أن بطولة كأس العالم الأخيرة التي استضافتها قطر، أتاحت فرصاً للحوار بين الثقافات تفوق ما كان بإمكان منظمة اليونسكو أن تحققه، فقد لُعِبت المباريات في بلد عربي مسلم، وانتهت بصورة شهيرة بثّتها كاميرات العالم لأشهر نجوم اللعبة وهو يرتدي "البشت" الخليجي.
وهكذا صنع العرب "اللقطة" أو اللحظة الجديدة، ولم تعد كرة القدم في الظل والشمس، كما فكر إدواردو غاليانو ذات يوم، بل راحت في الاتجاه الذي تحدث عنه محمود درويش، حين أكد أن الهويات لم تعد تحيا إلا في الملعب.
قبل أعوام قليلة، كان مجرد التفكير في انتقال كريستيانو رونالدو لنادٍ سعودي ضرباً من الجنون.
درويش نفسه عشق كرة القدم، وتمادى في هذا العشق لدرجة أنه سعى في يونيو/حزيران عام 2008، لتأجيل أمسية عقدت له بإحدى المدن الإيطالية، لأن موعدها تزامن مع مباراة للمنتخب الإيطالي الذي يعشقه منذ أن شاهد أداء باولو روسي في كأس العالم 1982، إبان حصار بيروت، كما ذكر في "ذاكرة للنسيان". وعندما حاول صاحب "سرير الغريبة"، تأجيل أمسيته والاستمتاع بشعر يؤديه روبرتو باجيو داخل الملعب، أكد المسؤولون له استحالة ذلك، لأن تذاكر الأمسية قد بيعت والقاعة محجوزة، ولم تنجح أبداً محاولات الشاعر لمشاهدة المباراة.
ومهما راجت آراء لبعض المثقفين تحتقر اللعبة، فإن المؤكد أن كرة القدم تملأ الدنيا وتشغل الناس وتصنع السياسات والفلسفات، وحين أراد الفيلسوف الفرنسي الأشهر جان بول سارتر التأمل في طبيعة التنظيم، لم يجد أفضل من كرة القدم، وضرب أمثلة بما يقوم به اللاعبون فيما وصفه بـ"الممارسة"، ناظراً في فكرة مركزية تحكم اللعبة، وهي "الطبيعة التعاونية" الكامنة في كلمة "الفريق".
فكل لاعب، مهما بلغت مهارته، هو فرد في كل الأحوال، لكنه مندمج مع فريق ومتجاوز له في آن، ومن ثمَّ لا يمكن تقييم أي مباراة دون النظر لقدرة الفريق على تهذيب الأداء الفردي وصهره في بنية تنظيمية متجانسة.
أخيراً، نشرت دار "مدارات للأبحاث والنشر" ترجمة عربية لكتاب بعنوان "فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم"، تأليف البروفيسور سايمون كريتشلي، وهو أكاديمي بريطاني يعمل أستاذاً للفلسفة في الكلية العليا الأوروبية بسويسرا، ويشغل كرسي هانز يوناس للفلسفة، في المدرسة الجديدة للبحوث بنيويورك.
يساعد الكتاب (ترجمه الدكتور محمود عبد الحليم) في التفكير بجدية في أمر كرة القدم، والتأكيد على أنها ليست شيئاً منحطاً أو سوقياً لا يجوز للفلسفة أن تهتم به، ومن ثَمّ يسعى من خلال استعمال المفاهيم والنصوص الفلسفية لتأكيد تناغم تلك النصوص مع "تجربة كرة القدم"، التي تُعاش كفضاء للمتعة والفرجة في آن واحد، بالإضافة إلى ضرورة التفكير فيها كنص قابل للتأويل.
تنعم علينا مشاهدة مباراة كرة قدم بحرية غريبة في الكلام، ومن ثم فهي فضاء لـ "حرية التعبير"
حبس الزمن
لا توجد "آنية" مع كرة القدم، إذ إن كل سمة من سماتها هي بمنزلة وسيط، وهذا الوسيط لا يصدر عن آنية مفترضة، وهي هنا تتشابه مع السينما، كلاهما حقيقي وغير حقيقي خلال زمن العرض.
والزمن خلال اللعب أو البث المباشر يمكن "أسره" حيث يصبح الجميع في حالة استغراق، ويكون ما نعيشه ساعتها هو التوقيت الذي يضعه وليام جيمس ضمن "أعياد الحياة". إنه شيء أشبه بتجربة سرية، نرتقي عبرها فوق حياتنا اليومية إلى ذروة النشوة والحسية.
لذلك لا يمكن فصل طقس اللعب عن الجمهور، فكل مباراة بدون جمهور هي عقوبة كاملة، لأن مفتاح إدراك مكانة اللعبة وتأثيرها العارم مرتبط بالتفاعل المعقد الذي يتشكل داخل الملعب، والقاعدة هي: أن اللعب موجود من أجل المتفرج الذي يمر بلحظات تطهير، تماثل ما أشار إليه أرسطو ضمن كتابه "فن الشعر" خلال حديثه عما تخلقه الدراما في نفوس المشاهدين.
بفضل النشوة التي تشملها اللعبة، يصبح اللاعبون والمتفرجون، على حد سواء، أسرى الكثير من الطقوس والممارسات الغريبة التي تدفع الجميع لاستعارات من عالم "الدراما"، وفي المباريات التي تؤدي فيها المنتخبات يتطوّر الأمر لتصبح كرة القدم مسرحاً للهوية، وصورة من صور تمييزها، وإن كانت تخلق أحياناً وطنية "مثيرة للسخرية"، وتنمّي شوفينية لا طائل من ورائها.
لا توجد "آنية" مع كرة القدم، إذ إن كل سمة من سماتها هي بمنزلة وسيط، وهذا الوسيط لا يصدر عن آنية مفترضة، وهي هنا تتشابه مع السينما: كلاهما حقيقي وغير حقيقي خلال زمن العرض
تنعم علينا مشاهدة مباراة كرة قدم بحرية غريبة في الكلام، ومن ثم فهي فضاء لـ "حرية التعبير"، تمنح جرأة في استعمال اللغة تصل حد البذاءة، وكما يقول المؤلف: "الحماقة في كرة القدم لا قعر لها"، وفي المقابل، تنمو نزعة شعرية تبدأ من الوصف الذي يقدمه الجمهور لكل مباراة مثيرة بصفتها "جميلة".
يستعين المؤلف بالمنهج الظاهراتي أو "الفينومينولوجي"، الذي يدرس خبرة الوعي بالأشياء، وخبرته بذاته بحثاً عن شعرية المكان والزمان ودراما الحياة التي تشيعها ممارسة اللعبة أو مشاهدتها، تحت سطوة تقارب مفهوم "القلق الوجودي"، حيث يمكن أن تنقلب التوقعات وتتغير كل الحسابات.
ينصح المؤلف الآباء، أمثالي، بمشاهدة المباريات مع أولادهم، حيث تحث لعبة كرة القدم على التأمل والاستغراق الفلسفي أكثر من غيرها من الألعاب الأخرى في فكرة التعاون، لأن إيقاعها متفرد، فهو ليس متقطِّعاً كما في لعبة البيسبول، إنما يأتي سلساً ويتدفق كموجات تغمرنا بمشاعر متناقضة.
هناك بُعدٌ آخر يتعلق بتأويل المكان عبر خبرة المشاهدة، حيث نسلم قيادنا للحاضر تمام التسليم، وفي ظل تلك اللحظة ينمحي الماضي تماماً.
يؤمن سايمون بأن كرة القدم، كما ذهب كثيرون، هي امتداد طبيعي للحرب لكن بوسائل أخرى، ومن الواضح أن تلك الوسائل ذات طبيعة قتالية، فالهدف من اللعب في النهاية هو تحقيق الانتصار.
ينصح المؤلف الآباء، أمثالي، بمشاهدة المباريات مع أولادهم، حيث تحث لعبة كرة القدم على التأمل والاستغراق الفلسفي أكثر من غيرها من الألعاب الأخرى في فكرة التعاون
الانتصار للجماعة
مثلما انشغل سارتر بفكرة الفريق، فإن سايمون يعطي أولوية لما تسهم الطبيعة التعاونية للعبة في تنميته بين اللاعبين، من فضاءات لـ"الألفة"، تتجاوز حيز المستطيل الأخضر وتتمدد خارجه، وينظر في مكاسب التنوع الثقافي الذي توفره آفاق الممارسة الاحترافية للعبة، ويرى أنه مع تنامي التعددية اللغوية للاعبين وتعدد خلفياتهم الثقافية، فإن السؤال الذي يشغلنا لا بد أن يدور حول الموضوعات التي تشغل تفكيرهم بحثاً عن "المشترك الإنساني" الذي يجمع بينهم.
ويستعيد سايمون كريتشلي الكثير من التعبيرات الماركسية حول ما يسمى بـ"الرابطة الحرة"، معتقداً أن كرة القدم تمثل اليوم ما قصده ماركس في حديثه عن "حركة الرابطة الاجتماعية".
ويعزو الكتاب اهتمام فئات كثيرة من الناس باللعبة إلى قدرتها على تنمية الإحساس العميق النابض بالحياة، وبحاجة الإنسان للانتماء إلى جماعة، لذلك تبدو الأفكار الاشتراكية، كما يقول، أكثر ملاءمة لكرة القدم، ويتوسع في ذمّ مختلف صور "الهيمنة الرأسمالية" عليها، حيث يتحكم في اللعبة عالمياً رأس المال الملوّث، ومؤسسة "الفيفا" التي يسيطر عليها الفساد.
يحذر الكتاب من "حرمان الفقراء" من حقهم في ممارستها، ويقول: "في اللعبة بُعد مقدس يأتي من عادية اللعبة وحماقتها المقطوع بها"، وبفضل هذه العادية أصبحت الكرة هاجس الجميع .
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين