ابتداء من عام 2011 ولمدة ثماني سنوات متتالية، بدأ الغرام العالمي غير المفهوم بسوريا والسوريين، وبدأ "عتاة" العشّاق يدبجون القصائد الغرامية ويصنعون "محتوى" للسوري المذهول من وطأة الاهتمام ودفء المشاعر الذي يصله عبر التلفزيونات والبيانات العاطفية. وصل السوري للـ "أورغازم" لكثرة المشاعر الساخنة التي انهالت، مرفقة بتأوّهات غربية على طريقة ممثلي البورنو.
أوباما وساركوزي وماما ميركل، حمد بن خليفة وخادم الحرمين الشريفين، وغيره من الخدم الآخرين، حتى نتنياهو الذي يقصف السوريين يومياً، بدا وقتها عاشقاً ملتاعاً، يذوب حباً بالسوري، وبشنكليشه وزعتره وزيته ودموعه. وبوتين وخامنئي وجميع "الأعمام" الكبار يقصفون السوري ويبكون، يدمّرون جسوره وأبنيته ويبكون، يحرقون زرعه ويبكون، يقتلون أطفاله ويبكون، حتى ظننا أن المطر ينشأ من بكائهم، والشمس تشرق بنور حبهم، حتى كدنا نصدق أنهم يفعلون هذا لأجلنا، لأجل محبتهم لنا وإيمانهم بنا، لأجل قراءتنا للفاتحة مليون مرة، على مختلف ضروب التلحين الموسيقي. قلنا: "أخيراً عرفوا أننا بشر مثلهم، ليس مهمّاً التأخير، المهم أنهم وصلوا".
داخ السوري "دوخة أجراس" وهو يتلقى الدباديب وباقات الزهر والرسائل المعطرة والقبل الساخنة على الهواء، ولو تخلل تلك الهدايا بعض المتفجّرات والذخائر الحية. كان يحلم بربع اهتمام وفجأة انقلب العالم كلّه اهتماماً وحباً، بدأ الجميع بالتباكي من ألم الفراق والرغبة باحتضان السوري، وربما بتقبيله أيضاً من فمه الجاف كقشر برتقال بائت. فرحنا، ارتدينا موتنا الجميل، وضعنا العطور الشرقية على رقابنا وسلّمناها لعشّاقنا المتيمين.
أوباما وساركوزي وماما ميركل، حمد بن خليفة وخادم الحرمين الشريفين، وغيره من الخدم الآخرين، حتى نتنياهو الذي يقصف السوريين يومياً، بدا وقتها عاشقاً ملتاعاً، يذوب حباً بالسوري، وبشنكليشه وزعتره وزيته ودموعه
ثم فجأة، انتهى شهر العسل السوري، الصراحة أنه استمرّ وقتاً ليس بالقليل، لكنه انتهى بغتة إلى طلاق بائن، دون عقد زواج يحمي حقوق أي أحد، وكان على السوري أن يجمع حوائجه والأطفال الذين أنجبهم خلال شهر العسل الطويل هذا، في مخيمات لبنان والأردن وتركيا، ويعود. إلى أين؟ ليس مهمّاً، المهم أن يخرج، فهذا ما يريده الزوج الغاضب: إلى أحضان الطاغية، إلى قوارب الموت، إلى حروب أخرى تصنعها الطغم المالية نفسها التي صنعت حربه، إلى الجحيم، إلى حيث ألقت... المهم أن يترك هذه المساحة التي احتلّها بصرر ثيابه وصرر دموعه وصرر دعواته المستمرّة: "يالله ما لنا غيرك".
لكن الله كان قد غادر مسرعاً هذه المنطقة. قال لنفسه: "ماذا أصنع بكل هذا الرجاء الذي يتصاعد من قلب المذابح، من فم الذابح والمذبوح، وماذا أفعل في بلد كل من فيها رب صغير، بملائكة مستوردين أو بقاعدة أميركية، وقدرة أن يحيي ويميت؟ القاتل يستعين بالله والمقتول يسبّح بحمده، وهم بدل أن يلعنوا الفقر الذي جعلهم يحاربون بعضهم، يلعنون بعضهم، وبدل أن يغسلوا دماء المجزرة، يعدّون السكاكين لمجزرة جديدة، فـ(ماذا أصنع بالفقر وماذا أفعل بالمجزرة؟)". ثم غادر إلى غير رجعة، والآن حين تأتيه الأخبار من تلك المنطقة، يشيح بعينيه ويتشاغل بكوارث في مناطق أخرى، أهلها أقلّ نفاقاً وأكثر رحمة ويقرأون الفاتحة أكثر منا.
******
حصلت الكارثة، وكانت هذه المرّة مشتركة بين سوريا وتركيا، بعد عشر سنين من "كارثة" حصرية لم يشاركنا فعلياً في تحمّل تبعاتها أحد، إلا ما يخفي عواقب تأنيب الضمير الخفيفة ويخدم الخطط الخفية، وصرخ الأخوة العرب وجعاً لكارثة الألم التركي، بينما بالكاد تدبرّوا دمعة أو اثنتين على السوري، فنحن شعب معزول: عزلنا الطاغية، وعزلتنا العقوبات على الطاغية، عزلنا فقرنا وجهلنا وحسابات السياسة غير السياسية، عزلتنا فكرة أن الله معنا، ونحن شعب مخطوف: خطفنا الطاغية، وخطفتنا التحالفات الإقليمية، وخطفنا بؤسنا وطمع أولاد العم.
الله غادر مسرعاً هذه المنطقة. قال لنفسه: "ماذا أصنع بكل هذا الرجاء من فم الذابح والمذبوح، وهم بدل أن يلعنوا الفقر الذي جعلهم يحاربون بعضهم، يلعنون بعضهم، وبدل أن يغسلوا دماء المجزرة، يعدّون السكاكين لمجزرة جديدة، فـ"ماذا أصنع بالفقر وماذا أفعل بالمجزرة؟"
ثم توالت "التحليلات" مع استفهامات كبيرة: "هل سيستفيد بشار الأسد من هذه المساعدات؟ هل فتح قنوات لنصرة المنكوبين يمكن أن تترجم انتصاراً لبشار الأسد؟ نخشى أن تصبح هذه المساعدات وسيلة للتطبيع مع نظام الأسد"، وغير ذلك من القيء المسال على هيئة "تحليل استراتيجي".
في النكبات لا أحد يجب أن يسأل مثل هذه الأسئلة، في الزلازل والكوارث لا يجوز تقديم المساعدة المشروطة والحب المشروط. فعلتموها في ثورة كانت بريئة فحوّلتموها إلى حرب طائفية وتصفية حسابات مع إيران الشيعية وبشار الأسد العلوي. مئات الضحايا كان من الممكن إنقاذهم، مئات الأطفال كان من الممكن أن ينعموا بالهواء اليوم، مئات الأشخاص مازالوا حتى اليوم، بعد خمسة أيام على الكارثة، تحت الأنقاض ينتظرون من ينتشلهم، بينما ينشغل البعض: هل سيشرب بشار الأسد من زجاجات المياه التي سنرسلها؟ هل سيغطي قدميه العاريتين بالبطاطين؟
ياللقرف، يالسخف البشرية، ياللعنصرية العربية عندما تتغطى برداء التحليل الاستراتيجي وحسابات السياسة، ياللموت محمولاً على اسم السوري ومغطى بردائه.
هناك شعب يموت، تحت الأنقاض وتحت وطأة الشتاء والبرد، هناك عائلات بأكملها دفنت تحت الركام، كان يمكن إنقاذهم، فيهم الصالح والطالح، الشجاع والخسيس، البطل والنذل، هل نمتنع عن مساعدتهم بسبب حسابات السياسة والطائفة والتحالفات السياسية؟ هل نسأل الموشك على الموت عطشاً إن كان مع بيبسي الأسد أو مع كوكاكولا الثورة؟ يالسخفكم السخيف.
لما لا تدعون السوري وربّه، وقتلته، وسارقي قوته ودمع أطفاله، وظالميه وسجّانيه؟ دعوه، لا تدعموه تنفيذاً لأحقادكم ومخططاتكم البائسة، ولا تهدوه إلى الرب فهو من اخترعه. لقد عاش مئات السنين برفقة الوحوش وتدبّر أمر حياته رغماً عن كل شيء، وعندما استبشر خيراً بدعم ثورته كانت تنفيذاً لمكركم وخططكم الخاصة، فتحوّلت ثورته لمقتلته وتحول حلمه لجحيمه.
هناك شعب يموت، تحت الأنقاض وتحت وطأة الشتاء والبرد، هناك عائلات بأكملها دفنت تحت الركام، هل نسأل الموشك على الموت عطشاً إن كان مع بيبسي الأسد أو مع كوكاكولا الثورة؟ يالسخفكم السخيف
دعوه السوري يبكي وحيداً ويدفن قتلاه، فوالله ما كنتم إلا قتلة إضافيين طوال هذه السنوات وأنتم تدّعون حبّه وخوفكم على حياته، وما كانت قصائد الغرام التي تباكيتم بها على المنابر وفي البيانات إلا نعيب ينعي مصيره.
ماذا نفعل كي يتعاطف معنا العالم، نحن فحسب، بأي اسم ننادي أنفسنا؟ لسنا سوريين إن كان الأمر ينجينا من كوارث الدم، لسنا مسلمين إن أرضى الغرب إلحادنا، لسنا أحداً إن كان الأمر ينجينا من مصير الموت. متنا آلاف المرّات، في الحرب، في البرد والجوع، في قوارب الموت، في كوارث الطبيعة، ورغم ذلك لم نلق التعاطف الذي يفيد، كبشر قبل كل شيء، يتعاطفون معنا إن كنا مسلمين فحسب أو مسيحيين فحسب، متفقين معهم فحسب أو خدماً لمؤامراتهم فحسب، فيرسلون لنا أدعية الزلازل والأيقونات والأناجيل الخشبية والمصاحف المطبوعة على نفقة كلاب الله وخدم حرمه الشريف، ماذا نفعل لنحصل على تعاطفكم الحق، هل نسوق لأنفسنا على أمازون؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع