شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
قرابين لغضب الله أم ضحايا للعبث بالطبيعة؟

قرابين لغضب الله أم ضحايا للعبث بالطبيعة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والخطاب الديني

الأربعاء 15 فبراير 202312:10 م

في الحضارات القديمة وفي الديانات الكثيرة، يُعدّ القربان ركيزة أساسية لا يمكن أن تكتمل الديانة أو الأسطورة دونه. لنتخيل أن أمنحوتب الثاني كان يقول لسكرتيره: "هيا اذهب إلى بيت سسن فو، واحضر لنا ابنته الجميلة، نريد أن نرميها في النيل". لم يكن السكرتير ليعترض لأنه يعرف أن فيضان النيل نتيجة لغضب الإله، والإله لا يرضى إلا إذا قدّمنا له قرباناً جميلاً.

لم يتحدث أحد، على الأقل عبر منابر إعلامية أو وسائل تواصل، عن أن يسوع غضب من سكان مدينة لوركا الإسبانية فأرسل لهم زلزال 2011. 

لن يعترض أحد ولن يؤثر في قلب أحد صراخ البنت الجميلة وهي تقاد إلى حتفها. سسن فو سيبكي ابنته، وسسن فا الأم سيصيبها الجنون على فراق وحيدتها. لكن من يبالي؟ المهم أن الإله الغاضب رضي. لنتخيل أيضاً أن شخصاً ما جاء إلى أمنحوتب الثاني وقال له: "ما هذا الهراء الذي تقوم به يا رجل، النيل فاض لأن الأمطار فوق بحيرة فكتوريا غزيرة هذا الموسم، وليس لأن الإله غضب منا". سيكون نصيبه الرمي في النيل بتهمة الهرطقة والتجديف على الآلهة.
السومريون أيضاً قدموا القرابين، لكن يبدو أن إلههم كان "فيجيتيريان" ويكتفي بسلة فاكهة، والبابليون كذلك والأكاديون والأنباط والسيخ والبوذيون. الفايكنج كان إلههم غاضباً دوماً ولا يكتفي إلا بالدم. اليهود أرضوا إلههم بالكبش الذي حل محل إسحق، والمسلمون بذات الكبش الذي افتدى إسماعيل، أما المسيحيون فأرضوا إلههم بالنبيذ.
في كل حضارة وكل ديانة هناك إله يغضب وهناك قربان يقدم، وكان هذا طبيعياً قبل العلم.
ما هو العلم؟ هو باختصار، ودون تنظير كبير وفذلكات زائدة، البحث عن السبب الحقيقي الذي يقف خلف ظاهرة ما، وإيجاده، ثم إخضاعه للبرهان.
في أواسط القرن التاسع عشر اجتاحت الكوليرا مدينة لندن، في ذلك الوقت كان الفهم الطبي للأوبئة محصوراً في نظرية الهواء الملوث القادم من جهة غامضة، لأسباب أسطورية غامضة، يقف خلفها غضب ما لإله لم تعجبه خطايا البشر. لكن طبيباً يدعى جون سنو لم يكن مقتنعاً بهذا الفهم، وقرّر أن يتتبع تفشي المرض، بالرجوع إلى بدايته مع أول حالة، ومع البحث والتقصي توصل إلى أن مياه المجاري تتسرّب إلى مضخة المياه الموجودة في شارع برود، والتي يشرب من مياهها سكان الحي.

الجاهل هو ذلك الشخص الذي يرفض التعامل مع المعارف العلمية لأن الأسطورة بالنسبة له أسهل، وجالبة للاطمئنان أكثر

البحث الدؤوب لهذا الطبيب أحال المرض إلى مسبب جرثومي، وصار المسبب الأسطوري السابق مضحكاً في أفضل الأحوال. مثله فعل الألماني روبرت كوخ مع السل، وقبله الإنجليزي إدوارد جينز مع الجدري. مع هذه الاكتشافات وما رافقها في العلوم الأخرى تحول العالم في القرن التاسع عشر، من الفهم الأسطوري للأشياء إلى الفهم العلمي المبني على السبب والنتيجة.

مع انتصار العلم صار لمصطلح "جهل" دلالة واضحة، مستندة أساساً على نمط تفكير أو تصرف كل من يريد العودة إلى الوراء. الجاهل ليس شخصاً لا يعرف، أي بمعنى أن عقله صفحة بيضاء لم تلونها المعارف، بل هو ذلك الشخص الذي اكتسب مجموعة من المعارف التي لا تصمد أمام أي امتحان. وهو ذلك الشخص الذي يرفض التعامل مع المعارف العلمية لأن الأسطورة بالنسبة له أسهل، وجالبة للاطمئنان أكثر. وهو ذلك الشخص الذي يستأنس بالجماعة التي تمتلك نفس المعارف التي يمتلكها، ويخاف بالتالي أن يفقد عضويته في هذه الجماعة، لو هو قرر يوماً ما، أن يفتح في رأسه شباكاً للتهوية. وأخيراً، هو ذلك الشخص الذي ينكر وجود أية اختراعات، أو اكتشافات، أو فلسفة تتعارض مع ما قيل له في كتب الفقه.
ومع انتصار العلم، أيضاً، اختفت القرابين وقل غضب الآلهة. لم نعد نسمع عن غضب الإله "ثور" إن انهار جبل جليدي في الدانمارك أو النرويج. ولو وقف أحد أحفاد الفايكينج وقال هذا الكلام، فلا بد أنه سيقابل بالسخرية في أفضل الأحوال.

مع انتصار العلم، أيضاً، اختفت القرابين وقل غضب الآلهة. لم نعد نسمع عن غضب الإله "ثور" إن انهار جبل جليدي في الدانمارك أو النرويج

لم يتحدث أحد، على الأقل عبر منابر إعلامية أو وسائل تواصل، عن أن يسوع غضب من سكان مدينة لوركا الإسبانية فأرسل لهم زلزال 2011. على العكس من ذلك، فقد قامت الحكومة بتقنين ومراقبة الآبار الارتوازية في المدينة، والتي دارت حولها الشكوك بالتسبب بالزلزال. قيل يومها إن الاستهلاك المفرط للمياه الجوفية أخلّ بتوازن الضغط تحت الصفائح الزلزالية، وتسبب بكسرها على عمق كيلومتر، فحدث ما حدث.
في زلزال الصين المرعب عام 2008 والذي راح ضحيته ثمانون ألف إنسان وأكثر من نصف مليون مصاب، لم يوجه أحد أصابع الاتهام لإله غاضب، بل جرى وما زال يجري البحث العلمي حول مسؤولية سد زيلوودو العظيم في تلك الكارثة. قيل ويقال إن ثلاثمائة وعشرين مليار طن من المياه تضغط فوق القشرة الأرضية وتتسرب في شقوقها، قد تكون أخلت بتوازن الضغط وتسببت بالزلزال. لم يحسم العلم الأمر بعد، ولم تتوصل الأبحاث إلى إجابة شافية ونهائية، لكن الطريق الذي يتم السير فيه لحل المعضلة هو الطريق الصحيح في كل الأحوال، وهو الطريق الذي ستنتظرنا، في نهايته، الإجابة.

تتقدم البشرية بنسب الأحداث إلى مسبّب، وعلينا أن نسلك الطريق الذي يبحث فيه غيرنا عن المسبّب. غير ذلك سنظل نتسمّر أمام شاشات التلفاز كلما ألمّت بنا مصيبة، نبكي على الضحايا ثم نشتم الماسونية ونستغفر الله، وننتظر دورنا

لكننا لا نسير في هذا الطريق كبقية أمم الأرض، وما زلنا نصرّ أن إلهنا بهذه القسوة، ولا تتحكم به إلا مشاعر الغضب تجاهنا، فيمطرنا بالكوارث. حتى أولئك الذين اعترضوا على القائلين بغضب الله، لم يعترضوا على الفكرة بجوهرها، بل اعترضوا لأن الغضب لا يمكنه أن يتوجه نحو شعوب مؤمنة، ناهيك أن جزءاً منها يعاني ويلات الحروب واللجوء والتشرد. لقد احتجوا بأن الله لا يمكن أن يغضب على هؤلاء المساكين ويزيد من بلواهم. أما لو كانت هذه الكارثة في بلد كافر فإن النظرية ستكون مكتملة الأركان، ولن تجد من يعارضها إلا القلة القليلة من العُصاة.

إحالة الكوارث لغضب إلهي، يعفي أصحاب القرار من المسؤولية عن الحدث وعن نتائجه الضخمة.

ولو قررت أن تقول لواحد من أصحاب هذه النظرية، إن أكثر الزلازل وأعظمها حدث في العصر الجليدي، وأنه لم يكن ثمة بشر على الكوكب، ولم يكن من مبرّر أو موضوع للغضب، فربما ستحصل على إجابة لا تتعدى إنكار وجود العصر الجليدي برمته.

هكذا مواطن هو، بلا أدنى شك، ذخر للدولة مهما كانت هذه الدولة. فإحالة الكوارث لغضب إلهي، يعفي أصحاب القرار من المسؤولية عن الحدث وعن نتائجه الضخمة. يعفيهم من البحث في كمية السدود المقامة على بقعة جغرافية خطرة، ويعفيهم من الرقابة على الأبنية، وعلى المقاولين الفاسدين، ويعفيهم من السؤال حول كفاءة الإغاثة والإنقاذ، ويجعل من الترحّم على الضحايا، مهمة مقدسة للمسؤول، إن قام بها فنحن بخير.
تتقدم البشرية بنسب الأحداث إلى مسبّب وليس بنسب الأفعال إلى فاعل، وعلينا أن نسلك الطريق الذي يبحث فيه غيرنا عن المسبّب. غير ذلك سنظل نتسمّر أمام شاشات التلفاز كلما ألمّت بنا مصيبة، نبكي على الضحايا ونطلب لهم المغفرة، ثم نشتم الماسونية ونستغفر الله، وننتظر دورنا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard